محارب على الاعراف!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
عندما إجتاح الغرب في بداية الثمانينيات من القرن الماضي مرض الايدز، تلاقفته غالبية التيارات و الشخصيات الدينية في عموم المنطقة و رسمت في ظلالها الشاحبة الکئيبة معالم صدق خطابها الفکري و بطلان مزاعم الليبرالية الغربية ببناء الانسان النموذجي. يومها، ومع صعود نجم آية الله الخميني و بروز تيارات سياسية إسلامية على الساحة، کثر الکلام عن ما إصطلحوا على تسميته"الصحوة الاسلامية". وقد کان لإنحسار و تراجع قوى اليسار و، هامشية دور القوى الليبرالية و العلمانية عموما، أثره الکبير و الفاعل في ترسيخ و بروز الخطاب الديني بصورة غير إعتيادية. کما إن فشل النظام العربي الرسمي"وخصوصا تلک التي کانت تتبرقع بأغطية التقدمية و الثورية"في حلحلة و معالجة إشکاليات الواقع و إيغاله في القمع و الاستبداد، کل ذلک أدى الى رکون السواد الاعظم من الشارع العربي الى أبجديات الخطاب الديني و إعتباره الفارس المنتظر الوحيد الذي بمقدوره أن يهزم کل قوى الشر و أن يمطر الناس بالمن و السلوى!
وإذا کانت هزيمة الخامس من حزيران التي مني بها التيار العروبي ـ الوحدوي صفعة قوية للأنظمة السياسية الشمولية بوجه خاص، فإنها کانت في نفس الوقت شهادة حق واضحة بخصوص غياب الدور الجمعي وتلحفه بعباءات السکوت أو الحيادية السلبية في أفضل الاحتمالات. وجاءت تلک الخطوة العسکرية ـ السياسية التي خطاها الرئيس المصري الراحل أنور السادات في السادس من أکتوبر عام 1973لتحقق نقلة نوعية في الصراع العربي ـ الاسرائيلي من خلال رؤية واقعية تتسم بقدر کبير من العقلانية بحيث إستطاع الرئيس السادات أن يقلل من الاستحواذ الاسرائيلي على الدعم الامريکي و يحقق قدرا معقولا من التوازن في سياسة أمريکا تجاه قطبي الصراع.
وحين إجتمعت دول ما أصطلح على تسميته في وقتها"الصمود و التصدي"على رفض سياسة السادات و التصدي"الکلامي"لها و تزامن ذلک مع صعود نجم آية الله الخميني في إيران، فإن قوة و زخم ذلک التصدي لم يکن بذلک القدر الذي يستهان به حتى أن دولا مثل الاردن و المغرب و تونس و السعودية وغيرها من اللائي لم تکن تستسيغ تلک الحمى الإنفعالية لدول النظم الإنقلابية فإنها في نفس الوقت لم تستطع أن تجابه ذلک التيار الإنفعالي العاتي وتقف بوجهه وإنما سايرته وعلى مضض واضح منها، وهو أمر أدى بالنتيجة الى مفترق خطير ساهم في إرساء دعائم النظم الدکتاتورية الشمولية في سوريا و العراق و ليبيا و السودان و اليمن بشطريه وجعلها أمرا واقعا لشعوبها المغلوبة على أمرها. وقد جاء التورط السوفيتي في أفغانستان عام1978 وأسلوب التصدي الامريکي له، ليساهم هو الاخر في في إستفحال التيار الديني و جنوحه نحو سيطرة غير عادية على حرکة الشارع العربي وفرض لسان حاله عليه. ولما دارت الايام و فشل السوفيات في حملتهم على کابل فشلا ذريعا و لم يقف الامر عند ذلک الحد وإنما إستمر حتى إنحسار النظام الاشتراکي نفسه، بدأت حرکة إصطفاف سياسية ـ عسکرية ـ إقتصادية جديدة تتبلور في العالم، وهي تلک الحرکة التي لم يستطع النظام العربي الرسمي تفهم مرتکزاتها و لا آفاقها العامة وإنما ظل أسير ذلک العقم السياسي ـ الفکري الذي کان يلفه بحيث جعله بعيدا عن السياق الحضاري.
تخلف النظام العربي الرسمي عن فهم و إستيعاب الحالة الدولية لعالم مابعد الحرب الباردة، بالقياس مع تلک"القفزات"التنموية لدول مثل کوريا الجنوبية و سنغافورة و ماليزيا والتي حققت بالتوازي مع ذلک طفرات سياسية و ثقافية تتسم في الکثير من جوانبها بالنوعية، منحت مساحات واسعة لتحرک تيارات سياسية ـ فکرية تتسم في خطوطها العامة بقصور و ضبابية في الرؤية و جنوح للطيش و النزاقة في عملها الميداني. لقد کان النظام العربي الرسمي منذ إنهيار الکتلة الشيوعية وعلى طول الخط مجرد متفرج سلبي على المشهد الدولي و مخرج مسلوب الارادة لفصول مهمة من مسرحية يفترض إنه يشرف عليها بصورة"إستبدادية"نوعا ما، وهذان الامران قد رسخا حقيقة مهمة ذات بعدين حساسين هما:
1ـ غياب النظام الرسمي العربي عن الساحة الدولية وتراجعه غير الإعتيادي عن موقعه السابق"الذي کان هو أيضا يتسم بالقصور"، وصيرورته مجرد ظل و تابع لحرکات"أدرية" لأقطاب النظام الدولي الجديد و حرکات"لاأدرية"لنشاطات سياسية ـ فکرية متطرفة تجيد إذکاء النيران و الفوضى فقط.
2ـ تراجع النظام الرسمي العربي جماهيريا و بشکل ملفت للنظر و لأجل الحد من تراجعه هذا لجأ لرکوب موجات التطرف و العنف بصيغ قد تکون متطورة في ظاهرها لکنها في محتواها الحقيقي لاتختلف أو حتى تتناقض مع دعوات"أسامة بن لادن"و"أيمن الظواهري"، إذ أن النظام العربي الرسمي وعوضا أن يسعى لحل إشکالية الديمقراطية في بلدان المنطقة، يغوص حتى إذنيه في وحل الاحتراب الطائفي ضد التيار الشيعي القادم من إيران!
ولو سعى النظام العربي الرسمي لتبني مشروعا سياسيا ـ إقتصاديا ـ فکريا ـ إجتماعيا متکاملا نوعا ما و متجاوب مع السياق العالمي خصوصا في رفع الظلامة و الغبن عن شعوب المنطقة، فإن ذلک کان کفيل بحصر النظام السياسي الايراني في أضيق زاوية، غير أن الذي يدفع للسخرية هو أن النظام العربي الرسمي قد وجد نفسه من حيث لايدري أسير الحالة الايرانية و رهينها.
لقد بات النظام العربي الرسمي أشبه بمجرد رجل حائر و مبهوت على خط وهمي بين النظام الدولي الجديد بقيادة الولايات المتحدة الامريکية و بين النظام السياسي ـ الفکري الايراني، وهو"أي النظام العربي" يصور لشعوب المنطقة إنه محارب عنيد للخطر"الشيعي" القادم من إيران و التحدي"الفکري ـ الاخلاقي" القادم من الغرب لکنه وفي حقيقة أمره، تجد حاله أقرب لأن يوصف برجال "الاعراف"من الذين تساوت حسناتهم و سيئاتهم فلاهم من أهل الجنة ليتذوقوا نعيمها، ولاهم من أهم النار ليکتووا بسعيرها!
نزار جاف
nezarjaff@gmail.com