أصداء

العراق: أمة تحتضر؟

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

في كل صباح تطالعنا الصحف العربية والأجنبية والفضائيات وباقي وسائل الإعلام المسموعة والمكتوبة والمرئية بأخبار الموت والدمار والتفجيرات والهروب الجماعي والفردي من الجحيم ولا أحد يأبه بما يدور كما لا أحد يفهم حقاً ما يدور وما يحدث. من يقتل من؟ ولماذا؟ وما هو الهدف؟ ليس بمستطاع أحد الإجابة على مثل هذه الأسئلة عن الحرب العبثية الدائرة هناك في بغداد وباقي المحافظات بين حكومة تدافع عن نفسها وتريد أن تبقى في السلطة بأي ثمن كان وقوى مسلحة متمردة ومتمرسة ومدعومة إقليمياً ودولياً ومجهزة بأفضل المعدات الحربية وممولة بالمال الوفير تعمل على إجهاض عملية التغيير ونسف العملية السياسية مهما كلف الأمر مما حدا بإحدى القنوات التلفزيونية الفرنسية المتخصصة بالسينما إلى تكريس برنامج المراسل الكبير لعرض فيلم وثائقي عن أسباب احتضار العراق قبل موته لا سمح الله. فلقد بات من الصعب اليوم إن لم نقل من المستحيل التحقيق بموضوعية وتجرد عن خفايا ما يحدث في الساحة العراقية سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وتتبع خيوط الفساد العنكبوتية والصفقات المشبوهة وتدخلات المخابرات الأجنبية والإقليمية والعربية وتلاعبها بالقوى العراقية المتصارعة فعمليات الخطف والقتل غدراً والقنص والتفجيرات بالسيارات المفخخة والأحزمة الناسفة والعبوات في الطرق والأرصفة والأسواق الشعبية والأحياء السكنية ردع الصحفيين المنصفين عن المحاولة لتقصي الحقائق على الأرض وتعريض أنفسهم للهلاك المؤكد والمحتوم المحتوم.
والقلة القليلة المتواجدة هناك داخل العراق متمترسة داخل غرف فنادقها المحمية أو تحت حماية القوات الأمريكية ولا ترى من الصراع الدائر سوى ما يراد لها أن تراه وتنقله إعلامياً. بيد أن الصحافي الفرنسي بول موريرا قرر الذهاب لوحده إلى العراق وإجراء تحقيقه من داخل البؤر المتفجرة والخطرة الكثيرة التي تعج بها الساحة العراقية لكي يفهم جذور هذه الحرب الأهلية التي لا يريد أحد الاعتراف بها كما أراد أن يعرف من يقتل من؟ وماهو دور الحكومة الإفتراضية أو الخفية في هذه المذابح التي ترتكب يومياً؟ وماذا يفعل الأمريكيون وهل هم فعلاً عاجزون عن صد أو وقف أو إحتواء دوامة العنف التي خلقوها بأنفسهم؟ وقد بات معروفاً أن الأمريكيين لم يأتوا لكي ينزلقوا في هذا الفخ العراقي الدامي بعد أن أنهوا مهمتهم بنجاح في إطاحة دكتاتور العراق السابق صدام حسين. ويواجهون اليوم لغة الأرقام المتباينة التي تدينهم حيث تقر الأرقام الرسمية المعلنة بسقوط 50000 ضحية بينما تقول أرقام منظمات دولية محايدة بسقوط 650000 ضحية من المدنيين منذ الغزو الأمريكي للعراق في آذار 2003. لقد أمضى الصحافي الفرنسي بول موريرا شهراً كاملاً هو شهر نوفمبر 2006 في العراق في ظروف بالغة الصعوبة والخطورة أكبر بكثير مما شهده بنفسه في زيارته الأولى للعراق سنة 2004 لكي يصور فيلمه ـ الشهادة الحية عن واقع العراق الدموي وقد رفض اختيار الأمان والراحة والتسهيلات التي توفرها القوات الأمريكية المحتلة للصحافيين الذين يعملون تحت مظلتها وفضل الانصهار مع السكان لنقل وجهات نظرهم ومعاناتهم الحقيقية فأطلق لحيته وارتدى الزي العراقي الشعبي ومعه حراس شخصيين يبدون كأصدقاء ويخفون أسلحتهم الخفيفة فالخطر قابع في كل زاوية ولا يمكن للمرء البقاء في نفس المكان أكثر من 20 دقيقة كما يقول، فالميليشيات من كل الأنواع والطوائف منتشرة في كل مكان حتى داخل أجهزة الدولة الرسمية والأمنية من شرطة وجيش والقوى الإرهابية تتربص بالجميع بلا رحمة إلا أنه بالرغم من هذه الأوضاع الشاذة أبدى العراقيون استعداداً مثيراً للدهشة لتقديم شهاداتهم وتحدي المخاطر وأغلبهم لديه انطباع بأنهم في بئر لا قرار لها ولا ينظر أحد لقاعها حيث الظلام ولامبالاة الخارج وقد تمكن الصحافي الفرنسي من استجواب طبيب عراقي مازال متشبثاً بآخر قشة له في أرض الوطن قبل أن تنقطع به السبل ويضطر إلى المغادرة إلى المنافي القاسية وكذلك استجواب عائلة تعرضت للتهديد المباشر من قبل عناصر القاعدة المجرمين وكانت العائلة شجاعة للتحدث عن ماساتها وطلب المساعد لعل أحداً يسمع استغاثتها ويهب لنجدتها. الكل في العراق يأمل في الرحيل ويتطلع إلى مغادرة البلد بأسرع وقت ممكن لو أتيحت له الفرصة فلقد تجاوز عدد المهجرين والمهاجرين إلى خارج العراق المليونين بواقع 50000 شهرياً كمعدل متوسط وتهجير
