ثقافةُ استحالةِ الحوارِ
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
الثقافةُ هي الإلمامُ بمعارفٍ متعددةِ واستيعابِها، ولو كانت علي خلافٍ مع المعتقداتِ الشخصيةِ، هي الاقتناعُ بحقِ الآخرين في الاختلافِ وبضرورتِه. الثقافةُ ليست بالمؤهلِ العلمي مهما علا، ولا هي بكرسي سلطةِ ولو تضخمت؛ ما كان بن خلدون ولا عباس العقاد ولا محمد حسنين هيكل من حملةِ الدكتوراة، لكنهم من العمالقةِ، كم من ملوكٍ ورؤساءٍ نضحَت ألسنتُهم بضحالةِ ما بدواخلِهم. الثقافةُ سمةُ أفرادٍ وشعوبٍ، إنها تورثُ من جيلِ إلي ما يليه، بقدرِ ما تشيعُ تسمو المجتمعاتُ، حكاماً ومحكومين.
شاعَ مصطلحُ الثقافةِ علي ما هو جيدٍ وما هو ردئ، فإذا عمَ الوعيُ سياسياً واقتصادياً واجتماعياً فإن ثقافةَ المجتمعِ هي الاستنارةُ والانفتاحُ، أما إذا استشري الجهلُ والعنفُ والفسادُ فإن ثقافةَ المجتمعِ هي الانغلاقُ والقمعُ. مصطلحُ الثقافةِ استُخدِمَ في الحالين بمعنيين مختلفين، مرةٌ للدلالةِ علي التقدمِ وأخري للتأكيدِ علي التخلفِ. دعاني لهذه المقدمةُ ثقافةُ مجتمعاتنا، فهي ثقافةٌ وفقاً لأحدِ التعريفين، لكنها واقعاً قمةٌ في الجهلِ والانحطاطِ الفكري والأخلاقي.
لنبدأ ببساطةٍ في متابعةِ التعليقاتِ علي المقالاتِ أو أثناء أي نقاش اِفتُتِح هادئاً، الشرارة تبدأ بردٍ علي مقالةٍ أو رأي يستفزُ آخرين، ينشغلون عن المقالةِ أو الموضوع الأصلي إما بالتشاتمِ أو بالجنوحِ إلي فرعياتٍ بعيدةٍ، كأن كلً يغني علي ما بداخلِه، إنها مجردُ فرصةٍ لإخراجِ ما بالصدورِ في أي موضوعٍ، جنوحٌ عن آدابِ الحوارِ وحقِِ الاختلافِ إن خالفت المقالةُ أو الآراءُ ما يُعتقدُ صواباً، احتكارٌ كاذبٌ للحقيقةِ والعقلِ والمعرفةِ، اتهاماتٌ بالكفرِ والجهلِ والخيانةِ، لو كان المعلقون في مواجهةِ بعضهم البعضِ لتقاتلوا بكلِ ما هو ممنوعٍ.
أسلوبُ النقاشِ، البعيدِ عن الحوارِ، مجردُ مرآةٍ لثقافةِ المنطقةِ العربيةِ والإسلاميةِ، قتالٌ وصراعٌ في كلِ مكانٍ، الدماءُ تسيلُ أنهاراً، بأيدي من يُسمون أشقاءً، في فلسطين، في العراق، في لبنان، في الصومالِ، في السودانِ. إذا لم يتقاتلوا فتهديدٌ به، الأوضاعُ دائماً علي الحافةِ، علي وشكِ الانفجارِ، الكلُ متربصٌ متحفزٌ، القتالٌ علي مسافةٍ بعرضِ شعرةٍ. قتالٌ لكلِ سببٍ، سياسيٍ، دينيٍ، اجتماعيٍ، اقتصاديٍ، حتي رياضيٍ كما حدثَ لمنتخبِ الكرةِ الخماسيةِ المصري في ليبيا.
لا يمكنُ الركونُ لنظريةِ المؤامرةِ، فالخطايا ضاربةٌ في الجذورِ، رفضُ الحوارِ متوارثٌ عبرَ التاريخِ، تاريخٌ لا يكذبُ، فيه الاقتتالُ قبلَ ظهورِ الأعداءِ، قبلَ أن يفكروا في التآمرِ. وإذا سلمنا بنظريةِ المؤامرةِ، فأين العقولِ؟ أإلي هذا الحدِ بلغت غفلةُ الانخداعِ؟ نظريةُ المؤامرةِ خداعٌ للذاتِ، لتسبيبِ كُرهِ الحوارِ والعقلِ، لإضفاءِ الشرعيةِ علي رفضِ الآخرين، لاحتكارِ الصوابِ.
وصلت الأمورُ لطريقٍ مسدودٍ، لا يؤدي إلا إلي مزيدٍ من التخلفِ والتآكلِ، إلي الانقراضِ المحتومِ.
ا.د. حسام محمود أحمد فهمي