أصداء

نمـورٌ أم جـراءٌ أسيوية?

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

بعد أكثر من نصف قرن من العمل الحزبي والسياسي، أستطيع أن أؤكد بكل ثقة أن جميع " الماركسيين " الذين صادفتهم واتصلت بهم خلال كل هذه الفترة الطويلة لم يكونوا إلا ماركسيين بالإيمان. أعجبتهم بعض الأفكار التي تداولها العامة عن الماركسية فآمنوا بها دون دراسة أو تحقيق فيما إذا كان حقاً لمثل هذه الأفكار أية أصول في الماركسية ـ وليس لها في الغالب! هؤلاء المؤمنون بالماركسية فقدوا إيمانهم بها حال انهيار مشروع لينين في الإتحاد السوفياتي. ولأنهم آمنوا بالماركسية دون أن يتحققوا من حقيقتها انهار إيمانهم، ولأنهم أيضاً آمنوا أن خلفاء لينين كانوا جميعاً ماركسيين كما كان لينين ـ آمنوا بذلك دون أن يتحققوا منه!

أنا لا ألوم هؤلاء الكفرة بالماركسية إلا الذين استعملوا كفرهم في خدمات بورجوازية متعفنة وقد تحولوا إلى ممتهني سياسة. لا ألومهم كثيراً وذلك لأن الماركسية بفصولها الفلسفية والإقتصادية والسياسية نظرية معقدة ـ إن جاز أن نسميها نظرية وهو لا يجوز. لأن الماركسية هي حقاً " نظرية " الحياة فلا بدّ إذاً من أن تعكس تعقيد الحياة. حقيقة الماركسية هي مثل حقيقة الزمن حيث لا يجوز في حال من الأحوال القول بالإيمان في الزمن طالما أن الزمن حقيقة مطلقة وسابقة على فعل الإيمان، بل إن مكوّن الزمن الوحيد هو الحركة في الطبيعة التي على أساس قانونها العام، الديالكتيك، أشاد ماركس أبنيته الفلسفية والإقتصادية والسياسية.


أعود لأكرر مثل هذا الرأي ولو بكلمات مختلفة لأن بعض أدعياء الماركسية سابقاً يبدون عجزاً فاضحاً في قراءة التاريخ وتفسيره ويتبرعون بالدفاع عن أفكار بورجوازية لا تستحق التناول. ففي العام 1996 وفي أحد المنتديات الفكرية كان لي مداخلة في محاضرة لأحدهم حول ما أسماه " العجيبة الأسيوية " (Asian Miracle)وقد عرض انبهاره بتجربة النمور الأسيوية أكدت للمحاضر المبهور كما للحضور انهيار هذه النمور الوشيك الأمر الذي قابله الحضور بعدم الموافقة والدهشة. ولما وقع الإنهيار في العام التالي اتصل بي بعضهم مستفهماً عن كيف كنت قد عرفت بالأمر! نعم عرفت بالأمر من قراءة وقائع التاريخ التالية..

في العام 1951 أوشك الحزب الشيوعي أن يمسك بالسلطة في اليابان. المظاهرات العمالية الحاشدة التي قادها الحزب آنذاك أفزعت الدوائر الحاكمة في الغرب الرأسمالي الإمبريالي وخاصة الولايات المتحدة الأميركية التي أصبحت بعد الحرب العالمية الثانية وريث الإمبريالية ومدير عملياتها. سارعت الولايات المتحدة، وهي دولة الإحتلال هناك، إلى عقد " ميثاق الأمن والمساعدة المتبادلة عام 1952 " (The 1952 Mutual Security Assistance Pact) الذي جلب أموالاً أميركية هائلة للتوظيف في الصناعات اليابانية وتجديد مصانعها القديمة. لقد شكل ذلك القاعدة الأساسية للتنمية الرأسمالية في اليابان ساعدها في ذلك استهلاك فائض إنتاجها الضخم في الأسواق الأميركية المفتوحة.

