أصداء

العراق: نقطة الحبر الأخيرة

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

ما أصعب أن يصاب المرء باليأس ويشعر بعبثية التحرك وأصعب منه أن يصل المثقف العراقي إلى هذه الحالة ويستولي عليه شعور بعبثية الكتابة فلم يعد لدينا ما نقوله بعد أن جفٌت الأقلام وبحٌت الأصوات من جرٌاء ما أصاب الصفوة المثقفة والنخبة الواعية في المجتمع العراقي، داخل وخارج العراق، من ذهول ويأس وإحباط. فلا نفع من كتابة المقالات والمداخلات التلفزيونية والإذاعية والظهور في وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية كالفضائيات العربية والأجنبية ومواقع الانترنيت وغيرها من طرق التعبير لاسيما إذا كان كل ذلك بلا طائل إذ كما يقول المثل العربي " الكلاب تنبح والقافلة تسير". ولكن هل حقاً يتعين علينا أن نذعن للأمر الواقع المفروض على العراق وشعبه بكل مكوناته وتنويعاته الدينية والقومية والمذهبية؟ وهل سنستسلم لواقع الاحتقان والاصطفاف الطائفي والعرقي؟ خاصة في أعقاب التصعيد في هذا الاتجاه القميء الذي تفاقم بعد إعدام صدام حسين واستغلاله إعلامياً، وعرض الفيلم الوثائقي " فرق الموت من يقف وراءها" الذي بثته القناة التلفزيونية البريطانية الرابعة وتلقفته منها قناة الجزيرة وإعادة بثه عشرات المرات في قناتها الرئيسية وقناتها الوثائقية وخصصت له برنامجاً خاصاً لمناقشة مضمون الفيلم هو البرنامج الشهير " الاتجاه المعاكس" حيث يتخندق كل طرف خلف متاريسه الفكرية والأيديولوجية والعقائدية والسياسية والطائفية والعرقية وينظر للآخر كعدو وليس كشريك له في الوطن وأنصع مثال على ذلك هو موقف وسلوك النائب البرلماني العراقي محمد الدايني الذي كان وراء مشروع الفيلم الوثائقي البريطاني تخطيطاً وتنفيذاً وكان هو المشارك الرئيسي في برنامج فيصل القاسم حيث لم يتردد في عرض صورة فوتوغرافية مفبركة ليعرض عملية تعذيب شخص في مسجد براثا كما يقول وبحضور رجل دين إيراني ولم يعرف أن رجل الدين الإيراني المعني هو السيد محمد خاتمي الرئيس الإيراني المعتدل الذي لا يمكن أن يشارك في مشهد مثير للسخرية كالذي عرضه السيد الدايني. إلى جانب تفاقم معاناة العراقيين الذي فرٌوا من الموت تاركين خلفهم كل شيء في العراق من بيوت وأعمال وأملاك ولجئوا إلى دول الجوار كالأردن وسورية ومصر ولينان وباتوا يتعرضون اليوم لمضايقات وتهديدات بالطرد والملاحقة وسوء المعاملة كأنهم مصابون بالطاعون ولا يعرفون كيف يتصرفون وماذا يفعلون وهم واقعون بين مطرقة قوانين الدول المضيفة وسندان الدولة العراقية التي تبدو وكأنها تخلت عنهم وغرقت في همومها الأمنية البالغة التعقيد والخطورة لاسيما وهي تسبح في بحيرة الفساد وإخطبوط الاختراق الأمني والإداري والعسكري.


كل الدلائل أشارت وتشير إلى أن العراق يغوص أكثر فأكثر في أوحال حرب أهلية ـ طائفية دامية وبشعة ومتوحشة قانونها التنكيل والتعذيب والقتل على الهوية والتمثيل بالجثث والتهجير القسري وإن كان البعض يعترض على مثل هذا التشخيص والتشاؤم بالرغم من وجود شكوك جدية تحوم حول فرص نجاح " إستراتيجية النصر الأمريكية الجديدة" إذ أن المشكلة ليست في مستوى القوى التي زُجٌت في الميدان بقدر ما هي المسلمة الأساسية التي تستند إليها " الخطة الأمنية الجديدة" التي نتمنى لها النجاح من القلب بيد أنها مبنية على قناعة الحكومة وقوات الاحتلال بوجود نوع من أزمة عسكرية مسلحة في العراق متمثلة بمواجهة بين حكومة تبدو ضعيفة عدة وعدداً وتمرداً مسلحاً خارجاً على القانون يفوقها تجهيزاً وتدريباً ودعماً خارجياً من دول إقليمية ومخابرات دولية عديدةبغية الإطاحة بهذه الحكومة الشرعية المنتخبة، رغم ما يشاع عن عدم نزاهة الانتخابات، وذلك تحت ذريعة محاربة الاحتلال والمتعاونين معه وتأخذ تلك الأطراف المتصارعة الشعب العراقي رهينة ويجعلوه يدفع الثمن نزيفاً يومياً من الدماء. والحال أن الجواب على هذه المسألة الشائكة لا يمكن إلا أن يكون سياسياً قبل أن يكون عسكرياً فأزلام النظام السابق المجرمين، وعناصر مخابراته وحرسه الجمهوري الخاص، وقوات حماية النظام الصدامي المنهار، ومعهم عصابات الجريمة المنظٌمة والمافيات المحلية، وكذلك مساهمات الانتحاريين العرب والأجانب والعناصر التكفيرية ذات المسميات المتعددة كالقاعدة وغيرها، بدت عازمة على تكثيف تمردها المسلح وتحدياتها للنظام من خلال تصعيد العمليات العسكرية والتفجيرات الإرهابية ضد السكان المدنيين العزٌل وتلويحهم بالمثابرة والاستمرار وأنهم لن يتوقفوا عن نشاطاتهم الإرهابية إلاٌ بعد تحديد تاريخ واضح ومحدد لخروج القوات المحتلة بغية الاستفراد بمن يمسك السلطة اليوم وإبادته أو تصفيته عسكرياً مهما كان الثمن ومهما كان عدد الضحايا الذين سيسقطون كما سبق لأعوان النظام السابق أن أثبتوا عدم اهتمامهم ولامبالاتهم بعدد الضحايا في صفوف الشعب العراقي في مجازر سابقة كالأنفال والدجيل والانتفاضة الشعبانية وغيرها من جرائم الإبادة ضد الشعب العراقي.


ومن جهة أخرى، وكردة فعل على الاستفزازات وعمليات القتل والتفجيرات والاغتيالات والخطف، تشكلت ميليشيات مسلحة جديدة إلى جانب ما كان موجوداً في السابق قبل سقوط النظام الصدامي واتخذت أسماء متنوعة " فيلق بدر، جيش المهدي، ثأر الله، جند السماء الخ " وأدت إلى إفرازات إجرامية منفلتة وكارثية ودموية تابعة لمختلف القوى المتصارعة " سنية أو شيعية أو كردية أو غيرها" والتي عرفت بـ " فرق الموت" وبثٌت الرعب في قلوب السكان وقامت بتصفية الكوادر العلمية والعسكرية والتقنية والأكاديمية والفنية والثقافية أو إجبارها على الهروب من العراق لتنقذ نفسها وتتشرد في المنافي هي وعائلاتها نساءاً وأطفالاً وشيوخاً وعجائز. كل ذلك يدور على الساحة العراقية في جو من الفساد الذي ينهش جسد العراق كالغنغرينة. وبدلاً من الحوار والتفاهم والمصالحة لجأت الجماعات السياسية والجماعات المسلحة إلى أسلوب الإقصاء والاستحواذ على مناطق النفوذ وعلى الوظائف والمناصب والأموال والممتلكات التابعة للدولة أو لوجهاء النظام السابق. والأخطر من كل ذلك هو لجوء كل طرف من تلك الأطراف إلى حلفاء إقليميين ودوليين لا يهمهم أمن واستقرار العراق وسلامة ووحدة أراضيه، بل يهمهم أولاً وقبل شيء مصالحهم وأمنهم هم وفق حساباتهم الإستراتيجية والعسكرية ولا يستثنى أحد من هذه الحقيقة.فالجميع يتصرف بغض النظر عن حجم الدمار الذي تسببوا فيه ولا يهمهم استشراء مظاهر الحرب ومناظر الدمار والخراب وانعدام الأمن والخدمات، والخوف من التفجيرات العمياء التي تستهدف المدنيين قبل العسكريين مما يجعل أمنية كل عراقي هي الخروج من هذا الجحيم أو الموت بسرعة وبصور جماعية كما قال أحد المثقفين العراقيين وهو يدعو من قلبه إلى إلقاء قنبلة ذرية على العراق وإزالته من الوجود كطريقة للخلاص لأنها الوسيلة الوحيدة لإنقاذ شعبه المظلوم من العذاب اليومي الذي لا يطاق.


من المسئول عن المأساة العراقية؟ هل هي دول الجوار؟ أم الإرهابيين والتكفيريين والصداميين والميليشيات المسلحة؟ أم قوات الاحتلال؟


الجواب هو كل هؤلاء ولكن بتسلسل مختلف فالمسئول الأول والأهم في كل ما يعانيه العراق من مآسي ودمار هو الاحتلال الأمريكي وقائده النزق الذي أدخل بلاده في مأزق لا مخرج منه. فهاهو رئيس الحرب يتعرض لاتهامات من داخل بلده أمريكا وبلغة التهكم بأنه " يعطي انطباع بأنه سائح ضائع في العراق" كما عنونت افتتاحية نيويورك تايمز وهي تعلق على إعلان " خطة جورج بوش الإستراتيجية الجديدة في العراق" ويبدي عناداً مرضياً في المضي بإستراتيجيته العسكرية وإرسال المزيد من القوات في حين أن 21500 جندب إضافي في بغداد والأنبار وغيرها من مناطق العراق المتفجرة لا يمكن أن يغيٌر من مجرى الأمور وفي سياق " عرقنة " الصراع داخل العراق" تبدأ الخطة الإستراتيجية الجديدة بإعادة أمركة الصراع كما أشار ريتشارد هاس من مجلس العلاقات الخارجية الذي يضيف بأن إرسال هذا العدد الإضافي من الجنود لا يشكل إستراتيجية جديدة وهو سيرفع عدد الجنود الأمريكيين إلى 155000 وهو مستوى سبق أن بلغته القوات وتجاوزته سنة 2005 ولم يتحقق شيء على أرض الواقع بل على العكس. فهذه الزيادة وما رافقها من جدل وسجال ليس سوى إسفاف إعلامي وإعلان رمزي لا طائل منه. فأغلب الخبراء والمختصين يتفقون أن الوضع في العراق يحتاج إلى ما لا يقل عن نصف مليون جندي مقاتل لكي يضمنوا استقرار وأمن العراق والخبراء في حرب العصابات قدٌروا أنه ينبغي توفير جندي لكل 40 عراقي مدني وبالتالي ينبغي توفير أمن 25 مليون عراقي يتطلب الأمر نصف مليون جندي مقاتل ومنذ الغزو إلى يوم الناس هذا يكرر الضباط الأمريكيون أن عددهم غير كافي للقيام بمهمتهم الثلاثية وهي" تنظيف واحتواء وبناء". ومن هنا نستشف أن الخطأ القاتل الذي ارتكبه الأمريكيون بعد غزوهم الغادر هو غياب إستراتيجية ما بعد الحرب أي إستراتيجية إحلال السلام. وبعد تفاقم الأوضاع يركزون الآن على المناطق الساخنة كالأنبار وديالى وصلاح الدين والموصل وكركوك إلى جانب بغداد بالطبع. الذي تطمح الولايات المتحدة الأمريكية لتحقيقه هو تمكين الجيش والشرطة العراقيين من الإمساك بزمام الأمور بمساعدتهم والتحضير للانسحاب المشرف الذي لا يعكس شعوراً بالهزيمة والهروب وهي النتيجة الحتمية المنتظرة لإستراتيجية رامسفيلد القائلة بالقليل من الرجال والكثير من الإمكانات وقد فشل هذا المفهوم في أفغانستان والعراق فشلاً ذريعاً. واليوم وفي سياق " حرب ما بعد الحرب". فالمأزق العراقي أرغم الاستراتيجيين الأمريكيين على نشر دليل جديد لمكافحة التمردات المسلحة وأحد الذين صاغ هذا الدليل هو الجنرال دافيد باتريوس الذي عينه جورج بوش خليفة للجنرال كيسي كقائد عام للقوات الأمريكية في العراق وقد بدأ عهده بتصريح متشائم عندما قال:" إن القوات التي تخوض عمليات ضد التمرد المسلح غالباً ما تبدأ بصورة سيئة عموماً بيد أنها في العراق بدأت بصورة سيئة جداً والخطأ لا يقع على عاتق العسكريين بل على عاتق السياسيين " إذ أن حل البنى العسكرية والأمنية العراقية السابقة وبصورة فورية وبلا أي تمهيد أو تحضير لبديليدفع الجميع ثمنه غالياً في هذه الأيام. لم يبق أمام العراقيين والأمريكيين على حد سواء خوض المغامرة الأخيرة التي إذا فشلت فسوف يترتب عليها ما لا يحمد عقباه أي انهيار الدولة والحكومة وهزيمة أمريكا وتشويه سمعتها فالجميع محكوم بالنجاح أو الزوال ونحن نأمل صادقين نجاح هذه المحاولة الأخيرة لفرض الأمن والقانون وتوفير الاستقرار والازدهار والعمل وإعادة البناء. المسئول الثاني عن مأساة العراق هي قوى الإرهاب بكل ألوانها وتنوعاتها وعلى رأسها عناصر النظام السابق المسلحة التي تعيث في الأرض العراقية فساداً وعنفاً وقتلاً وفوضى وخراب وحزن وألم ودموع وآلام ولا تأبه لمعاناة الناس وبنفس المستوى تقف القوى التكفيرية المتطرفة والإجرامية التي تمارس الإرهاب الأعمى وإثارة النعرة الطائفية وإبادة أغلبية الشعب العراقي لأنها تكفٌرهم وتخرجهم من أمة محمد. والمسئول الثالث هي القوى السياسية العراقية الداخلة في العملية السياسية والمتناحرة فيما بينها وتعمل لمصالحها الخاصة على حساب مصلحة الوطن العليا وترتكب الأخطاء تلو الأخطاء مما حدا بالشعب العراقي لأن يفقد ثقته فيها إلا إذا نجحت في خطتها الأمنية الأخيرة التي بدأت منذ قليل ووفرت له الأمن والأمان والعمل وإعادة الإعمار والخدمات الأساسية، عندها سيكون المواطن العراقي هو السند الحقيقي لها في ساعات الأزمات والخطر.

د. جواد بشارة

باريس
Jawd_bashara@yahoo/com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف