أصداء

بيت لحم الواقع والمتخيل

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

الى متى سيبقى الوطن المتخيل أجمل من الواقع؟ ها هي الحال مع مدينة بيت لحم الفلسطينية..المدينة الحبيسة بين الحواجز اللامتناهية والجدار الفاصل..لا غاد ولا رائح.. حتى العصافير فيها بحاجة الى تأشيرة دخول، مع المعذرة لنزار قباني في"العصافير لا تطلب تأشيرة دخول".
مشيت في شوارعها المحفورة الحزينة في نهار حار جاف، كانت المدينة شبه خالية سوى بعض السابلة،وهدير سيارات يمزق الصمت الذي يلفها.

بيت لحم المغارة والمذود والسيد المسيح، والنجمة التي هدت المجوس الى الطفل مع أمه مريم "فجثوا له ساجدين،ثم فتحوا
حقائبهم وأهدوا اليه ذهبا وبخورا ومرا "(انجيل متى 2/11)،
تعيش هذه المفارقة السريالية،فهي مكفهرة الوجه،تبحث عن ذاتها في شظايا المرايا،تبحث عن أهلها الذين هجروها الى أصقاع الغربة.

مدينة الأديرة والنجمات المتلألئات والحواكير،والكروم المنثورة بالزيتونات وأشجار الرمان واللوز تتألم..يلفها الحزن ويطويها الفقر. حتى سوق المدينة يرون فيه الصمت،وتلفه السكينة ألا من أصوات بعض النسوة اللاتي تعبن من حمل سلالهن المثقلة بالعنب والكرز والبقول والخضراوات والمرامية والنعناع..
وفي الطرف الثاني للسوق تتسمر عربات بائعي العصير وحليب جوز الهند.
جلست في مقهى ضيق هربا من حرارة الطقس، ولارتشاف فنجان قهوة...هبت نسمة رطبة عابقة برائحة البخور المحروق في كنيسة المهد..وعلا صوت فيروز "مشيت في الشوارع.. شوارع القدس العتيقة.. " المنبعث من مذياع في حانوت قريبة..تذكرت أن للمدينة أسماء مختلفة وجوهرا واحدا.

بيت لحم مدينة مشظاة.. ينهشها الفقر، معزولة عن الدنيا،أشبه بصومعة في صحراء.

بيت لحم تمتد في أعماق الزمان، منها صدحت الترنيمةالملائكية والتسبيحة السماوية:

المجد لله في العلى
والسلام في الارض
للناس أهل رضاه" (أنجيل لوقا 2/14)

تنشد السلام في الأرض ولا سلام !!
تبحث عن الدروب المفضية الى النور،وسط جدار الفصل،ولا نور !!
بيت لحم تنادي ولا مجيب!!

المدينة تتسمر على خشبة الصليب،وصوت فيروز "الطفل في المغارة وأمه مريم وجهان يبكيان" ينثال من عينين قمحاويتين لصبية تلحمية خرجت للتو من حانوت ملابس مجاورة للمقهى.

كان فنجان القهوة طيبا عابقا ب الهيل والبخور المحمول مع النسمات الباردة..وزاد من طيبته صوت فيروز المجبول بثنائية الهم والفرح، الموت والميلاد.

تذكرت جبرا ابراهيم جبرا و"كوز الجرارة" مكان ولادته،القريبة من هنا. تذكرت"البئر الأولى"وأشخاص رواياته"جميل فران"
و "وديع عساف"و "وليد مسعود"..تخيلتهم واحدا واحدا يسيرون من منفاهم في شوارع بيت لحم،ترى ماذا سيقولون عن بيت لحم اليوم،هل سيعرفونها؟ وهل سيصدمون! وهم الذين حملوا ذكرياتهاعربونا للعودة.
ألم ير فيها "وليد مسعود" حيز وجوده ومكانه المتخيل:
"كنت أرى الناس جميلين،واشعر بقسوة العالم عليهم، وهم يقاومون على مهل،ولا يرضخون.أمشي حافيا،أتجول مع رفقتي في دنيا أشبه بدنيا أول الخليقة: دنيا أراها مليئة بالأصوات والأنغام،فنسير كقطيع من الغزلان الهائمة من أول "رأس فطيس" الى ساحة المهد، ومنها ننزل الى" القناة "
الفائضة ابدا، المستجيبة أبدا للصبايا المتصايحات المزدحمات حولها، وقد شمرن أطراف أثوابهن الفضفاضة المطرزة عن سيقان كالعاج، ليملأن التنكات والجرار- ومنها ننحدر الى الهندازة، ثم نصعد في الطريق الضيق الذي تنضح منازله الحجرية بحس الأزمان الغابرة، وروائح الدواب والجمال،ونذهب الى المدبسة في ظل جرسية الألمان المخروطية الشاهقة ونتجه نحو الدهيشة الممتدة بيوتها الكبيرة المتناثرة بين تلال الزيتون والصنوبر، فتستقبلنا الريح بعصف شديد وصفير...... ثم نعود، وقد نال منا تعب لذيذ،ألى بيوتنا المتلاصقة،لنأكل خبزا شهيا ممسوحا بالثوم والملح،وينتظر كل منا عودة أبيه من العمل ". (البحث عن وليد مسعود،ص 183).

و بيت لحم في نظر عيسى ناصر،الشاهد على موت مسعودالفرحان،قطعة اجتزئت من الجنة:
" كانت بيت لحم تبدو لي أنها اجتزئت من الفردوس،ولكنناما عدنا نسمع فيها تلك الأيام الا اخبار الوفيات.القديسين، والأعياد،والموتى.واذا جاء عيد الميلاد،بنواقيسه وترانيمهالمفرحة،لم يكن اكثر من زخة مطر وجيزة فيها بضع بذور للحياة،في شتاء قاحل أجرد يدوم طوال السنة..."(ص 91)

و بيت لحم في "صيادون في شارع ضيق" هي مدينة الربيع الجميل،هذا ما تحمله رسالة يعقوب المؤرخة "بيت لحم-10
نيسان 1949،الى أخيه "جميل فران" المقيم في بغداد :
أخي الحبيب،لم نشهد في الماضي ربيعا أجمل من هذا الربيع.فقد أزهر اللوز في كل أنحاء البلدة غضا مرحا،حتى لتجعلك ترغب في القفز الوحشي والضحك..." (صيادون، ص 139).

شربت فنجانة القهوة حتى الثمالة،وكانت رائحة البخور والنعناع والغبار المشحونة بعمق الزمن تملأ السوق،استوقفتني أمرأة طالبة مني ان أشتري ما تبقى في سلتهامن باقات المرامية،وزجت في حقيبتي ثماني أضمامات مقابل خمسة شواقل، وعدت الى باحة جامعة بيت لحم للمشاركة فيما تبقى من ندوات،كان حديث الطلبة وجدالهم في الساحة الملآى بالأزاهير والأشجار الجميلة يعطي طعما جديدا للحياة،ويملأ القلب مسرة وحبورا.دخلت قاعة المؤتمر،وكانت رائحة المرامية المنبعثة من حقيبتي تتضوع في القاعة..فتذكرت الطفل والمغارة وأبطال جبرا وبائعة المرامية،وعمق المدينة في الزمن.

سمير حاج

الجليل
e-mail :
sharbil1908@yahoo.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف