مأساة حماة محطة كسر الإرادة الوطنية؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
(1)
يقول طه الشاذلي في رواية " عمارة يعقوبيان ":
"... أذلوني لدرجة أني أحسست أن كلاب الشوارع عندها كرامة أكثر مني..."
أراده الجلاد ذلا ً يمثل ثمن الإنتماء لوطن والحرص عليه...قالها بحسرة مريرة وهو يصور بإحساس إنساني درامي عميق ماتعرض له في أقبية السجون من انتهاك لحرمته وكرامته الإنسانية، ترى من يصور أفظع الجرائم والإنتهاكات الإنسانية والجرائم التي ارتكبت بحق المدنيين في حماة؟ من؟ نتساءل: لو توفرت الحرية ترى ماذا سيقول أهالي حماة من النساء والأطفال والشيوخ والرجال الأحرار الذين انتهكت كرامتهم وهدمت بيوتهم فوق رؤوسهم وعاشوا فصول المأساة وشاهدوا أشلاء البشر أكواما ً في شوارع حماة؟ ماذا سيقول بعض الناجين الذين سلبت حريتهم وحياتهم وكرامتهم في زنازين الحقد والكراهية والهمجية في سورية؟ وماذا سيقول المواطنون السوريون جميعهم بدون استثناء والعالم حول هول وفظاعة ماحدث؟ وماذا قال وسيقول العالم الحر والمستعبد ومنظمات حقوق الإنسان وحتى الحيوان عن الإبادة الجماعية والتمثيل بالأحياء والأموات وانتهاك حرمة الطفولة وكرامة المرأة وقيم الحياة وهدم الكنائس والجوامع وطحن البشر والحجر والتاريخ والحضارة؟ماذا سيقول بعض الناجين من الموت الذين تعرضوا لمستويات من الذل ليس لها وصف سوى الجلاد نفسه... بكامل عدته وعتاده وصفاته، بقيمته الحقيقية وانتمائه الحقيقي ووزنه الإنساني والوطني الحقيقي؟ ماذا سيقول هؤلاء الذين قضوا في ظلمات الزنازين ربع قرن ويزيد؟
ماذا سيقول هؤلاء الذين عاشوا فظاعة الأحداث وكانوا وقودا ً بشريا ً وسياسيا ً وإنسانيا ً ووطنيا ً لها؟ ماذا سيقول الأطفال الذين فقدوا آبائهم وأمهاتهم وبيوتهم وأصدقائهم وألعابهم ومدارسهم ومسرح طفولتهم وأحلامهم؟، ماذا سيقولون لو أتيحت لهم حرية الكلام أو انفجرت ذاكرتهم من حجم المأساة الصامتة؟
وبماذا سيخبرون الشعب والعالم عن مستوى انتهاك إنسانية الإنسان وكرامته وحتى شرفه؟!، وإلى أن يأتي وقت كشف الحقائق والتأشير على المجرمين ومحاسبتهم وهو أصبح أقرب من أي وقت مضى، نقول بعضا ً مما يقولوه صمتا ً ونذرا ً مماعانوه ونصرخ بالجميع في هذا الوطن بأن يتكلموا ويؤشروا على الفاعلين الذين لازالوا يسرحون ويمرحون ويستعدون للإنقضاض على الوطن مرة ً أخرى بثوب آخر " َمثلهُمْ كمثل الأفعى تخلع ثوبها صيفا ً وشتاء ً يتجدد " علهم أن يتخلصوا من سلبية الخوف ويشاركوا في إنقاذ ماتبقى من كرامة الشعب والوطن...
قد يكون بعض الكلام عن المأساة التي صمت عنها الكثيرون خوفا ً ورعبا ً من نظام وحشي شرس كشر عن أنيابه...معايشة ً لها، بعضها إنساني عن قرب وبعضها الآخر وطني وأخلاقي ووجداني وعن قرب أيضا ً...عل من هذا الألم يولد الأمل بالفرج والخلاص من الطغاة...!
(2)
أبوموسى فقد ولديه وفقد بعده ذاكرته
في مدخل المدينة... كل زائر أو مسافر أو عابر من جنوب سورية إلى شمالها ( حلب ) يمر من أمام النصب التذكاري في مدخل مدينة حماة ويلمح ذلك الرجل العجوز الذي بلغ من العمر والعذاب والوقوف عتيا، والذي تمثل تقاسيم وجهه خريطة وطن مستباح صباحا ً وعشيا، يركض على المارة والسيارات وحتى أحيانا ً يسأل الحيوانات الشاردة وما من أحد من البشر ولثلاثة وعشرين عاما ً أجابه، يكرر السؤال بدون ملل ولاكلل وبتوسل عاطفي وإلحاح مرهق " هل شاهدتم موسى "؟ بعض المارة لاينتبه والبعض يجيبه بالنفي والبعض يمر عابرا ً بصمت، والبعض يقول له عافاك الله، والبعض يخاف من تبعات السؤال فيكتفي بتحريك رأسه بشكل غير مفهوم ! والكثير يجهل إصرار هذا العجوز على افتراش هذا الرصيف الذي أصبح بيته لربع قرن يردد نفس السؤال بحركة يديه المرتجفتين وتقاسيم وجهه ونظرات عينيه بلمحات عاطفية حزينة تحرك حتى الحجر...!
