ضرورة طلاق السياسة للدين
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
في حفل توقيع الاتفاق المبرم بين "الإسلاميين" والمرشح صالح ولد حننه، تَواردَ الخطباء على المنبر، فشقّقوا الكلام وأرسلوه، وأبدعوا ما شاءوا في استثارة جمهورهم بما معناه "أن الإسلام السياسي هو الحل" وأوردوا، مُشتَمِلين، مقولة الإمام مالك "أنه لن يصلح ءاخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها".
وهو أمر رأيت أنه يحتاج لأن يُعطى نصيبه من النقاش، ما دام خطابَ مرشح للرئاسيات المقبلة. ومنهجا فكريا لتيار سياسي صاعد، يأكل في عقول شبابنا، كما تأكل النار في الهشيم.
وهنا أريد أن أسجل احترامي الكبير لـ"لإصلاحيين الوسطيين"، واعتزازي بصداقتهم، وتقديري لإيمانهم العميق بحرية الرأي والتعبير. وعسى أن لا يفسد اختلافنا في الرأي للود قضية.
فمن أجل استجلاء حقائق الأشياء، يكون من واجب المتطلعين لتعايش سياسي سلمي أن يملكوا الشجاعة لمناقشة كل "العقائد"، من دون القبول بأن توجد، بين المتحاورين، محاذير فكرية:
الحقيقة أن للإنسان، منذ وجوده الأول، جَوعَة روحية، لمعرفة خالقه، وعلة خلقه إياه، ومعنى وجوده وسره.. وهي أسئلة ملحة، تجد شفاء غلتها من أجوبة الدين. بعد أن تَقُوده حيرتُه وتدلّه إلى أن يروي ظمأه الروحي بعبادة الشمس والقمر والنجوم والحجارة.. وسواها مما يعتبره المتصوفة المسلمون من أمثال ابن عربي "تجليات للخالق".
وبدون أن تباشر بشاشة هذا الأيمان الغيبي قلب الإنسان، تستحيل طمأنينته وراحة باله.. مما يفضي لليأس الذي يدفع غالبا للانتحار وله أيضا جوعته المادية لمطعم ومشرب و راحة جسم، وتقع مسؤولية البحث عن هذا الرفاه المادي على عواتق أرباب الدنيا من مزارعين ومهندسين وأطباء ورجال اقتصاد.. ومسؤولية الدولة أن ترعى وسائل البحث عن ذلك الرفاه الجسدي وأن تشجعه وتقنّنَه وتشرف على تنظيمه.
ويقتضي المنطق والفطرة السليمة والآراء القويمة لرجال الدين المنصفين أن لا تداخل ما بين الحيّز الديني والدنيوي، إلا بما يفرضه الدين والحس الإنساني السليم من تحل بالأخلاق الفاضلة، في كل أنواع التعامل.
لقد أنزل الله لهداية العباد إلى دينه كتبا مطهرة على أنبياءَ كرام، فشفت الغليل في ترسيم معالم تلك الطريق.. أما شؤون الدنيا فأوكلها إلى مصالح البشر وتراكم تجاربهم، التي وصلت في سيرورتها الأبدية إلى عصر الذرة والحاسوب وسيارة اللاكزس وتقنية الديجيتال، وتصاميم سملتو ولاكروا وكارل لاجريفيليد.
ولو شاء الله لأنزل علينا كتابا نتسنم به باذخ الحضارة والمدنية، من دون تعب ولا كَلَل في التجربة والاختراع.
إننا نحن البشر، بمؤمننا وكافرنا، هم صناع الحضارة، وعلينا مسؤولية تنظيمها.. علينا مسؤولية تطوير الاقتصاد وازدهار مناحي الحياة وترسيخ أسس الحضارة الإنسانية وصونها ورعايتها.. تلك هي وظيفة السياسة في بحثها الدؤوب عن الرفاه المادي للإنسان.
وقد رفض الإمام علي كرم الله وجهه امتزاج وظائف الدنيا بالدين حين قال "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا" جاعلا من العمل الدنيوي قسيما للعمل الأخروي و"قسيم الشيئ غيره ضرورة".. فدعا من يعمل لدنياه إلى برغماتية يَعتَبٍر فيها نفسَه مُخلّدا، و"المخلد أبدا" متجرد من علائق الدين. أما في حيز آخر (الحيز الديني الشخصي) فيعمل عملَ من يأتيه الموت ليلَه أو نهارَه، وينتظره في الحياة الأخرى حساب وعقاب.
وبهذا حصل التمايز ما بين مجالي العمل.
وفي هذا الصدد يقول المرجع الشيعي الأعلى محمد حسين فضل الله " إن الدين مقدس، والسياسة غير مقدسة. ومزج المقدس بغير المقدس فساد له".
فلا مصلحة - فعلا- للدين ولا للدولة في زواجهما، فليس من الرأي أن يقيّد الإبداع والابتكار في العمل الدنيوي بتأويلات الفقهاء واجتهاداتهم.. وليس من مصلحة الدين أن يستغل، أو أن يمزج بياضه الناصع بسواد البرغماتية المرتبطة بالسياسة ضَربَةَ لازٍب.