1800000 عراقي داخل بلدهم وطردهم من بيوتهم وأماكن سكناهم وعملهم التي عاشوا فيها عشرات السنين ويموت يومياً 100 شخص على الأقل كمعدل وسط قبل البدء بالخطة الأمنية الجديدة ولكن لا أحد يأخذ في الحسبان هذه الأعداد الهائلة من الضحايا في وسائل الإعلام الأجنبية والدولية حتى لو تحدثت وسائل الإعلام عن العراق في كل يوم في نشراتها الإخبارية. وكان أغرب ما تطرقت له بعض وسائل الإعلام المكتوبة والتي توزع مجاناً في محطات قطارات الأنفاق الباريسية عن استخدام الشيعة والسنة في العراق لبرنامج غوغول أرث من أجل التنقل داخل العاصمة العراقية أو من أجل رصد الأحياء التي ينبغي قصفها بالهاونات فهل هناك أكثر من هذه اللعبة العبثية؟ فلكي ينتقل المواطن العراقي داخل بغداد يلجأ إلى استخدام خرائط المدينة التي يبثها برنامج غوغول أرث عبر الأقمار الصناعية عن كل شبر في كوكب الأرض ومنها بالطبع مدينة بغداد. ويذكر المقال المنشور في صحيفة ماتان بلوس المجانية
أن صدام حسين كان يمنع نشر خرائط عن مدينة بغداد ولا يتوفر حالياً سوى الصور التي تلتقطها الأقمار الصناعية وقد استخدمت بعض القوى المسلحة الشيعية في جنوب العراق هذه الصور لمعرفة موقع القواعد البريطانية في الجنوب بدقة وقصفها. كما تم نسخ تلك الصور والجوية والخرائط على أقراص مدمجة وبيعها أو توزيعها مجاناً لمعرفة النقاط الساخنة والانتماء الطائفي لهذا الحي أو ذاك حيث تمت إضافة معلومات بالعربية طبعت فوق الصور وبالأسهم الإرشادية تحذر المواطنين من خطر المناطق التي تدور فيها المواجهات العسكرية المسلحة أو التي تشير إلى وجود جامع يسيطر عليه المتمردون المسلحون أو التكفيريون المستعدون لقتل المارة أو خطفهم. وكما ذكر عقيل حسين في صحيفة الديلي تلغراف البريطانية أن بعض الميليشيات استفادت من هذه الصورة والخرائط الجوية الحيٌة لحساب أفضل موقع لنصب المورتر لضرب هذا الحي أو ذاك بينما أكد آخرون أنهم استخدموا هذه المعلومات لكي يتفادوا المرور عبر المناطق الخطرة ولتنويع مسار تنقلاتهم بين الأحياء في ذهابهم وإيابهم بين البيت والعمل أو لتشخيص أحياء تسكنها غالبية من الطائفة المغايرة. وقد سجل إقبال شديد من قبل العراقيين ممن يمتلكون أجهزة كومبيوتر وخط انترنيت على هذا البرنامج المجاني الذي وفرته غوغول منذ نوفمبر 2005. ووفق شهادة الطالب حسين ذو الـ 22 عاماً يحسب كل صباح بواسطة غوغول مسار ذهابه إلى الجامعة وعودته منها في بغداد واعياً إلى أن الخطر ليس ثابتاً في مكان واحد بل متنقل لذلك فهو لايأخذ نفس الطريق المؤدي إلى الجامعة في يومين أو ثلاثة متتاليين بل يغيره باستمرار وعند سماعه بوقوع معارك يستشير برنامج غوغول أرث للعثور على خط سير آخر بديل ولأنه شيعي فهو يتفادى المرور بالقرب من أحياء سنية أو أمام جوامع سنية كما يقول خوفاً من وجود حواجز وهمية خارجها تعمد إلى خطفه وذبحه بعد تعذيبه على حد تعبيره والعكس صحيح بالطبع، بينما يقوم سائق تاكسي باستشارة برنامج غوغول لتفادي مناطق الازدحامات. هذا هو الكابوس والهاجس الذي يسيطر على عقول وأذهان العراقيين، بكل انتماءاتهم يومياً. وهذا البرنامج يوفر إمكانية رؤية الجانب الآخر من المدينة بسبب اختفاء أغلب معالمها وراء الحواجز الكونكريتية والترسانات الإسمنتية العالية لحمايتها من الخطر الإرهابي الجاثم فوق صدر السلطات العراقية وقوات الاحتلال فكثير من الطرق والشوارع والجسور مقطوعة أو محاطة بالجدران الكونكريتية العالية. وهكذا يمكن استخدام هذا البرنامج للأغراض السلمية والمدنية والأغراض العسكرية والإرهابية.
ويبقى السؤال مطروحاً لماذا كل هذا العنف والوحشية والتدمير الذاتي وطغيان الحزن والألم وغياب السعادة والفرح من عيون الأطفال والشباب، النسوة والرجال، الشيوخ والعجائز، ومن المستفيد من هذا الخراب؟ إنها القوى الظلامية وأعوان النظام المدحور حسابات الدول الأجنبية والمجاورة ومصالحها التي تؤمن على حساب مصالحة العراق وأمنه واستقراره ووحدة وسلامة أراضية وشعبه.

د.جواد بشارة

باريس
Jawad_bashara@yahoo/com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف