امريكا اللاتينيه: يسار ويسار
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
منذ بضع سنوات مافتئ الرئيس الفنزويلي الحالي هوجو شافيز يقترح علينا نحن شعوب العالم الثالث صحوة لليسار عبر سلسلة من الشعارات والسياسات اثارت وستظل تثير كثيرا من الاهتمام المتراوح بين الانتباه السطحي المؤقت والدائم التحليلي. يعود ذلك الي ان شافيز لايبخل علي اجهزة الاعلام بكثير مما يخطف الاضواء وهو يطرح افكاره ويطبق سياساته الداخلية والخارجيه الراديكاليه، مثل الهجوم الشخصي الطريف -المقذع علي بوش وفي عقر داره النيويوركية.
معتمدا علي ثروة البلاد النفطيه في ظروف الارتفاع الاستثنائي للاسعار ( رصيد يتجاوز 200 بليون دولار وفق بعض التقديرات ) يطمح شافيز في سياساته الداخلية الي اجتثاث الفقر حيث تذهب 40% من ميزانية الدولة للعام الجاري الي برنامج للاستثمار الاجتماعي بدعم السلع الغذائية والسكن والعلاج وحملات محو الاميه اضافة الي توزيع اراضي علي الفلاحين. ومن دلائل نجاح هذا البرنامج انخفاض نسبة وفيات المواليد وتحقيق معدل نمو 9 % عام 2005. وفي برنامج ولايته الثالثة الحاليه تأميم شركات الهاتف والكهرباء وانهاء استقلالية البنك المركزي. اما السياسة الخارجية فمحورها العداء للولايات المتحدة الامريكيه في تحالف مع رؤساء كوبا وبوليفيا واكوادور وبدرجة اقل بقية الزعماء اليساريين الجدد في امريكا اللاتينيه. كما يدعم الحركة المضاده للعولمة الرأسماليه التي تجمع احزابا وشخصيات من الليبراليين واليساريين والفوضويين والاسلاميين المعتدلين والمتطرفين و منظمات مجتمع مدني من ناشطي البيئه والاقليات الاثنية وغيرالاثنيه وحركات السلام الغربيه.
في هذه التوجهات كثير مما يستجيب لتطلعاتنا العالمثالثيه ولكن هناك ايضا مايثير، او مايجدر ان يثير، مخاوف محركها الاساسي هو ميل شافيز الواضح لتغليف سياساته ومواقفه بشعارات ضخمه وزخارف استعراضيه وهو مايطلق عليه مصطلح الشعبويه، اي استدرار الدعم الشعبي بغير وسائط الديموقراطيه مما يؤدي الي اضعاف الركيزة الاساسية لبنيتها التحتية وهي تجذرها في وعي المواطن العادي اذ لاسبيل لذلك بغير الممارسة الفعليه. فهو يصف الرئيس الامريكي بالابله والسكير والشيطان ويدعو الامريكيين " المتخلفين للذهاب الي الجحيم " ويحضر مؤتمر القمة الافريقي في بانجول ويمول عمليات دعم الوقود للمناطق الفقيرة في بريطانيا وامريكا. ثم يتحالف، هو الذي لايقيم كبير وزن للدين، مع الاسلامي المتشدد احمدي نجاد مجسد العقلية الطلابية شكلا ومضمونا باعث شعارات حول اليهود واسرائيل تركها حتي الفلسطينيون وعدو الليبراليين واليساريين الايرانيين الاول. يتواكب هذا مع استخدام شافيز اغلبيته البرلمانية الكاسحه للحصول علي تفويض للحكم بقرارات رئاسيه لمدة عام ونصف بينما تتردد انباء بأنه يفكر في تعديل الدستور ليسمح له بولاية رابعه. وهو شكل جيشا شعبيا دائما من مليوني شخص بعد محاولة انقلاب فاشل ضده عام 2002 عليه بصمات امريكيه عرف شافيز كيف يحبطه بحكم خبرته كضابط سابق ومنفذ لانقلاب فاشل عام 1992. حتي في سياسات اجتثاث الفقر هناك شبهة شعبويه لان توزيع عائدات البترول بما يشبه سياسات بعض الدول الخليجيه غير مصحوب بتحفيز كاف علي الانتاج يؤذي الاقتصاد بزيادة اعتماده علي سلعة ناضبه. اما التاميمات فقد علمتنا تجربة التأميم السوداني وغير السوداني ان حدوثها في ظل توجهات شموليه لايفلح الا في تسمين بيروقراطية تلتهم مايتجاوز كثيرا نصيبها من الثروة القومية.
في كثير من هذه الجوانب يبدو شافيز صورة معدلة قليلا من قذافي القديم: ثروة بترولية هائله، 7 مليار دولار سنويا، زعيم عربي تارة واسلامي اخري وافريقي تارة ثالثه. لم يترك تمردا الا وسانده وسخرية من نوع (.... في امريكا) الا وادخلها في قاموس السجال السياسي بين الدول وانتهي به الامر للتسليم لها. وفي جوانب اخري يذكرنا شافيز بالاقرب الينا سودانيا من رئاسة للجمهورية تطول وتطول ودفاع شعبي جاهز وجاهز وخصخصة هي بنت عم التأميم التخريبي اذ تنقل القطاع العام من الدوله الي حزب الدولة.
مع ذلك فأن كثيرين ممن خبروا المرحلة اليسارية السابقة التزاما ومعايشة يجدون انفسهم منجذبين بصورة لاشعوريه الي هذا النموذج الشافيزي في ضرب من التعويض النفسي عن الخيبات التي انطوت عليها اواخر مرحلتهم.. مرحلة الاحلام الكبيره والانجازات في تحرير الارض والانسان من ربقة الامبريالية والاستغلال الرأسمالي خلال العقود الثلاثة الممتدة بين الخمسينات والثمانينيات التي اختتمت بأنهيارات موجعة لانها عجزت عن تطعيم نماذجها التطبيقية ببعض من عناصر النماذج الرأسماليه مثلما فعلت الاخيرة ببعض عناصر الاشتراكيه. فأستعارة مفهوم التخطيط الاقتصادي وانظمة الضمان الاجتماعي ضد البطالة وغيرها، من الحركات والانظمة الاشتراكية لم يقابله استعارة مفهوم ودور المجتمع المدني في الاتجاه الاخر. من هنا افتقدت انظمة المرحلة اليسارية مقدرة التصحيح الذاتي واستيعاب المتغيرات فأنحدرت الي جمود شمولي قتل استقلالية المجتمع افرادا وجماعات وبالتالي روح الابداع والتجدد علوما واقتصادا وادبا وفنا.
الواقع هو أن نواحي الضعف في اسلوب وبعض سياسات شافيز تعكس رغبة في تصفية حسابات مع امريكا بسبب تاريخها الاسود مع جاراتها اللاتينيات اثناء حقبة الحرب البارده، اكثر من صراع مصالح واستراتيجيات معها. هذا مايضفي علي سياسات شافيز طابع الاندفاع والراديكاليه التي تضعها في خانة الرومانتيكية الثوريه وهذه قليلها مفيد في طور التعبئة والتبشير بقدر كارثية كثيرها. فالطور اللاحق طور تطبيقي تترجم فيه الاهداف الكلية الي برامج محدده تربط بين سماء الثورية وارض الواقع ويصبح الاغراق في الرومانتيكيه معوقا للتغيير المتصاعد ومناخا تصادر فيه امكانية تنمية الوعي الديموقراطي لدي جمهور المواطنين اذ يحل محلها زعماء وابطال انصاف الهة.
مقابل النموذج الشافيزي هناك نموذج لاتيني امريكي اخر يمثله لولا دي سيلفا البرازيلي ورؤساء الارجنتين وشيلي وبيرو. يظهر هؤلاء في الصورة اليسارية العامة مع شافيز وحليفه الاوثق موراليس البوليفي ولكنهم في الحقيقية يمثلون مايمكن وصفه باليسار الديموقراطي الذي يعمل دون ضجيج شعاراتي واستعراضاتي لتصحيح الاوضاع الداخليه لمصلحة الطبقات الشعبيه دون مساس بضوابط الديموقراطيه، ولتصحيح العلاقات مع امريكا تحقيقا لمصالح متبادلة مشروعه دون معارك صارخه. من هنا يقل التركيز الاعلامي عليهم وتقل فرصتنا في الاطلاع علي تجربتهم مع انها الافيد بالمقارنة لتجرب شافيز في محاولتنا اسئناف المسيرة اليسارية من حيث اوصلتنا دروس تجاربنا السابقه وليس من نقطة بدايتها.
عبد العزيز حسين الصاوي
كاتب سوداني