النمور الأسيوية، كوريا الجنوبية وتايوان وهونغ كونغ وتايلاند وماليزيا وسنغافورة، كانت جميعها في خمسينيات القرن الماضي كوريدورات مفتوحة للثورة الإشتراكية العالمية ؛ وكان على الإمبريالية الأميركية تحديداً إغلاق كل المنافذ إلى هذه الكوريدورات المفتوحة على كل شرق وجنوب شرق آسيا. ما صنعته الولايات المتحدة الأميركية في اليابان قامت بصناعته في هذه البلدان، قامت ببناء إقتصادات رأسمالية فيها ملحقة بالإقتصاد الأميركي، رأسماليات تطرح فوائض إنتاجها في السوق الأميركية القادرة على امتصاص مثل هذه الفوائض الصغيرة نسبياً.

ما كان الأمريكان لينجحوا في إغلاق كوريدورات الثورة الإشتراكية في شرق وجنوب شرق آسيا بغير توظيف أموال طائلة وبذل جهود هائلة من أجل ذلك. وما يجدر الإشارة إليه في هذا السياق هو أن الأمريكان قد ضحّوا بأضعاف أضعاف ما ضحّى به السوفيت في معركة الصراع العالمي فيما بعد الحرب العالمية الثانية بين الثورة الإشتراكية من جهة والرأسمالية الإمبريالية من جهة أخرى إلى درجة أنهم فقدوا نظامهم الرأسمالي العالمي في غمرة دفاعهم عنه، علماً بأن هذا لم يكن السبب الرئيسي في اندحار الثورة الإشتراكية حيث بدت علائم التفكك والانهيار على الثورة الاشتراكية في نهاية الخمسينيات في مركزها في موسكو وليس في الأطراف ؛ وهذا ليس من موضوعنا.

ما كانت الولايات المتحدة الأميركية لتستطيع توظيف كل هذه الأموال في مقاومة الثورة الإشتراكية لولا انهيار سعر الدولار في أسواق النقد العالمية. قد يبدو مثل هذا الأمر غريباً بعض الشيء غير أن الحقيقة هي أن الدولار كان قد بدأ يواجه الضعف في موازاة العملات الأخرى في العام 1971 مما دفع بالولايات المتحدة الأميركية إلى الخروج من معاهدة (بريتنوود) وشروطها بالغطاء الذهبي. إلغاء الغطاء الذهبي للدولار فاقم من أزمته فكان التخفيض الأول (devaluation)لقيمة الدولار عام 1972 والاضطرار إلى تخفيضه مرة أخرى عام 73. وعندما لم تجدِ كل هذه المعالجات، وكان أن فقد الدولار جزءاً كبيراً من قيمته في الستينيات، دعا وزير مالية نيكسون، جورج شولتز، نظراءه في بريطانيا وفرنسا وألمانيا واليابان إلى مؤتمر للتشاور حول ما بدا انهياراً للنظام الرأسمالي العالمي برمته ؛ وانتهى هؤلاء في مكتبة وزارة الخارجية الأمريكية إلى حياكة مؤامرة خبيثة ولصوصية لسرقة العالم. وتبعاً لذلك اجتمع زعماء هذه الدول الخمس ( G 5 ) في قلعة رامبوييه (Rambouillet)في ضواحي باريس في 15 نوفمبر 1975 وأعلنوا تضامنهم في كفالة أسعار عملاتهم بغض النظر عما يمتلكون من ذهب ومن أي نمو لاقتصاداتهم. في مثل هذا " التكافل " كسر لكل قواعد الإقتصاد وسرقة مفضوحة لكل ثروات العالم، سرقة محمية بقوة السلاح!!! ( إعلان رامبوييه AsdaElaph/2006/8/172787.htm )

البند (12) من مقررات إعلان رامبوييه يؤشر إلى إغراق دول العالم الثالث بفيض من الدولارات بهدف تحطيم اقتصاداتها المستقلة الحديثة. أما في بلدان كوريدورات الثورة الإشتراكية فكان الهدف بناء فاترينات جميلة للنظام الرأسمالي وتشغيل اليد العاملة التي هي دائماً رافعة الثورة الإشتراكية الرئيسة خاصة وقد أصبح الدولار ذا قيمة اسمية فقط. بحكم اليد العاملة الرخيصة جداً في جنوب شرق آسيا فقد تحقق في هذه البلدان فوائض إنتاج ضخمة تكفلت السوق الأميركية بامتصاصها. قد يرى البعض أن إقتصادات ما سمي بالنمور الأسيوية إنما هي في النهاية قطاعات من الإقتصاد الأميركي طالما أن الأموال المستثمرة هي أموال أميركية وفوائض الإنتاج تعود أخيراً للرأسمال الأميركي، لكن ثمة فرق جوهري بينهما من شأنه في النهاية أن يحول دون استمرار مثل هذه " القطاعات " في الحياة وهو أن القيمة المضافة (Value Added) في السلعة " النمورية " التي يستهلكها المواطن الأميركي ليست من إنتاج العامل الأميركي. وهذا بالتحديد ما يسارع في الأزمة الدورية للإقتصاد الرأسمالي التي تتكرر بفعل الفرق بين مجموع الأجور الفعلية الكلي من جهة والقيمة الكلية للإنتاج من جهة أخرى، فما بالك حين لا يكون هناك أجور، حين يكون المستهلكون الأمريكيون هم من يدفع أجور العمال الأسيويين.

صحيح أنه قام في بلدان النمور الأسيوية إقتصادات شبيهة بالإقتصاد الرأسمالي ـ نقول شبيهة لأن التنمية الرأسمالية هي تنمية تاريخية تتطلب من المجتمع تكيّفاً بنيوياً (Adaptation) يستغرق أجيالاً وأجيالا قبل أن يتكامل نظام الإنتاج الرأسمالي بكل مفاصله ـ إلا أن هذا لا بدّ وأن ينعكس سلباً على الرأسمالية الأمريكية. كان هذا أحد الأسباب، من بين أسباب أخرى بذات الأهمية كما في إعلان رامبوييه، التي دفعت بالنظام الرأسمالي العالمي إلى الإنهيار بداية منذ إطلالة السبعينيات. تراجعت المنتوجات الرأسمالية في الولايات المتحد الأميركية بشكل خاص حتى وصلت إلى ما نسبته سدس مجمل الإنتاج القومي فقط، ويتمثل معظمه بالصناعات الحربية والطائرات بشكليها المدني والعسكري وهي الصناعات التي لا تنتجها الرأسماليات الصغيرة والطارئة ـ وتتميز الصناعات العسكرية وصناعات الفضاء بأن استهلاكها يتم فقط عن طريق وزارة الدفاع وسلطات الدولة الأخرى.

في النظام الرأسمالي الإمبريالي الكلاسيكي كان فائض الإنتاج المتحقق من فائض القيمة ينصرف من المركز المتروبول إلى الطرف المحيط (المستعمرة). أما وقد انتقلت عملية الإنتاج الرأسمالية نفسها من المركز إلى الطرف، وأخذ فائض الإنتاج يسيل عكس اتجاهه القديم، من الطرف إلى المركز، فيصبح المستعمر عندئذٍ مستعمراً (اسم المفعول) ويصبح المركز طرفاً والطرف مركزاً، مثل هذا التبادل لا يمكن أن يكون مقبولاً على الدول الكبرى التي ما زالت تنتج العسكرة دون أن تكون رأسمالية بطبيعة إنتاجها المستجدة. كما أن هذه الدول التي ما زالت تجتر عداءها للشيوعية أخذت على عاتقها وقد استمرأت ما فعلته في اليابان ثم في النمور الأسيوية تفعل ذات الشيء في الصين بتشجيع أسلوب الإنتاج الرأسمالي فيها. كان هذا من بين أهداف أخرى دفعت بنيكسون للقيام بزيارة تاريخية للصين عام 1972 والتي مهدت لظهور دنغ هساو بنغ وسيطرته على الحزب الشيوعي، بعد أن كان ماوتسي تونغ قد طرده من الحزب عام 1966 بوصفه " خروتشوف الصين "، وهو الذي تمكن أخيراً من إخراج الصين عن خطها الإشتراكي. الولايات المتحدة الأميركية أخذت على عاتقها إفشال مشروع لينين في الثورة الإشتراكية العالمية وسخرت كل قواها المادية والبشرية وغامرت بمستقبلها لتحقيق هذا الهدف. انتصاراً لخروتشوف الصين ومن أجل التخلي عن المشروع اللينيني في الثورة الإشتراكية قررت الولايات المتحدة منح التجارة الصينية ميزة الأفضلية. نجحت الولايات المتحدة في ذلك لكن بعد أن رهنت مستقبلها بمستقبل الصين ـ تحقق الصين اليوم فائضاً تجارياً مع الولايات المتحدة يصل إلى 200 مليار دولار سنوياً، كما يصل احتياطي الصين من الدولارات إلى تريليون أي 1000 مليار!! ـ ومع ذلك لن تبني الصين نظاماً رأسمالياً بكل الأحوال.

كان لا بد من أن تنهار ظاهرة النمور الأسيوية تبعاً للحقائق التالية..
- استمرارية نظام الإنتاج الرأسمالي تضمنها شروط سياسية مرافقة والتي لم يتوفر أي منها في حالة النمور. لا يتحقق نمط الإنتاج الرأسمالي إلا وفق بنية ثابتة الشكل لا تتغير لها مركز وهو دولة المتروبول الإمبريالي، حيث تتم عملية الإنتاج، ولها أطراف وهي الدول المستعمرة والتابعة للمركز حيث يتم التخلص من فائض الإنتاج المتحقق من فائض القيمة. في حالة النمور انعكست البنية تماماً فعملية الإنتاج تتم في الأطراف والتخلص من فائض الإنتاج يتم في المركز وهو الولايات المتحدة الأميركية تحديداً
- أهم شرط مرافق لعملية الإنتاج الرأسمالية هو الإكراه والقمع. وبدا ذلك جليّاً في امتلاك مراكز الإمبريالية جميعها قوات مسلحة تمتد سيطرتها لما وراء حدود الوطن وتستولي على أسواق بلدان أجنبية. النمور لا تمتلك مثل هذه القوات بل إن أمنها الوطني خاضع لدولة السوق (الطرف!) وهي الولايات المتحدة تحديداً.
- رؤوس الأموال الموظفة في عملية الإنتاج ليست وطنية بل هي أمريكية في الغالب. العملية برمتها ليست عملية وطنية ولذلك تبقى العملية قابلة للإلغاء نهائياً ويتوقف ذلك على أمر أمريكي سواء تم ذلك من خلال سحب الأموال واستعادتها كما تم في بعض البلدان أو في التضييق على استقبال فائض الإنتاج وقد حدث ذلك لمصلحة فائض الإنتاج الصيني.
- النظام الإجتماعي غير قابل للاستنساخ ولا بدّ أن تتكامل خليقته في أحشاء المجتمع نفسه. فالجانب الإقتصادي منه كنظام الإنتاج الرأسمالي لن يتحقق إلا بعد عملية تاريخية من التراكم الرأسمالي (Capital Accumulation) وهو ما لم يتحقق لدى النمور. ولا بد أن تترافق عملية الإنتاج بمنظومات من القيم والتقاليد والعادات خاصة بها وهو ما يتم فقط من خلال تطور بنيوي تاريخي (Adaptation) الأمر الذي لم يحدث في مجتمعات النمور.
- بعد أن كانت بلدان هذه النمور كوريدورات مفتوحة على رياح الثورة الإشتراكية العاصفة مع بداية النصف الثاني من القرن العشرين لم تعد كذلك لدى نهايته بعد انطفاء الثورة وما مثله ذلك من انهيار تام لمشروع لينين الثوري مع بداية القرن العشرين. الفاترينات الرأسمالية الجميلة التي شكلتها النمور لم تعد تقوم بالوظيفة التي أنشئت من أجلها.

النظام الرأسمالي هو أول نظام إنتاج عالمي (Universal) تعرفه البشرية. وعالميته هي بمثابت عاهة خلقية من شأنها أن تتسبب بانهياره أولاً وأخيراً ؛ إنه نظام طفيلي لا يرتكز على الذات. فائض القيمة أو ما يسمى بالربح يتحقق بداية بفائض في الإنتاج الذي لا ينصرف في السوق الوطنية ولذلك يترتب على الدولة أن تصرفه في الخارج، في البلدان التابعة. فكيما يحتفظ بلد ما بنظام للإنتاج الرأسمالي يتوجب عندئذٍ أن يستولي على أسواق بلدان أخرى تستورد فائض إنتاجه. لذلك يكون النظام الرأسمالي نظاماً طفيلياً غير قادر على الإرتكاز على الذات.

البلدان ذوات الإقتصادات التصديرية والتي لا تمتلك من القوى المسلحة ما يؤمن لها أسواقاً خارجية لا بد أن تكون بلداناً عميلة أو باقتصادات عميلة أو بالإثنتين معاً كما هي حال اليابان وما يسمى بالنمور الأسيوية أو حال الإقتصاد الصيني اليوم وهو اقتصاد تصديري مرتبط إرتباطاً وثيقاً بالسوق الأمريكية وهو يغطي جزءاً كبيراً من قيمة الدولار الأمريكي. إنها اقتصادات طفيلية وغير قادرة على الإرتكاز على الذات وليس لديها القدرة العسكرية على تطويع الآخرين لخدمة أقتصاداتها. اقتصادات قامت أساساً لخدمة الآخرين من غير مواطنيها وهي لذلك لن تستمر طويلاً إذا ما استأنفت شعوبها مسيرتها على الطريق السليمة للتطور.

كانت البشرية قد تقدمت قبل أربعة قرون أو أكثر وهدمت النظام الإقطاعي في أوروبا الغربية لتتقدم في صناعة المانيفاكتورة والإقتصاد التجاري (Mercantilism) وتضع بالتالي أساساً لبناء نظام الإنتاج الرأسمالي الذي نقل البشرية إلى نمط الحياة العصرية. " تعاونت " كل الطبقات الإجتماعية في صراع لا ينقطع في غمرة بناء نظام رأسمالي كان له بالرغم من كل مساوئه خدمات جلّى وانتشر في كل أصقاع المعمورة. عمّر النظام الرأسمالي قرنين قبل أن يظهر كارل ماركس وفردريك إنجلز في بلجيكا ويصدرا بيانهما الشهير (Manifesto) عام 1848 يقررا فيه النهاية المحتومة للنظام الرأسمالي بسبب التناقضات الكامنة فيه. وفي العام 1917 وضع لينين مشروعه القاضي بتفكيك النظام الرأسمالي العالمي في الأمد المنظور وبدءاً من روسيا القيصرية.

أن يأتي الأمريكان مع النزع الأخير للنظام الرأسمالي لصناعة حياة جديدة للرأسمالية المتهرئة فهو أمر خارج التاريخ وهو بالتالي جهد ضائع. ليس من شك في أن الأمريكان قد أضاعوا مستقبلهم قبل مستقبل الأمم الأخرى في صراعهم من أجل إفشال مشروع لينين الإشتراكي. هم نجحوا في إفشال المشروع أو على الأقل ساهموا بقدر أو بآخر في إفشاله لكنهم خسروا من أجل ذلك نظامهم الرأسمالي أو البقية الباقية منه ؛ لربما استطاعوا أن يطيلوا عمره بغير عملية رامبوييه. لقد غرر بهم قادة منهم أعماهم الحقد على الطبقات العاملة وكراهية الشيوعية من أمثال الرئيس هاري ترومان وجورج مارشال وزير الدفاع وجون فوستر دالاس وزير الخارجية والسناتور جوزيف مكارثي وجون إدغار هوفر مدير مكتب التحقيقات الفدرالي والرئيس رونالد ريجان. ومن المفيد هنا الإشارة إلى بعض الحقائق ـ
نجح الأمريكان في منع الثورة الإشتراكية من الامتداد خارج حدودها مستخدمين كل الوسائل المتاحة مثل إقامة فاترينات رأسمالية جميلة في المناطق الحساسة القابلة للاشتعال الثوري كما في ألمانيا واليابان والنمور الأسيوية، وإشعال الحروب المحلية في مناطق أخرى.
فشل المشروع اللينيني لم يكن كله بسبب المجهود الأمريكي. كان لينين قد أشار منذ البداية إلى بعض العيوب في مشروعه التي من شأنها أن تشكل خطراً مصيرياً عليه إن لم تؤخذ الاحتياطات اللازمة لتداركه.
عجوز الإمبريالية ونستون تشرتشل وبعد أن لم يعد لدية قوى عسكرية ذات وزن في نهاية الحرب العالمية الثانية قام بتحريض هاري ترومان أثناء محادثات بوتسدام ـ برلين، آب/أغسطس 1945 بإلقاء القنبلتين الذريتين على هيروشيما وناغازاكي من أجل إرعاب ستالين وتليين موقفه بشأن الحدود البولندية دون أن يكون ثمة دواع عسكرية لذلك. لم يلن ستالين لكنه عندما عاد إلى موسكو أمر ببناء مجمع الصناعات العسكرية وتوفير كل متطلباته من الأموال ومختلف الاحتياجات وهو المجمع الذي ابتلع كل التنمية الإشتراكية وشكل قاعدة استندت إليها الطبقة الوسطى السوفياتية في تهديم مشروع لينين التاريخي.

البشرية اليوم في حالة ضياع كليّ. حال القادة الأمريكان دون تطور العالم سلمياً على الشكل الذي رغب فيه جوزيف ستالين بعد أن عانت الشعوب السوفياتية ما عانت من الحرب الهتلرية وكما أوضح في تصريحه الذي أقره مجلس السلم العالمي المنعقد في استوكهولم 1951 كنداء له وقد حظي بتوقيع عشرات الملايين من الناس. حالوا دون عبور الشعوب عتبة الإشتراكية وضيعوا من أجل إقتراف مثل هذه الجريمة الشنعاء بحق الإنسانية، ضيعوا النظام الرأسمالي العالمي. ليس من أحدٍ اليوم يستطيع أن يتعرف على النظام القائم اليوم بصورة علمية وليس بصورة إنشائية كما ينشي كتبتنا العرب. إجتمع زعماء أميركا، كلينتون، وبريطانيا، بلير، وألمانيا، شرودر، وفرنسا، جوسبان، في لندن في العام 2000 وتباحثوا ليومين من أجل التعرف على النظام القائم اليوم وبعد أن فشلوا خرجوا ليقولوا لنا بأن النظام هو نظام " الطريق الثالث " (Third Way) أي أنه ليس النظام الرأسمالي وليس النظام الإشتراكي، إنه النظام الثالث وهذا تعريف من لا يعرف.

فـؤاد النمـري
www.geocities.com/fuadnimri01

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف