على مفترق طرق!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
يبدو واضحاً أن كلاً من الإدارة الأمريكية والحكومة الإسرائيلية تتمترس في موقفها تجاه حكومة الوحدة الوطنية المزمع تشكيلها خلف شروط اللجنة الرباعية، وأن الطرفين يعملان على إجهاض اتفاق مكة الذي تم التوصل إليه بعد فترة عصيبة من الحوار المتقطع وصولاً إلى الصراع الذي سقط فيه العشرات وأصيب المئات من أبناء الشعب الفلسطيني. وهذا يبرز بشكل جلي عدم رضا الطرفان عن توقف الصراع بين أبناء البيت الفلسطيني الواحد. والذي لاشك فيه أن الإدارة الأمريكية كانت وراء إجراء الانتخابات التشريعية الفلسطينية الأخيرة التي أُجريت في 25 يناير 2006م، وأن هذه الإدارة هي التي ظللت الصعاب التي اكتنفت إجرائها لاسيما في القدس الشرقية، وأنها أصرت على إجرائها في موعدها بالرغم من محاولات الرئيس أبي مازن لتأجيلها. وقد أشارت التقارير آنذاك أن الإدارة الأمريكية كانت تقدر جيداً الفرصة الكبيرة لحركة حماس للفوز بهذه الانتخابات. وكل ذلك يعني أن الإدارة الأمريكية كانت معنية بخوض حركة حماس هذه الانتخابات وبالتالي الدخول في النظام الرسمي الفلسطيني الذي تم إنشاؤه بناء على اتفاق أوسلو والاتفاقيات الأخرى الذي تلته. وهي بذلك تهدف إلى ترويض حركة حماس كما تم ترويض حركة فتح منذ سبعينيات القرن العشرين. وعملت الإدارة الأمريكية على محاصرة حكومة حماس لاحقاً سياسياً ومالياً من أجل إخضاعها لشروط اللجنة الرباعية التي هي شروط دولة الكيان الصهيوني.
ومن هنا فليس غريباً على الإدارة الأمريكية أن تصر على موقفها الراهن طالما أنها وجدت أطرافاً فلسطينية وعربية تدور في فلكها. حيث أن الإدارة الأمريكية لن تتراجع عن موقفها إلا بترويض حركة حماس وفقاً للشروط الدولية. وهنا فإما أن تدخل حركة حماس النظام السياسي الفلسطيني وفقاً لاستحقاقات نظام أوسلو أو ستكون خارج هذا النظام. ومن الواضح أن حركة حماس بتوصلها إلى اتفاق مكة مع حركة فتح أعطت إشارة واضحة أنها ترغب بالبقاء ضمن النظام الرسمي الفلسطيني، وأنها ستشكل الحكومة الفلسطينية القادمة التي تنطلق في توزيع حقائبها بناء على نتائج الانتخابات التشريعية.
وبالرغم من أن موافقة حركة حماس على أن تلتزم بالاتفاقيات الموقعة واحترامها للشرعية العربية والدولية تعنى ضمناً أنها تعترف بدولة إسرائيل فإن الإدارة الأمريكية التي يتطابق موقفها مع الحكومة الإسرائيلية تريد الفوز في الحلبة بالضربة القاضية ألا وهو الاعتراف الصريح الذي لا لبس فيه بإسرائيل والتخلي عن العنف. وبذلك تكون الولايات المتحدة قد أخضعت حركة حماس إلى أصول اللعبة السياسية الأمريكية في المنطقة. ولا بد من الإشارة هنا أن الموقف الأمريكي المعلن بأن موقف الولايات المتحدة من حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية سيتحدد بشكل نهائي بعد تشكيل الحكومة ليس سوى تصريحاً دبلوماسياً ربما جاء نتيجة ضغوط من قبل دول عربية "معتدلة" حفظاً لماء الوجه.
وأن ما يراه البعض بأن الولايات المتحدة تريد قذف حركة حماس خارج النظام السياسي الفلسطيني، وأنها لا تريد حركة حماس في الحكومة الفلسطينية القادمة هو تحليل غير سليم. فالرؤية الأمريكية بهذا الشأن واضحة وهي القبول بحركة حماس ولكن وكما ذكرنا ضمن أصول اللعبة السياسية الأمريكية وليس خارجها. وهي في الوقت نفسه لن تقبل بأن تخلط حركة حماس الأوراق أو تغير أصول اللعبة. وقد أثبتت الشهور السابقة أن حركة حماس هي من تراجعت عن مواقفها وليس الإدارة الأمريكية.
وقد يرى آخرون أن هناك موقفاً أوروبياً مرحباً ولو بشكل خجول باتفاق مكة، وأن هناك أمكانية تعاطي بعض الأطراف الأوروبية مع حكومة الوحدة الوطنية، وأن هذا يشكل اختراقاً للحصار الدولي، فإنه من الواضح أن ذلك يعود إلى طبيعة العقلية الأوروبية الدبلوماسية التي ترغب بالانتصار والفوز ولكن من خلال أنهاك الطرف الآخر تدريجياً، وكسب النقاط الواحدة تلو الأخرى تمهيداً للفوز في المباراة بفارق النقاط دون الإجهاز على الخصم. وهذا بخلاف العقلية الأمريكية التكساسية التي ترغب بالفوز بالضربة القاضية وإنهاء المباراة بسحق الخصم، وتحقيق نصراً إعلامياً مدوياً بين الجمهور.
وبين الموقفين الأمريكي والأوروبي يتأرجح الموقف العربي أيضاً. فهناك دولاً عربية تتحفز للقضاء على مشاركة حركة حماس في النظام السياسي الفلسطيني حتى لا يشكل ذلك أنموذجاً يحتذى به داخلها. وأنها لا ترغب في نجاح نظام سياسي فلسطيني يقوم على التعددية، ومبدأ الشراكة القائم على تقاسم السلطة. ولذلك كانت تلك الأطراف تحاول الدفع بالساحة الفلسطينية نحو المواجهة بالرغم من تصريحاتها، وجهودها الميدانية للتهدئة بين الطرفين. كما أن هناك دولاً عربية أخرى تحاول تدجين حركة حماس، وإدماجها في النظام السياسي الفلسطيني تمهيداً لتفريغ الحركة من نهجها المقاوم، وهو نفس الأسلوب الذي اتبعته مع حركة فتح في سبعينيات القرن العشرين.
وهنا يجد الموقف الفلسطيني نفسه بين تناقضات عربية ودولية في ممارسة اللعبة السياسية. وسوف تعكس الممارسة على أرض الواقع في الأيام والأسابيع القادمة مدى تعامل الطرف الفلسطيني مع هذه التناقضات، وكيف سيستثمرها في تجاوز الواقع القائم أم العودة إلى الوراء ثانية. فأما أن يبلور القادة الفلسطينيون رؤية مشتركة تتحول إلى سلوك ممارس، وواقع معاش، وهذا بالطبع يتطلب موقفاً فلسطينياً موحداً وصلباً دفاعاً عن اتفاق مكة سواء على الصعيد الرسمي أو الشعبي. وأن يتم احتكام الطرفين إلى مبدأ الحوار قولاً وفعلاً لحل أي خلافات قائمة أو ممكن أن تستجد خلال التنفيذ. وأن يتم بناء جسور الثقة والتفاهم بين الطرفين على أرضية صلبة من حسن النوايا، والرغبة الحقيقية في تجاوز الأزمة السابقة وتداعياتها. حيث سيشكل ذلك تعزيزاً لمبدأ التعددية في النظام السياسي الفلسطيني سيتم الاستناد إليه في السنوات بل العقود القائمة. وأما تعود الأطراف الفلسطينية إلى التجاذبات والمحاور السابقة وما سينجم عنه من شرخ بل شروخ في الجانب الفلسطيني ستساهم في فتح ثغرة ستتوسع تدريجاً وتتيح الفرصة للتدخل السافر في الشأن الفلسطيني. وبالتالي يكون اتفاق مكة ليس خروجاً من أزمة بل دخولاً في أزمة أكثر عمقاً وأكثر متاهة. وكل ذلك يتطلب من القادة الفلسطينيين أن يدركوا ويحددوا جيداً من الأكثر أهمية والأكثر أولوية الآن الوحدة الوطنية أم اللهاث وراء مشاريع إسلامية أو أجندة خارجية تبيعنا أوهام وسراب سلام بعيد المنال، لم يتجاوز التصريحات والوعود إلى خطوات تمارس على الأرض. فالضغوطات بدأت تأخذ طريقها قبل وصول رايس وسوف تتضاعف مع وصولها.
د. خالد محمد صافي