مَن يسرق الدهشةَ منا؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
ماذا لو وجدت نفسكَ تحلقُ في لحظةٍ عاصفة تتضرج اشتعالاً بالخيال المتوهج، بالتأكيد ستجدها لحظةً تشي بجنون الدهشة، فاللحظة الهاربة من حصار الواقع حينما تمتزج بالخيال المكثف، تكون النتيجة الطبيعية أن تعتلي الدهشة تخوم الجنون، حيث تصبح الأشياء هناك متاحة لكل الاحتمالات والتطبيقات والولادات المتجددة، ولكل التفسيرات الخارجة عن حدود الواقع وسطوة الأشياء..
فمنذ الأزل، والأشياء هيَ الأشياء، والطبيعة هيَ الطبيعة، وحركة الكون هيَ ذاتها نفس الحركة، فلم تكن الأرض في يومٍ من الأيام غير الأرض التي كانت، ولم تكن السماء غير السماء التي كانت، وكذلك بقيت الشمس هي الشمس وبقيَ القمر هو القمر، وبقيَ الإنسان هو الإنسان، يتحرك في كل تلك المدارات، يشاهد انسلاخ الليل من النهار، ويشاهد النهار يتلحف بستار الليل وهو يعلم تماماً بحكم الطبيعة والعادة واليقين المطلق أن هناك نهاراً آخر ينتطر معانقة ليلٍ آت، وبقيَ أيضاً يتابع شروق الشمس من غياهب العتمة، وغروبها في رحم الظلمات، وبقيَ الإنسان يعرف أن الأمطار ستأتي وأن الأزهار تكبر وأن الشتاء والربيع والخريف والصيف فصول تتوالى في كل عام، ولم يكن صعباً أومستحيلاً أوغامضاً أو مشوشاً على الإنسان أن يصف أويشرح أو يتوقع أو حتى يتخيل كل ذلك..
ولكن كيف يكون عليه الإنسان حينما يريد أن يقول كل ما يتماوج في كيانه، أو كل ما يشعر به، أو كل ما يفكر فيه أو يتخيله أو يتحسسه، أو كل ما يمور في ذاته، هنا الأمر بالنسبة له في غاية التعقيد والإشكالية وربما الغموض، وربما الشك والتردد والارتطام العنيف بالواقع، الواقع الأصم للأشياء، وربما يصبح عليه في بعض الأحيان اللجوء إلى عوالم شاسعة تتمدد في الاستخدام المتعدد والمتنوع للألغاز والتوريات والعموميات الفضفاضة، لأنه يتحرك في الحياة ويتفاعل مع الوجود ويتعامل مع الأشياء بمنطق المعرفة المسبقة والتجارب المتراكمة، وليس تحت انبهارات اللحظات المتدفقة بتفتحات الدهشات الأولى، فالحياة بالنسبة له كاللوحة الكبيرة التي يستطيع أن يراها من كل زاوية وهي ذاتها اللوحة التي كشفت له عن كل جوانبها وعن باطنها وظاهرها وعن الكثير من ألوانها، ولم تعد مبهرةً له في شيء، أو في جانب ما أو في زاوية ما أو في أفق ما، والسبب ربما لأن معرفته وخبرته وتجربته تفسد أية دهشة، على اعتبار إنها أي الدهشة في رصيده المعرفي تقف عند المقاس صفر في حسابه اليومي، أو تتجاوز هذا المقاس بدرجات قليلة، وأعترف أن مصطلح المقاس صفر، ليس لي، إنما هو ما أدلت به الممثلة البريطانية الحسناء ( كيت وينسلت ) في معرض انتقادها للمقاس صفر، الذي تعتمده عارضات الأزياء..
وبعيداً عن لعبة المصطلحات، نجد أن الإنسان في الأغلب الأعم، يفضل أن يعود من حيث أتى، وأن يرجع إلى حيث كان، وأن يستقر في المكان الذي أوجد نفسه فيه، وأن يبقى على القديم خوفاً من الجديد، وأن يتكلم في الماضي تهجساً من المستقبل، وأن يستعين بالخبرة المطمئنة بدلاً من أن يقتحم تخوم الدهشة والتأمل، ولذلك ربما نشعر بالملل من الحياة، ونشعر بقسوة الروتين، ونشعر بالألم في أحيان أخرى، بسبب عدم قدرتنا على تجاوز هذا الواقع، وإن فكرنا بتجاوزه تبقى المخاطر والعواقب غير المتوقعة أو غير المحببة أو غير المطلوبة، تحف بنا من كل حدب وصوب وتترصد كل خطوة من خطواتنا، ولذلك يبقى الإنسان يغوص في التفاصيل، ويبحث عنها، بل ويستميت في اجترارها أو تكرارها أو الدوارن حولها أو تغذيتها بمزيدٍ من التفاصيل المتلاحقة، هروباً من أن يعود به الزمن إلى النقطة الأولى ما قبل السطر، أو إلى النقطة العدم، أو إلى النقطة المجردة من تفاصيل التجربة الذاتية، أو إلى النقطة البكر، لأنه في هذه الحالة عليه أن يترك التفاصيل جانباً ليغوص في صور التأملات الأولى للأشياء الفسيحة من حوله، وأن يبحث فيها عن سطوع الدهشة المباغتة، متخلياً عن عادته الدائمة في النظر إلى أثر وقع خطوات قدميه في الرمال، بينما الدهشة من فوقه تكبر حثيثاً، في الفسيح والممتد من الأشياء ومن الحقائق ومن الصور المتعددة الكثيرة والشاسعة..
وربما الخطوة ما قبل الأولى تكون مفعمة بجرأة المراهقة وبإحساس اللذة المشتهاة، وقد تكون أيضاً ممتلئة بزخم الانفعالات العالية، وهيَ بالتأكيد تكون مترعة بحلم الاقتحام المتوهج، لأن الخطوة في هذه الحالة لا تخشى الفقد، فقد الإثارة والتشويق والمغامرة، بل ستكون مشتعلة بشرارة الإثارة، ولا تتهيب من التجربة، وليست متأثرة بالرصيد المعرفي الحامل للتوجسات والمخاوف، وبذلك تدخل الخطوة إلى عالم الأشياء وإلى أعماقها من دون أن تجد في ذاكرة الأشياء صوراً تتشابه أو مساحات تتساوى في الكم والكيف، أو من دون أن تكون الخطوة قد تعرفت على صور الأشياء كما هي دائماً أو كما كانت من قبل، صور مختزلة في الذاكرة وفي الوجدان وفي حركة الحياة، ولذلك قد يكون السؤال اللاحق من هذا المقال، يحمل ربما بعض المنطق أو ربما بعض العبث، أو ربما يأتي متوهجاً بومضة الدهشة الأبدية، أو ربما ببهجة استطعام مذاق الأشياء في ثمرتها الأولى، وعليهِ ربما يكون منطقياً لو طرحنا سؤالاً يهبُ هذا المقال شيئاً من جدية الواقع وامكانية التحقيق، وشيئاً من مصداقية التجريب على المستوى الذاتي، وشيئاً من تجربة الاحتمالات الممكنة، وهوَ : ماذا لو أصبحنا بلا ذاكرة، والذاكرة هنا ليسَ بمعنى الخيال الذي يبقى الإنسان يختزله في اللاشعور، بل بمعنى تراكم التجربة الشخصية وتراكم الكم المتعدد من المعرفيات والصور وغير ذلك، وقد يكون من قبيل العبث أن نسوق سؤالاً كهذا دفعةً واحدة، وذلك لأن الشخص، أي شخص ليس بمقدوره ولو للحظة خاطفة أن يبقى منعزلاً عن ذاكرته، فقد تغيب في أحيان كثيرة صور الأشياء عن ذاكرته بحكم تبدلات الطبيعة ولكنها في النهاية قد تعود، وفي هذه الحالة قد يكون مهماً جداً أن يعرف كيف سيكون عليه هوَ حينما تعود إليه مجدداً صور الأشياء، وحتى لو بقيَ منفصلاً عن ذاكرته للحظات، فأنه