ولا يعني هذا أنه على المسؤول أن لا يكون متدينا، بل له مطلق الحرية في اعتقاده الشخصي، وممارساته الشعائرية، بعيدا عن السياسة.. فإنما المنشود هو الكفاءة والاستقامة المهنية، أما الآخرة فمأزق فردي، تأتي ساعة حسابه لكلٍ منا في الوحدة المطلقة.
فبأي منطق عقلاني تستساغ مقولة ابن تيمية "من كان مؤمنا وجبت موالاته من أي صنف كان، ومن كان كافرا وجبت مباعدته من أي صنف كان". وقوله "لا نقلدهم حتى في ما فيه مصلحة لنا، لأن الله أما أن يعطينا في الدنيا مثله أو خيرا منه، وأما أن يعّوضنا عنه في الآخرة".
فلا يراد من الدولة العلمانية أن تتحكم في الدين، ولا أن تحرُمه من استقلاليته كما فعل أتاتورك وكما يفعل الحُكّام في تونس.
ففي ميدان السياسة، التي لا وظيفة لها سوى تأمين الرفاه المادي للإنسان، ينبغي أن تتهيأ الفرص المتكافئة للمؤمن والملحد ليخدموا دولهم و مجتمعاتهم.. وأن توكل سرائرهم إلى من قال "وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون، ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون" أما نحن المخلوقين مثلهم فلا نريد من السّاسة إلا الرزق والإطعام، وعلى ذلك نحاسبهم.
أما حين تكون للمتدين فرصا في السياسة أوفر من فرص غير المتدين، فقد انتفت بذلك العدالة والديمقراطية، اللتان تساويان في جوهرهما العلمانية أو فصل الدين عن السياسة.
ولهذا المزج ما بين الدين والسياسة تدعياته الخطيرة، الكثيرة، التي منها:
استشراء ممارسة العنف، وتغذية الفكر الإرهابي. ونشوب حروب دينية كما يحدث الآن في افغانستان والسودان، وكما يقوم به المحافظون الجدد في الولايات المتحدة ضد العالم الإسلامي.. فحركات الإسلام السياسي التي انتهت في رحلتها الطويلة مع العنف والعنف المضاد إلى أن تعلن اعتناقها الجديد لملة الديمقراطية، تَحَرُّفاً لقتال، لم يتبلور لديها المفهوم السليم للديمقراطية، التي تعني لديها، في أحسن الأحوال، "دكتاتورية الأغلبية". فبحصولهم مثلا على أكثرية في البرلمان يستطيعون التصويت لفرض عقيدة معينة، ومنع صحف، وحظر كُتُب، وفرض منهج دراسي ينشر الكراهية والعنف الفكري وثقافة التسلط واضطهاد المرأة.
توظيف الدين سياسيا من أجل الوصول للحكم أو التشبث به.. فالدين في عالمنا الإسلامي أصبح في خدمة السياسة، كما كانت السياسة في أوروبا في خدمة الدين، فالبابا هو من كانت بيده سلطة تعيين الملوك وإعطائهم التفويض الإلهي ليحكموا، أما عندنا فشعار السلطة الدينية: "طاعة الله وطاعة الرسول وأولي الأمر". وبذلك يقوم الفقهاء ورجال الدين بتبريرهم ظلم الحُكّام وجورهم، تماما كما يحدث في بعض بلدان الخليج، وكما حدث مع ولد الطائع عندما قام باعتقال "الإسلاميين" والعلماء وأئمة المساجد، فوجد من أصحاب العمائم البيضاء من يسوق المبررات الدينية على وجوب استئصال شافة أولئك "العائثين في الأرض فساداً".
إنه لا شيئ يجمع بين الدين والسياسة، فمجال اختصاصهما متباين، ومُهِمّتَاهما لا تتواردن على محل، وقد عرف التاريخ الإسلامي "دولة مسلمة" وليست "إسلامية". ورغم إيماني بضرورة أن يرخص للإسلاميين بحزب سياسي، فإني أقول لهم بفم ضليع:
إنهم إذا اقتنعوا بأن الدولة لا علاقة لها بحاكمية الله، وإنما هي سلطة، وعقد بين حاكم ومحكوم، وأن معيار الانتماء لها هو "المواطنة"، وأن أساس هذا العقد هو العدالة والحرية والمساواة. وأنهم لا يملكون في السياسة حقيقة مطلقة، ولا وصاية بدين أو معتقد.. عندها سيصبحون حزبا محترما، له برنامجه المفيد، وشعبيته الناضجة.
وليعلموا أنهم لن يكونوا "إصلاحيين صالحين لهم مرشح صالح" - كما حلا للقيادي جميل ولد منصور أن يحسن التعبير- إلا حين يؤمنون بالديمقراطية إيمانا، لا أن يتخذوها مطية.
ومن عجائب ما تلده حبالى الأيام المُقرٍبات: أن من يقدمونه الآن للتغيير الديمقراطي السلمي، هو ذاته الذي تقدّمهم للتغيير المسلح.!
... كِلاَ جَانِبَي هَرشَى لهن طريقُ!!.
حنفي ولد دهاه