كان هذا المكان هو آخرمشهد رأى فيه أبو موسى ولديه أحدهم ضابط في الجيش العربي السوري ( لم يشفع له وسام البطولة في الدفاع عن دمشق عام 1973 مع المرحوم وليد حمدون الذي عينه حافظ أسد تكريما ً لبطولته في حرب تشرين بفصله من الجيش وتعيينه وزيرا ً لتشجير البادية !) وأخوه الصغير البالغ من العمر أربعة عشر عاما ً،والقوات الخاصة وقوات سرايا الدفاع( الأشاوس ) تسحلهم على الأرض والأب يتوسل ويترجاهم أن يأخذوه بدلا ًعن الصغير أو حتى معه دون فائدة وقذفوهم في شاحنة الموت بانحطاط وهمجية لامثيل لها إلا فاعلها!
مرت السنوات كئيبة أو هو مرفيها حزينا ً لافرق، فقد النظر من كثرة ملاحقة عينية المارة
وانتظار من يمر... منع كثيرا ً من قبل أجهزة الحفاظ على السمعة الوطنية،وسجن مرات عديدة من قبل أجهزة مكافحة الشغب والحفاظ على الآداب والذوق العام ! وأخضع لدروس في التوجيه السياسي والوحدة الوطنية لمرات ومرات، وكان يشفع له بالنجاح أي بالبقاء حيا ً مع آلامه في كل مرة هو طيبته وألفته وسلميته، خرج من تلك الدورات بحصيلة فقدان التركيز والنطق والقدرة على الحركة فأصبح يشحط نفسه ببطء وكأنه يشحط عذاب وطن بأكمله، يسأل بجسمه كله برجاء المارة بأن يجيبوه... يكرر عليهم لاشعوريا ً نفس السؤال محملا ً بالمزيد من الأسى والحسرة ورغبة سماع أي خبر عن طفله الصغير المخطوف، وقد استسلم إلى قدره بكبت السؤال عن ابنه الكبير ! يبدو أن أبو موسى قبل أن يسرق الجلادون وقطاع الطرق منه طفله وذاكرته ويطعنوه في عاطفته، قد ولف لاشعوره على الإعتصام السلمي وتكرار السؤال بتقاسيم تعبر عن خلاصة إنسانية مشرد مظلوم ومستضعف مصر على رؤية طفله في نهاية حياةالعذاب قبل أن تمل منه الدنيا وترحل عنه!
بعد ثلاث وعشرون عاما ً تم الإفراج عن بعض ممن بقوا أحياء بحكم النسيان في حفر وزنازين سجن تدمر وفرع فلسطين ! وكان من بينهم موسى الذي أدخلوه طفلا ً وأخرجوه طفلا ً آخر أبيض الشعر كئيب الملامح لايجيد شيئا ً غير الصمت ! هل شاهدتم طفل يشيب؟ طفل من هول التعذيب تصلبت حركة عينيه،وفقد ذاكرته وتوازنه بانتهاك طفولته...أوصلوه إلى العنوان المثبت في تقريره فلم يجدوا لابيتا ً بهذا العنوان ولا أهلا ً ينتظرون عودة طفلهم ! سألوا مختار الحارة عن عائلة موسى، أجابهم المختار بلبقاته الوظيفية بأن عائلته غادرت المدينة منذ ربع قرن ( ولم يقل لهم إلى سجن تدمر ) ولا أعلم إلى أين ! لكن الذي أعلمه أن هناك رجلا ً ينام على الرصيف اسمه أبو موسى!
معذرة عن ذكر ماحدث ! لأني في تداعيات المشهد الإنساني لم أعد أدري ما أشاهد وما أقول ! كل ماأدريه أن الأب والإبن الفاقدي الذاكرة وبقدرتهم الضعيفة على الرؤية لم يستطعا أن يعرف كل منهما الآخر ! سوى الصوت كان هو الدليل... في تلك اللحظة اختلط العقل والقلب والعذاب والدموع بضحك... بعض ملامحه البكاء !!! عندما يفقد العقل وظيفته، تأخذ العاطفة والغريزة الإنسانية دورها... تعانقت العواطف الممتزجة والممتدة بين الطفولة والكهولة بين المكان والزمان بين الظلم والغياب واللقاء بعد طول انتظار، وعذاب لايعرفه إلا من عاشه ومن حافظ على بقايا إحساسه الإنساني، تعانق بين الصلة والإنتماء، بين الفرع والأصل...الإنتماء للوطن له ثمن والشعب السوري دفعه مضاعفا ً مرات ومرات، فهل سيتعانق هذا الشعب مع حريته..؟! بقي أن نقول: إن أبعاد فظاعة مأساة حماة هي كسر الإرادة الوطنية لشعب بأكمله...ولأحداث همس هنري كيسينجر لحافظ أسد عام 1973 بإيصال سورية والمنطقة إليها،وبعضها هو مانعيشه اليوم والمخفي أعظم!
د.نصر حسن
5 مشؤوم 2007