بالتأكيد سيتحرك بذاكرة مؤقتة، تنشأ معه بديناميكية عالية ومتسارعة ربما، ولذلك أجد أن السؤال الأنسب ربما في هذا المجال هو : ماذا لو إننا جربنا أن نتجرد من نمطية الإجابات المعتادة، أو بمعنى آخر، ماذا لو حاولنا أن نفهم الأشياء على غير ما هيَ عليها في المعتاد والواقع، ولكي نملك أن نذهب بعيداً في استجلاء مساحات أكثر دهشة وأكثر متعة ولذة، وأن نملك أن نعتاد الذهاب إلى المساحة البكر، علينا أن نحاول الحركة في مدارات الأسئلة التي تتخلق في زمن ما قبل المعرفة، أي ما قبل أية مستويات معرفية قد يكون عليها الشخص، وبمعنى آخر أن نطرح الأسئلة على أنفسنا حول ماهية الأشياء وحقيقتها وخلفياتها وحتى رمزيتها وحدودها معنا وحدودنا معها، تلك الأشياء التي تتداخل فينا وتتعايش معنا، ونقترفها بكل الاصرار والمتابعة والترصد، أن نطرح الأسئلة حول تلك الأشياء ونحن كالأطفال ربما في زمنهم الذي يتخلق بدهشة الأسئلة وتدفق المعرفة، متحررون تماماً من سلطة المخزون والموروث المعرفي، ومن المعاني البديهية للأشياء، ومتحررينَ أيضاً من رصيد الافهامات المسبقة، حينها كيف سنكون.؟ أو أين سنقف من حدود الأشياء، بالطبع ما نحمله في هذه الحالة من رصيد ضئيل في المعرفة حول طبيعة الأشياء وصورها، سيترك مجالاً واسعاً لنفاذ ضوء الدهشة والتماعات التأمل المعرفي المتجدد، حينها سنفتح النافذة تلو النافذة والباب تلو الباب والجدار تلو الجدار لمزيدٍ من ذهول الدهشة وغواية التأمل المعرفي، ولمزيدٍ من الهواء والضوء، ولذلك ليس غريباً أن نجد الدهشة عند الأطفال تتزايد وتتكثف مرحلةً بعد مرحلة، وخطوةً بعد خطوة، وتجربةً بعد تجربة، من غير أن يكونوا مكبلينَ بقيود الهواجس والتوجسات ورصيد المعارف المتراكمة..
هل جربنا أن نكون دائما في المساحة البكر من المعرفة والمعارف، لنكتشف كم هي الدهشة في هذه الحالة ممتعة ولذيذة وساطعة بالتأمل ومرصعة بالاكتشاف الجديد، وهل جربنا أن نكون في العراء، العقل العاري إلا من ضوء الدهشة والتأمل، حيث الأشياء هناك تنتظرنا بكل مهابتها العميقة، وبكل تلويناتها المتعددة الساطعة، وبكل جوانبها الأخرى البعيدة عن المباشرة والسطحية، وهل ستختلف في هذه الحالة نظرتنا حول الأشياء، وإلا فعلى سبيل المثال، ما معنى، أو أيّ معنىً شديد التوقد يتجلى في أن يكون للمطر ( أنشودة ) يترنّم بها السياب، لتصبح واحدةً من أعمق المعاني توهجاً بالإنارة في ذاكرة الشعر، هذا المطر الذي فتح له السياب نوافذه الشعرية الكثيرة وأخذ يتأمله بكثيرٍ من الدهشة والذهول والمتعة وبكثيرٍ من الحزن الفاخر، ربما لأن المطر جاء إلى السياب بلا ذاكرة مسبقة أو ربما تعامل معه السياب بطقوس الذاكرة البكر، فكانَ أن منحه كل هذا التبجيل والفخامة والخلود..
وهكذا، ربما حينما تغيب الأشياء عن ذاكرة الإنسان في صورها المعتادة والمكررة والنمطية، وتكون واقعة في المربع المجهول من رصيده المعرفي، وتكون عارية من تفسيراتها السابقة والمسبقة وتتخلق من العدم، قد يتحسس حينها وجودها وجوانبها ومعانيها وصورها انطلاقاً من كمية الدهشة بها، وقد تكون الدهشة هنا طريقه الأجمل والأمتع لاكتشاف الأشياء في صورها ومعانيها وألوانها الجديدة والمتجددة والمتعرية من أية أطر سابقة..
محمود كرم
كاتب كويتي