أصداء

ماركسيون يلقون براياتهم في الوحول

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

( 2 )

ما يفاجئني حقاً اليوم هو أن الدكتور سمير أمين يؤكد (في لقاء له مع شبكة زد نت 31 يناير 03) على أنه ماركسي، بل وأنه جزؤ من الحركة الشيوعية!! سمير أمين الذي كان قد رفض الفلسفة الماركسية (الديالكتيك)، قانون التطور الإجتماعي، عام 1985 في كتابه (أزمة المجتمع العربي) واشتهر اسمه في الغرب كونه مرتداً على الماركسية وأسسها الرئيسة يعود اليوم وبعد عشرين عاماً ليعلن أنه ماركسي بل وشيوعي أيضاً. إنه لأمر مفاجئ حقاً ويبعث على الدهشة. من يرفض الديالكتيك الماركسي ويطعن فيه لا يمكن أن يكون له إبتداءً أدنى علاقة بماركس. إعلان ماركسيته وشيوعيته اليوم ليس صادقاً فأي استعراض أولي لنشاطاته الحالية ولأفكاره حول مختلف المسائل المتعلقة بالنظام الدولي القائم وبحركة تقدم المجتمعات تكذب هذا الإعلان تكذيباً بائناً ـ وهذا أمر لا يتعارض مع الإقرار بأن لسمير أمين إضاءات مميزة أنارت مناطق ظلت معتمة في الفكر الماركسي.

الشاب يوسف فيساريونوفتش جوغاتشفيلي (ستالين ـ 22 عاماً ) كتب في العام 1901 تحت عنوان " الحزب الإشتراكي الديموقراطي الروسي وواجباته الملحة " ينتقد حزبه، حزب الإشتراكيين الديموقراطيين الروس، حزب بليخانوف ولينين، لتوجهه الفكري والدعوي إلى المثقفين الذين لا مصلحة لهم في الثورة الإشتراكية مهملاً العمال ذوي المصلحة الحقيقية بالثورة. في الحقيقة أن ذلك الخلل الذي انتقده ستالين مبكراً جداً ظل هو الخلل الأكبر في الحركة الشيوعية وهو ما انتهى بها إلى ما هي عليه اليوم. المثقفون ورغم كل ما يقال عن المثقف العضوي يظلون موئلاً لخيانة الثورة الإشتراكية إذ من الطبيعي أن يقاوم المثقفون تنازلهم عن ميزة التثاقف كمهنة ارتزاق، كما تقتضي الإشتراكية، بغير الإكراه. وليس أدل على ذلك من خيانة هؤلاء المثقفين، مثل نيقولاي بوخارين، للثورة الإشتراكية وقد اصطفوا بقوة وراء خروتشوف وهو يرتد على اللينينية وعلى الماركسية طيلة توليه السلطة 1954 ـ 1964 وصفقوا له بحماس شديد في الوقت الذي كان مشروع لينين في الثورة الإشتراكية العالمية قد بدأ يسجل نجاحات لم تكن في الحسبان في الحرب العالمية الثانية وما بعدها، فالفضل في حماية البشرية جمعاء من الوقوع في براثن النازية يعود فقط، وكما يعترف أخصائيو الاستراتيجية الغربية، للمشروع اللينيني بقيادة ستالين.

فاجأ خروتشوف قيادة الحزب وهيأته العامة في المؤتمر العام العشرين للحزب عام 1956 بفيض من الأكاذيب حول ممارسة ستالين لطقوس عبادة الفرد. لم يول ِالحزب الأهمية اللازمة لتلك الحملة الشعواء وأظهر استعداداً للتضحية بشخص ستالين رغم مآثره العظيمة من أجل تأمين سلامة تطور الثورة ـ ويجب ألا يغيب عن البال هنا أن خروتشوف ومن موقعه كمسئول عن تنظيم الحزب بعد رحيل ستالين كان قد حشد أزلامه في المواقع القيادية. كان على القيادة أن تسكِت خروتشوف وتطرده من قاعة المؤتمر ليس فقط بسبب أكاذيبه بل أيضاً بسبب مخالفته لأبسط قواعد نظام الحزب. تأخرت القيادة، المكتب السياسي، لأكثر من عام لتسحب عنه الثقة في حزيران 1957 فكان على خروتشوف إثر ذلك أن يتنحى في الحال عن مركز الأمين العام إلا أن دعيّ الديموقراطية في المؤتمر العشرين استعان بالعسكر وقام بما يشبه الإنقلاب العسكري بتدبير من الماريشال جوكوف وانتهى الأمر إلى طرد جميع البلاشفة الذين سحبوا عنه الثقة من الحزب ومن القيادة. ومن السخرية حقاً أن خروتشوف الذي نعى، كما ينعى شيوعيو البورجوازية الوضيعة اليوم، على عهد ستالين فقدان الديموقراطية قام بانقلاب عسكري للبقاء في القيادة بينما كان ستالين بالمقابل قد ألحّ على إعفائه من القيادة في المؤتمر التاسع عشر عام 1952. وما يزيد من مرارة السخرية هو أن مثقفي الأحزاب الشيوعية بمن فيهم القادة زادوا تصفيقاً لخروتشوف وما كان ذلك لينمّ إلاّ عن خيانة للثورة أكثر منه عن جهل في أبسط قواعد الماركسية.

بالرغم من أن إدارة خروتشوف كانت قد شكّلت بداية الطريق لانهيار المشروع اللينيني وأن هرطقات خروتشوف مثلت انحرافاً خطيراً عن السياسة اللينينية في عبور الإشتراكية، بالرغم من كل هذا فإن الشيوعيين من ذوي الأصول البورجوازية الوضيعة ليس فقط لم يعترضوا على الإنحراف بل هللوا له وصفقوا بحرارة لقائدهم " المنقذ " خروتشوف!! هؤلاء " الشيوعيون " الذين هيمنوا على القيادات في الأحزاب الشيوعية عامة هم الذين تسببوا بانهيار الإتحاد السوفياتي وهم الذين ما زالوا يخنقون ماركس ولينين كيلا تنكشف خيانتهم للإنسانية جمعاء وليس للمشروع اللينيني فقط. ما زالوا يدافعون، أو يسكتون على الأقل، عن تلك الخيانة التاريخية التي لا توازيها خيانة أخرى في تاريخ البشرية. نحن لا نظلم هؤلاء " الماركسيين الشيوعيين " ذوي الجلود البورجوازية الوضيعة طالما أنهم لم يعتذروا عن خيانتهم بل وبحرص بالغ يسكتون سكوتاً مطبقاً يثير الشبهات عما إقترفه خروتشوف من خيانة للماركسية اللينينية.

استولت هرطقات خروتشوف على "الماركسي الشيوعي" سمير أمين. بل إنه بـزّ خروتشوف في موضوع " اشتراكية " الفلاحين (!!) فعزا انهيار مشروع لينين إلى الإصلاح الزراعي الذي قام به الحزب بقيادة ستالين عام 1929 ثم أدار الأسطوانة الغربية المشروخة إياها حول دكتاتورية ستالين والبيروقراطية؛ وذهب بعيداً فطعن في الديالكتيك الماركسي وعاب على لينين استعجاله الإشتراكية في روسيا المتخلفة. اليوم يأتي أمين بنظرية جديدة ـ ولدى سمير أمين هواية جامحة في صناعة النظريات ـ تقول أن المشروع اللينيني استنفذ حدوده وبالمثل ثورة التحرر الوطني. ما يثير أكثر من تساؤل إزّاء مثل هذا الإدعاء البورجوازي المشبوه هو كيف استنفذت ثورة أكتوبر الإشتراكية حدودها ولم تستنفذ الرأسمالية حدودها بل انبعثت من جديد في إطار العولمة كما يقول أمين نفسه!! ما هي الحدود التي وصلت إليها ثورة أكتوبر؟ هل نقلت روسيا إلى النظام الرأسمالي أم أنها وضعت الأساس لقيام النظام الرأسمالي؟ كان أمين قد أكد أن سبب فشل مشروع لينين هو الثورة الزراعية عام 1929 ومصادرة أراضي الكولاك ـ وهذا بالمناسبة إدعاء لنيقولاي بوخارين في بداية الثلاثينيات كما عاد خروتشوف لنفس الإدعاء وقد أدّى هذا أخيراً إلى انهيار المشروع اللينيني ـ لكنه يعود اليوم ليدعي أن ثورة أكتوبر استنفذت حدودها وهو ما يعني أنها لم تفشل!! يبدو أن الدكتور سمير أمين لم يتعرف على الإشتراكية الماركسية وقد غلبت عليه السياسة اليسارية الفرنسية. بل أكثر من ذلك فإنه يجهل طبيعة النظام الرأسمالي طالما أنه تحدث سابقاً عن رأسمالية الدولة في الإتحاد السوفياتي وهو يشارك اليوم بوريس يلتسن في الوهم أن تمليك مشاريع الدولة لأشخاص يعني بصورة آلية الإنتقال إلى النظام الرأسمالي!! تعب لينين وهو يكرر أن الإشتراكية إنما هي محو الطبقات أي إلغاء علاقات الإنتاج نهائياً من المجتمع ليس لإقامة علاقات أخرى غيرها بل للعبور إلى الشيوعية التي لا تعتبر نظاماً إجتماعياً بمعنى نظام ذو معايير وقوانين محددة. الشيوعية مجتمع بلا معايير وبلا قوانين فيه كل الحريات لكل الناس. الشيوعية هي الفردوس لكن على الأرض. ممتهنو اللعب بالسياسة يزعمون أن الإشتراكية هي نظام اجتماعي عادل مستقر وهذا تضليل واستغباء للناس ـ كل الإشتراكيين غير الشيوعيين هم كذبة مخادعون فليس هناك نظام اشتراكي. أما النظام الرأسمالي فهو بناء إجتماعي يستغرق بناؤه مئات السنين وتتكون حجارته من مصفوفات قيمية وثقافية وحقوقية تترافق مع عادات محددة في الإنتاج وفي الإستهلاك وإعادة الإنتاج. خيار النظام الرأسمالي أعدمته نهائياً البورجوازيات الروسية عندما رفعت السلاح بوجه البلاشفة عام 1918 ولن يبعث من جديد في حال من الأحوال حتى لو امتلك آلاف الروس مليارات الدولارات. ثم إن التاريخ ليس غرّاً ليسمح للروس ببناء النظام الرأسمالي بعد انهياره في مواطنه الأصلية!! وعلامَ استند أمين ليدعي أن ثورة التحرر الوطني استنفذت حدودها؟ ما الذي حققته ثورة التحرر الوطني؟ في كتابه (أزمة المجتمع العربي) ادّعى أمين أن البورجوازية الوطنية لم تقرر نهائياً فك الروابط مع مراكز الرأسمالية وخانت ثورتها ـ كيف لطبقة أن تخون ثورتها!! لا أحد يعلم إلا أمين ـ لكنه اليوم يتخلى عن فكرة الخيانة ليدعي أن ثورة التحرر الوطني استنفذت حدودها! إلى ما وصلت؟ لا أحد يعلم حتى ولا أمين! الحق أن مثل هذه الإدعاءات لا تعيب إلا مدّعيها. لو سلمنا بصحة مثل هذه النظريات الصغيرة المصطنعة لتوجب علينا أن نسلم لفكرة تقول أن " التاريخ مكتوب على الجبين! " لكن أمين لا يسلّم بذلك طالما أنه يناضل من أجل تحقيق مجتمع " العدالة الإجتماعية الديموقراطية "!! وكي أتحاشى الدخول في شرح يطول حول زيف نظام " العدالة الإجتماعية الديموقراطية " فإنني أتحدى أمين وغير أمين أن يحدد علاقات الإنتاج في هكذا نظام.

كون أمين رجل ثقافة غزيرة لا يعني على الإطلاق أنه ماركسي وشيوعي كما أعلن. فهو ينشط اليوم نظرياً وعملياً لإقامة "النظام البديل" (Alternative) وعالم مختلف تسوده " العدالة الإجتماعية الديموقراطية " وعولمة إنسانية تشمل مجموعات مناطقية ؛ ويقوم على تحقيق كل هذا جبهة تضم قوى متباينة التوجهات كالتيارات السياسية والعقائدية التي تقاوم الليبرالية الجديدة والحركات النسوية والخضر وأنصار البيئة!!

أي ماركسي لديه أدنى إلمام بالماركسية يدرك تماماً أن مشروع أمين هذا ليس له أي علاقة بالماركسية. هذا مشروع بورجوازي تكلم عنه ليبراليو الثورة الفرنسية قبل أكثر من قرنين. ماركس تحدث عن ثورة تقوم بها البروليتاريا ( يا عمال العالم اتحدوا!) لإقامة دولة دكتاتورية البروليتاريا من أجل محو الطبقات وإقامة الحياة الشيوعية. العبارات التي استخدمها أمين في التنظير لمشروعه الجديد تدل مباشرة على أن السيد أمين نفسه لا يعرف طبيعة المشروع الذي يدعو لبنائه، لذلك يقول " البديل " و " عالم مختلف " بقصد تحاشي استخدام تعبير " الطريق الثالث " فيتماثل مع بلير وكلنتون وأمثالهما. غير أن " البديل " و " عالم مختلف " و " الطريق الثالث " هي أسماء لما لا إسم له! كما يلاحظ أن أمين لم يدع البروليتاريا إلى الإنضمام إلى جبهته المكلفة بإقامة " البديل " مما يؤكد أن لا علاقة لمشروعه بماركس.

ويدهشنا أكثر عندما يقول أن "البديل" اسمه "الإشتراكية"!! نعود لنؤكد مرة ثانية وثالثة بل والألف أن الإشتراكية ليست نظاما إجتماعياً بحال من الأحوال. إنها في الحقيقة اللانظام حيث لا يتواجد فيها علاقات إنتاج ثابتة وهي مرحلة لا تستغرق أكثر من 30 عاماً في أكثر البلدان تخلفاً تسعى خلالها دولة دكتاتورية البروليتاريا إلى تحطيم وإلغاء كل علاقات للإنتاج دون أن تقيم بديلاً لها ؛ إنها حقاً اللانظام وهي البرزخ للعبور إلى الشيوعية. هكذا قال ماركس، وأتحدى كل الإشتراكيين أن يقولوا غير ذلك!! أما أن يأتي الدكتور سمير أمين بفرق شتّى من البورجوازية الوضيعة مثل أنصار البيئة وأنصار المرأة ومناهضي العولمة من أجل تحقيق مشروع هم لا يعرفون هويته فهذا أمر لن يأتي بشيء ولن يتجاوز حد إعلان لبيان سياسي.

الطاعون القاتل المتفشي بدرجة مرعبة بين الماركسيين هو " التسيّس " أي إنقلاب الماركسي إلى مجرد سياسي يمتهن العمل في السياسة. لا يميّز هؤلاء الذين امتهنوا السياسة من الماركسيين أن ثمة إختلافاً نوعياً بين الماركسي من جهة والسياسي من جهة أخرى بل إن الماركسي يبلى في تابوت السياسة. السياسة هي مجرد أداة من أدوات الصراع الطبقي العديدة ؛ هناك ماركسيون لا يشتغلون في السياسة على الإطلاق ؛ وفي الحياة الشيوعية التي بشر بها ماركس حيث كل الناس شيوعيون لا أحد يشتغل في السياسة أو يتحدث بها على الإطلاق وذلك بسبب انعدام الصراع الطبقي وانعدام الدولة بالتالي. الماركسيون الذين إنقلبوا إلى سياسيين لم يعودوا ماركسيين على الإطلاق ولذلك تجدهم غير قادرين على قراءة تاريخ المشروع اللينيني أو التجربة الإشتراكية السوفياتية قراءة صحيحة وغير قادرين بالتالي على نقد التجربة السوفياتية. عبثاً يحدثنا هؤلاء في السياسة بعد أن إنقلبوا على ماركس وفشلوا في قراءة التجربة الإشتراكية السوفياتية. يزعم هؤلاء أن مشروع لينين للثورة الإشتراكية العالمية بدءاً من روسيا كان محكوماً بالفشل منذ البداية ويقول بعض هؤلاء، ومنهم سمير أمين، أن الثورة الزراعية التي قام بها ستالين عام 1929 كانت السبب في إفشال التجربة السوفياتية، كما يجمع هؤلاء وأولئك على أن غياب الديموقراطية كان السبب المباشر في انهيار المشروع. كل هذه القراءات هي قراءات سياسية بورجوازية تغيب فيها روح الصراع الطبقي. التاريخ امتحن مشروع لينين بقساوة بالغة الشدة ومع ذلك عبر كل الامتحانات بنجاح باهر، من الحرب الأهلية وحروب التدخل 1918 ـ 1921 إلى سياسة النيب والانتعاش الاقتصادي 1922 ـ 1926 إلى الثورة الزراعية 1929 ـ 1931 إلى التصنيع الكثيف 1928 ـ 1938 إلى الإنتصار الباهر على النازية 1941 ـ 1945 إلى إعادة البناء وتجاوز أوروبا الغربية الأقل تضرراً 1946 ـ 1951. لا يجوز بعد كل هذه الامتحانات العسيرة والقاسية أن نشكك بقابلية المشروع اللينيني للحياة طالما أن التكرار يعلم الحمار كما يقول المثل الشعبي. لو لم يقِم ستالين مجمّعاً عملاقاً للصناعات العسكرية حال عودته من بوتسدام 1945 ثم مات مبكراً أو أغتيل عام 1953 لما انتهى المشروع اللينيني إلى ما انتهى إليه. ظهر هذا المجمع العملاق أقوى من الحزب بعد رحيل ستالين فعزل مالنكوف من القيادة وأتى بخروتشوف عام 1954 وعزل جميع البلاشفة من قيادة الحزب لصالح خروتشوف 1957 وأطاح بخروتشوف لصالح مروّج السلاح بريجينيف عام 1964 وأطاح بالحزب وبغورباتشوف عام 1991 وأتى بيلتسن الذي قام بتفكيك الإتحاد السوفياتي وتهديم ما تبقى من مشروع لينين فوق الأرض، وما زال هذا المجمع الصناعي العسكري يمسك بكل السلطة في روسيا الإتحادية حتى اليوم، ولذلك لا تصادق روسيا من الدول اليوم إلا تلك التي تشتري منها الأسلحة مثل إيران وسوريا!!

السياسي سمير أمين يجافي كل منطق ماركسي حين يقول أن مشروعه للتغيير " العدالة الإجتماعية " يتطلب ديموقراطية حقيقية. والسؤال الذي لن يستطيع أمين الإجابة عليه هو.. ما هي الميكانزمات التي تقيم الديموقراطية في أي مجتمع؟ هل الديموقراطية تسبق التغيير أم التغيير يسبق الديموقراطية؟ وما حاجة الناس للتغيير إذا ما كان لديهم ديموقراطية؟؟ وهل تنبت عوامل التغيير في مناخ الديموقراطية؟؟ يجتر السياسيون مفهوماً خاطئاً للديموقراطية فيفهمونها على أنها مجموعة الحريات العامة كحرية القول وحرية المعتقد وحرية النشر وحرية التنظيم وما إلى ذلك، لكن هل تشكل هذه الحريات الميكانزمات القادرة على تنظيم المجتمع؟؟ أم أن وسائل الإنتاج وعلاقات الإنتاج (وسائل العيش) هي ما ينظم المجتمع وينتظم حياة الناس؟؟ وإذا كانت هذه الأخيرة هو ما ينتظم حياة الناس فلماذا لا تحدد هذه الميكانزمات مصفوفة الحريات الملائمة لها والتي تفسح المجال لتطورها؟؟ ينسى هؤلاء السياسيون أن ضرورة البقاء المعتمدة على ضرورة الإنتاج تسبق كافة الضرورات الأخرى. من المعيب حقاً أن أناساً يدعون الماركسية ويظلون مع ذلك أسرى قيود المثالية فيتهيأ لهم أنهم قادرون على تحقيق النظام السياسي أو الإجتماعي الذي يرتئون!! هم يجهلون أن خيارات الإنسان مهما كانت قدراته تظل محددة بالظروف السائدة.

ما سرني فعلاً من الأفكار الحديثة للدكتور سمير أمين هو أنه الماركسي الوحيد الذي وافقني على أن النظام الرأسمالي لا يمكن له أن يستمر في الحياة في غير بنية خلوية لها نواة وهي المركز المتروبول الإمبريالي ولها محيط وهو البلدان التابعة للمركز. لكن بدل أن يصل إلى ما توصلت إليه في اعتبار العولمة انهياراً حقيقياً للنظام الرأسمالي في العالم كله وقد كفت مراكزه الكلاسيكية عن أن تكون مراكز إنتاج وتحولت إلى مراكز استهلاك، بدل أن يصل إلى مثل هذه النتيجة الواضحة تعثر فادعي تارة أن العولمة إنما هي تجديد لحياة النظام الرأسمالي وتارة أخرى اضطر إلى الإعتراف إلى أن ماكينة النظام الرأسمالي لم تعد تعمل وهو ما سماه بالإنجليزية (Obsolescent Capitalism) وترجمته الحرفية " الرأسمالية المهجورة ". ويظهر أن ما اضطر الدكتور أمين إلى ابتسار مثل هذا الإسم ـ الذي لا يعمل أيضاً ـ هو افتراضه أن ليس بعد النظام الرأسمالي إلا النظام الإشتراكي ـ طالما أنه يعتبر الإشتراكية نظاماً اجتماعياً مستقراً ـ لكن النظام الماثل اليوم ليس هو النظام الإشتراكي بالتأكيد وليس هو النظام الرأسمالي الكلاسيكي المعروف، لذلك سماه الرأسمالية المهجورة أو الخربة. ومرة أخرى يقوم سؤال لا يستطيع سمير أمين الإجابة عليه وهو.. لماذا الناس بحاجة لنظام لا يعمل أو مهجور (obsolescent) كما وصفه؟ في مواجهة هذا السؤال يعاند أمين ويكابر معترفاً أن ليس لديه حتى الآن الإجابة وسيبحث عنها في المستقبل. والحق أنه لن يجدها على الإطلاق وكان عليه أن يقر بأن النظام الرأسمالي لم يعد موجوداً.

ما يفتقده " الماركسيون " بصورة عامة من ماركس هو الفلسفة المادية والمنطلق الذي يحدد صحة المسار. المنطلق الأولي لماركس في بحثه السياسي أو الإقتصادي أو الإجتماعي كان دائما أسلوب الإنتاج السائد أو قوى الإنتاج ومنها أدوات الإنتاج. انطلق أمين من مكان آخر ولم يلق ِ بالاً لقوى الإنتاج وأدوات الإنتاج السائدة اليوم. ولو فعل ذلك لوجد أن وسائل الإنتاج السائدة اليوم هي وسائل ليست رأسمالية حيث أن الإنتاج بمجمله في الدول الرأسمالية سابقاً لم يعد إنتاجاً رأسمالياً. حوالي 75% من مجمله هو من الخدمات بأنواعها. وسائل إنتاج الخدمات ليست من الوسائل الرأسمالية حيث يتم إنتاج الخدمات بدون عمال بروليتاريا وبدون رأسمال وبدون أدوات إنتاج أو مصانع وبدون مواد خام. انهيار النظام الرأسمالي تجسد في العولمة التي تفتقد الرافعة القادرة على إقامة نظام عالمي مكتمل القسمات. ما نراه اليوم هو اللانظام غير القابل للحياة (Inviable) أو الفوضى (Anarchy). إزّاء هذا يترتب على الماركسيين دون غيرهم ألاّ ينقلبوا إلى مثاليين فيقترحوا على الناس مشاريع وهمية وغرّارة كما يفعل السيد أمين في مشروعه " العدالة الإجتماعية الديموقراطية " وكثيرون غيره يقترحون " مشروعاً قومياً نهضوياً ". عليهم أن يعودوا إلى ماركس كي يستطيعوا الكشف عن قوى الإنتاج الفاعلة اليوم والتأشير إلى المعالجات الممكنة نحو تصويب مسار التاريخ وتصحيح العلّة.

فـؤاد النمـري
www.geocities.com/fuadnimri01

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف