أصداء

ماركسيون يلقون براياتهم في الوحول 3

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

كنت أملت أن اللغة خانت كبير الماركسيين العرب، كما وصف دائماً محمود أمين العالم، حين قال لإحدى الجرائد السعودية (اليمامة) يعرّف الليبراليين الجدد بأنهم الذين.. " تخلّوا عن أفكار وإيديولوجيات سابقة بعد تجارب فكرية وسياسية ونضالية فاشلة كالشيوعية والماركسية والإشتراكية والقومية والبعثية والصحوة الإسلامية وغير ذلك ". لكنني ومن متابعة آخر أنشطة العالم الفكرية تبيّن لي بكل وضوح أنه إنما كان يعبّر عن نفسه كليبرالي مستجد تخلّى عن إيديولوجية فاشلة، حد قوله، هي الماركسية الإشتراكية أو الشيوعية. نعم، المرجع العربي التقليدي في الماركسية، محمود أمين العالم، تخلى عن ماركسيته الفاشلة، كما وصفها، وأصبح ليبرالياً جديداً. والعالِـم لا يخجل من هذا التحول فقد أكده إلى صحيفة العربي الناصرية قائلاً.." أنا لست ماركسياً "!! وكنت اجتهدت حينذاك أيضاً لأن أفسر قوله هذا تقليداً لماركس حين قال.. " أنا لست ماركسياً " على اعتبار أن الشيء ليس هو نفسه بذات اللحظة وقد غيرته الحركة التي لا تتوقف أبداً داخله، إلا أن تفسيري قد تبيّن فيما بعد أنه كان تبريرياً، فمحمود أمين العالم لم يعد ماركسياً، كما أكد، بل أصبح ليبرالياً مستجداً كما وصف.

لقد تخلى محمود أمين العالم عن مشروعه الشيوعي " الفاشل " ليبحث عن مشروع ليبرالي فكتب مقترحاً.. " تشكيل برلمان أو جبهة للمثقفين العرب يضم مختلف انتماءاتهم السياسية والفكرية والإجتماعية وكفاءاتهم العلمية والعملية على نحو ديموقراطي للمساهمة في اقتراح صياغة عقد اجتماعي قومي جديد موحد يكون مرجعيتنا في المرحلة الراهنة فضلاً عن وضع مشروع تنموي إنتاجي عقلاني علمي ديموقراطي شامل لأمتنا العربية يراعي ما بين مجتمعاتنا من تباين في الظروف وتفاوت في المستويات، مشروع قومي عملي يقدم بدائل وحلولاً للقضايا القومية المختلفة لا مجرد شعارات مجردة تعبوية، على أن تشارك مختلف القوى المنتجة والمبدعة والحية في المجتمعات العربية في مناقشته وإغنائه والسعي من أجل تبنيه وتنفيذه عملياً " ـ لم يتخلَّ محمود عن الماركسية فقط بل أصبح بحاجة لمن يقوده، لمن يؤشر له المسار!! إنه يستبدل اليوم الحزب الشيوعي بنادي للمثقفين!! ليس لنا إزّاء هذه الحالة البائسة إلا أن نعبّر عن إشفاقنا العميق على من شغل لفترة طويلة مركز الأمين العام للحزب الشيوعي المصري بالقول.. مسكين محمود أمين العالِـم الذي لم يعد يعرف أين المسار!!

ها هو قد انقلب إلى مثالي صرف، لا يوازيه في المثالية سوى يوحنا اللاهوتي في رؤياه وقد رأى مملكة في السماء لا تعمل بالقوانين الأرضية! يداهمني الحزن والأسى الشديدين حين أرى من تعلمنا من كتاباته قبل نحو ستين عاماً المبادئ الأولى للماركسية وكان المرجعية الأولى في الماركسية في عالمنا العربي يطلّـق مرجعيته باحثاً عن ليبرالي أو قومي أو بعثي أو إسلامي كي يبني مشروعا فكرياً جديداً يكون مرجعية له بعد أن ألقى براية الماركسية في الوحول القذرة. لئن حافظ سمير أمين على إعلان نفسه ماركسياً وشيوعياً فإن محمود أمين العالم تجاوزه في التجدد والتموّض فأخذ يعلن أنه ليس ماركسياً وأنه أصبح ليبرالياً بعد أن ثبت له " فشل تجربته النضالية الماركسية الإشتراكية الشيوعية ". أنا لا أعلم إذا كان العالِـم قد انضم إلى المؤتمر القومي العربي الإسلامي في بيروت أو أن هيئة المؤتمر تجاهلته ولم تدعه للإنضمام إليها مع أن البرلمان، برلمان المثقفين، الذي يدعو العالِـم إلى تأسيسه، وقد أصبح قضيته الكبرى، لا يختلف بالشكل وبالمحتوى عن المؤتمر القومي العربي الإسلامي في بيروت. ولعله أقتنع بالبيان الصادر عن ذلك المؤتمر في حزيران 2005 فاعتبره مرجعيته بدل الماركسية " الفاشلة " وانطلق يدعو إلى الوقوف جبهة واحدة في وجه العدو الإسرائيلي والحفاظ على طهارة القرآن الكريم وعدم السماح للصهاينة بتدنيسه، ثم دعم " المقاومة " العراقية في جهادها لطرد الإحتلال من العراق والوقوف وراء حزب الله في لبنان ـ لئن خاضت البورجوازية الوضيعة صراعاً طبقياً مريراً ضد البروليتاريا السوفياتية وحققت بالتالي نصراً تاريخياً تمثل بانهيار مشروع لينين العظيم فلماذا لا يفلح القوميون والإسلاميون بتضليل العالِـم؟! وما يستثير الشفقة أكثر على العالِـم هو أن الذين ضللوه اليوم لم يستطيعوا تضليله يوم كان لهم مشروع حقيقي على الأرض. القوميون والإسلاميون فقدوا كل الفرص لاحتفاظهم بمهنة العمل في السياسة حال انهيار مشروعهم الوطني مع بداية الإنهيار السوفياتي، أصبحوا عاطلين عن العمل تماماً بعد أن فقدوا كل مهنة أخرى ولم يعد الناس يصغون إلى خطاباتهم السقيمة الخشبية وهو ذات الخطاب الذي يتبناه العالِـم اليوم ويعتبره مرجعيته الراهنة دون أن يلتفت إلى أن هذا الخطاب لم يعد يؤمّن لأصحابه أية وظيفة سياسية.

إنني وبكل الصدق أشعر بالحرج الشديد وأنا أتهم محمود أمين العالم بعد أن كان المناضل الماركسي الشيوعي الصلب الذي واجه أقسى المحن والصعوبات طيلة حياته النضالية وقد امتدت عقوداً، أتهمه بالرياء والنفاق. وإلا فكيف لمحمود وبعد أن تفقّه في العلوم الماركسية أن يطالب بكتابة " عقد إجتماعي تنموي جديد " للشعوب العربية يراعي التباينات فيما بينها ويضمها إلى بعض في وحدة واحدة!! يطالب بمثل هذا العقد دون أن يقول كلمة واحدة حول علاقات الإنتاج فيما يدعو إليه من تعاقد. هو لم يقل لنا أن علاقات الإنتاج لم يعد لها قيمة فاعلة في العقود الإجتماعية، ونحن نقول له بالمقابل أن شبكة علاقات الإنتاج هي الشبكة القوية التي تحمل وحدها المجتمع، أي مجتمع وبكل أطيافه، كوحدة متفاعلة واحدة. علاقات الإنتاج، أي كيف يؤمن الناس رزقهم اليومي، هو ما يكتب كل العقود الإجتماعية. يقول العالِـم أن الطلائعيين العرب من المثقفين بحاجة إلى صياغة مشروع يأخذ بيد الأمة نحو بناء مستقبلها تاركاً تحديد معالم المشروع لبرلمان المثقفين دون أن ينسى أن يتكرّم على قوى الإنتاج وقد طالب بإتاحة الفرصة (!!) لها في مناقشة المشروع ـ ليس في تصميمه! ـ ودون أن يتطرق إلى روافع المشروع. ما عساها تكون طبيعة تلك القوى التي ستقوم بتحقيق المشروع؟؟ لم يخبرنا العالِـم!! هو افترض، كما يبدو، أن يقوم المثقفون مقام الأئمة، يؤمون بالناس يبشرونهم بالجنّة فيحتشد الناس وراءهم لبناء الفردوس الموعود!! تلك هي رؤيا العالِـم اليوم وهي أشبه برؤيا يوحنا اللاهوتي!! يتساءل العالِـم.. " لماذا لا يجتمع المثقفون ويتوحدون في أشكال متنوعة من خلال الجمعيات المدنية من أجل الضغط وخلق سلطة فاعلة حقيقية من أجل التغيير الإجتماعي في عالمنا العربي " ـ شعر العالِـم أن تساؤله هذا جدير بالسخرية فسارع قائلاً.. " هذه دعوة ليست جديرة بالسخرية على الأقل ". أن يقوم المثقفون بانقلاب على السلطة وخلق سلطة بديلة تتكفل بالتغيير الإجتماعي في عالمنا العربي، كما رأى العالِـم، ليس جديراً بالسخرية فقط، بل أكثر من ذلك فإنه يستحضر إلى الخاطر " إنقلابية " مشيل عفلق الشهيرة لدى تأسيس حزب البعث في نهاية الأربعينيات حيث أناط تحقيق الوحدة والحرية والاشتراكية جميعها إلى أولئك الذين ينقلبون على ذواتهم بغض النظر عن الطبقة التي ينتمون إليها ـ ينقلب الرأسماليون على ذواتهم فيصطفوا مع العمال الذين انقلبوا على ذواتهم أيضاً فيتعاونوا متحدين في تحقيق الاشتراكية!! وبالانقلابات أيضاً تتحقق الحرية والوحدة!! وهكذا فهم صغار العسكريين انقلابية عفلق على طريقتهم فتبعثنوا وقاموا بانقلابات عسكرية عديدة في سوريا والعراق وحققوا ما حققوا من انهيارات مروّعة في هذين البلدين اللذين ابتليا بالانقلابيين العفالقة.

لنفرض أن ما يطالب به العالِـم اليوم قد تحقق فاستعاد الفلسطينيون كل فلسطين وشكلت حماس وفتح حكومة فلسطين الوقف، كما تمكنت ما تسمى زوراً بالمقاومة العراقية من هزيمة المحتلين وشكلت حكومتها برئاسة عزت الدوري نائب صدام، وأن الأقطار العربية اتحدت في فدرالية ونصبت خليفة عليها من سبط العلويين أو الهاشميين، لنفرض أن كل هذا، وهو الإطار العام لرؤيا العالِـم والمؤتمر القومي الإسلامي، قد تحقق فعلاً، فماذا بعد؟!! ما الذي سيتغير في حياة العربي؟ ما بعد ذلك لن يكون إلا موت الفلسطيني جوعاً لأن الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لن يموّلا الولاية الفلسطينية من الخلافة الفدرالية العربية؛ وسوف لن تستقبل أوروبا وكندا واستراليا المهاجرين العرب طالما أنهم مواطنو خلافة عظمى؛ وفي الولاية العراقية سيبز عزت الدوري صدام حسين في بناء القصور وتبذير الأموال وسيقيم تماثيل له في كل الشوارع والساحات بغض النظر عن طلعته غير البهية طالما أنه امتلك السلطة بقوة الإرهاب وليس عن طريق السرقة مثل صدام. ما الذي سيتغير على المواطن العربي؟!!

رغب العالِـم في أن يكون أبعد نظراً من برلمان القوميين والإسلاميين العرب فطالب أن يتضمن العقد فصلاً إجتماعياً تنموياً. لكن، وطالما أن التنمية الإجتماعية لا تقع إلا على الأرض ووفق قوانينها، وليس قوانين السماء، فإن المطالبة لن تحقق شيئاً طالما أن القوانين الفاعلة في التنمية ظلت مجهولة وغير محددة ومعلومة. هل التنمية المطلوبة هي اشتراكية أم رأسمالية وما هي القوى التي من شأنها أن تحقق أياً منهما؟؟ لو أفصح العالِـم عن طبيعة التنمية المطلوبة لوقع في ورطة لا فكاك منها، فإما أن تكون اشتراكية وقد أمست مستحيلة بعد انهيار الإتحاد السوفياتي، كما أكد هو نفسه، وإما أن تكون رأسمالية وهو خيار يتوقف على موافقة الولايات المتحدة أولاً وأخيراً فالفدرالية العربية ليست أقوى وأهم من الصين وهي الدولة العظمى؛ وكل من الحالتين، الإشتراكية أو الرأسمالية، تعني طبقة من المجتمع دون الأخرى وهذا أمر له تداعياته الخطيرة. وفي اجتناب مثل هذه الورطة الصعبة كان المؤتمر القومي الإسلامي أبعد نظراً من العالِـم!! وهو ما يضيرنا، للحق.

ومما يسترعي الإنتباه في أدبيات العالِـم الحديثة هو تركيزه على وحدة "الأمة العربية" ـ من أخبر العالم أن العرب هم أمة واحدة؟ لا يمكن أن يكونوا أمة إلا إذا سبق في التاريخ وأن كانوا أمة بكل المعايير المعروفة. لم يسبق أن كان العرب أمة واحدة وليس أدل على ذلك من أن مشروع النهضة العربية الحديثة الذي صاغته البورجوازية الشامية بقيادة الشريف حسين بن علي في العام 1916، وهو أول وآخر مشروع قومي، قام على قاعدة وحدة المشرق العربي مستبعداً مصر وكل عرب أفريقيا، بل إن المستعمرين الإنجليز هم الذين أرغموا عرب المشرق على قبول مصر كقطر عربي عضواً في جامعة الدول العربية. وحدة الأمة لا تتم إلا في بوتقة نظام الإنتاج الرأسمالي، وهو النظام الذي لم يظهر في العالم العربي على الإطلاق. لم يتجاوز أحد من علماء الإجتماع والأنثروبولوجيا الرائد الماركسي ستالين في تعريفه للأمة وتحديد ركائزها الأربعة المتمثلة بوحدة الأرض واللغة والإقتصاد والتكوين النفسي ـ وحدة الأرض لم تتحقق في العالم العربي قبل مائة عام. كانت الصحارى تفصل بين بلدانهم وهي أصعب على العبور من البحار. ولعلنا جميعاً نتفق على أنه لم يحدث عبر التاريخ أن جمعت أي قطرين عربيين وحدة إقتصادية طالما أن النظام البطريركي الريعي في الإمبراطوريات القديمة لم يوفر أي تفاعل إقتصادي بين الولايات المختلفة في الإمبراطورية. ولا يمكن الإدعاء بأن التكوين النفسي للقبائل السعودية هو نفسه لأهالي المدن اللبنانية أو السورية كبيروت ودمشق وحلب. واللغة العربية هي حديثة العهد في المغرب العربي ولم تصبح بعد لغة التخاطب لدى عموم المغاربة. فهل إصرار العالِـم على الوحدة العربية هو من باب السياسة الشعبوية؟! ثم ماذا سيغنم العرب من الوحـدة؟ ما اجتمع الضعيف مع الضعيف إلا وازدادا ضعـ\فاً، والمثل الشعبي يقول سـاخراً " عريان وقع على مصلّخ ".

ونقرأ العالم يكتب.. " الدولة ضرورة قومية في البلاد النامية كبلادنا بوجه خاص كأداة لتنميتها وتطويرها إنتاجياً وخدماتياً ".. يا للهول!! نرجو أن يسمح لنا المفكر الفيلسوف محمود أمين العالم أن نؤكد له بأن من يتخلى عن الماركسية لن يعود قادراً على إنتاج أي فكر سياسي ذي قيمة. نحن نعارض العالِـم هنا رأساً ومباشرة ونؤكد على أن الدولة في بلاد كبلادنا اليوم هي منظمة تعمل ضد الإنتاج وتطوير الإنتاج وضد قوى التقدم. فيما قبل سبعينيات القرن الماضي وعندما كانت تخوض بلادنا، كسائر بلدان آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، ثورة التحرر الوطني وتوطيد الإستقلال كانت الدولة في هذه البلدان هي دولة البورجوازية الوطنية المعنية ببناء إقتصادها المستقل الخاص بها. كانت الدولة دولة الثورة وتعمل لتحقيق أهداف الثورة. أما فيما بعد السبعينيات وانهيار ثورة التحرر الوطني، تبعاً لتراجع الثورة الإشتراكية العالمية في الستينيات وما بعدها، لم تعد الدولة هي دولة الثورة بل غدت دولة الهزيمة. دولة السادات فيما بعد حرب 73 ليست مثل دولة عبد الناصر فيما بعد حرب 67، بل هي النقيض لها وقد أعلن ذلك السادات نفسه في خطابه الشهير حالما تحقق من الهزيمة في معركة الدبابات شرق القناة إذ قال.. " مصر لا تستطيع مواجهة الولايات المتحدة ". الدولة في عموم البلدان النامية بعد انهيار حركة التحرر الوطني غدت أسوأ منها في عهود التبعية المباشرة للإمبريالية. الدولة في بلادنا اليوم هي دائرة مغلقة (Closed Circle) بمعنى أن لا علاقة لها بمكونات المجتمع ولا تخص أياً من طبقاته ولذلك تميل جاهدة إلى منع تحقيق أي تنمية لأي من طبقات المجتمع لأن ذلك سيضر بمستقبلها طالما أن الطبقة القادرة المكتملة النمو هي التي تستولي دائماً على السلطة وعلى الدولة. لئن كانت الدولة التابعة للإمبريالية مقيدة بتحقيق معادل لفائض الإنتاج الوارد إليها من المتروبول فالدولة اليوم، فيما بعد انهيار الإستقلال، غير ملزمة بشيء سوى بتوليف الشروط التي تسمح بنهبها للثروة الوطنية. والهوية التي تؤهل الشخص إلى دخول دائرة الدولة المغلقة (العصابة) هي الفساد والإفساد ولا شيء غيرهما ـ يستطيع العالِـم أن يتحقق مما نقول مباشرة فينظر إلى أحوال الإنتاج والخدمات في مصر اليوم وهي تدعو للرثاء بل وللقرف.

المشروع الملح اليوم في سياسات العالِـم المستجدة هو مقاومة العولمة الأمريكية الرأسمالية! ـ ما هي العولمة؟ ولماذا هي أمريكية؟ ولماذا هي رأسمالية؟ تفسير ذلك يقع على عاتق المؤتمر القومي الإسلامي وليس على العالِـم الذي للأسف لا يعلم بأن أولئك المؤتمرين تحت راية القومية والإسلام هم أكثر الناس إفلاساً في الفكر السياسي وهذا حقيقة تعرفها تماماً شعوبهم العربية المسلمة. ولعله من المفيد هنا أن نشير سلفاً إلى معارضة رئيس الولايات المتحدة الأميركية للعولمة. فقد بدأ بل كلنتون خطابه في مؤتمر منظمة التجارة العالمية في سياتل ديسمبر 1999 وهو يسمع من بعيد خارج القاعة صيحات المتظاهرين ضد العولمة، بدأ مخاطباً المؤتمرين.. " ولماذا تدهشون من الإعتراض على العولمة فأنا مثلهم (المتظاهرين) لدي اعتراضات كثيرة على العولمة " وقال أيضاً.. " أنا مسرور بوجود هؤلاء المتظاهرين حولكم فهم يمثلون الملايين والملايين من البشر متسائلين عما يمكن لمنظمتكم أن تجلبه للبشرية.. ". رئيس الولايات المتحدة الأميركية ينضم إلى المتظاهرين ضد العولمة في عاصمة واشنطن، سياتل!! فما عساكم تقولون أيها السادة المناضلون ضد العولمة الرأسمالية الأميركية؟؟

المؤسف حقاً هو أن المشتغلين في السياسة قلّما يتنبهون إلى الوجه الآخر للسياسة وهو الإقتصاد. فالعولمة التي يسيء فهمها عامة السياسيين إنما هي هجرة المؤسسات الإنتاجية الرأسمالية من مراكزها الرأسمالية الكلاسيكية (المتروبول) إلى الأطراف، وهجرتها تعود لسببين رئيسيين هما الأجور المرتفعة في المركز والضرائب الباهظة التي تفرضها دولة المركز بالإضافة إلى غلاء الخدمات اللازمة للإنتاج. عندما تهاجر مثل هذه المؤسسة الرأسمالية من الولايات المتحدة مثلاً إلى ماليزيا أو سنغافورة فإن الطرف الخاسر هو الولايات المتحدة بالتأكيد حتى وإن امتلك عدد من الأميركيين تلك المؤسسة في المهجر. فالعمال الأمريكان الذين كانوا يعملون في تلك المؤسسة يفقدون وظائفهم وينضمون إلى جيوش العاطلين، والثروة التي كانوا ينتجونها يومياً بجهودهم تتلاشى نهائياً، والضرائب التي كانت تجبيها الدولة من تلك المؤسسة تنعدم تماماً فلا تعود الدولة قادرة على إنتاج الخدمات لصالح الشعب.

إزاء مثل هذه الصورة الحيّة يجب أن يسلّم المتاجرون بسياسة المعارضة للعولمة بأن الهجرة الواسعة للمؤسسات الرأسمالية من المراكز الرأسمالية الكلاسيكية إلى الأطراف في العالم الثالث والتي اتخذت اسم العولمة (Globalization) إنما هي التجسيد الحيّ لانحلال النظام الرأسمالي وخاصة أن بلدان الأطراف لا تمتلك التربة الصالحة لإحياء النظام الرأسمالي من جديد حيث أنها بالحد الأدنى غير قادرة على إنتاج العسكرة الضرورية لحماية مثل هذا النظام القائم أصلاً على منهج القمع والإستغلال. ليتأكد العالِـم ومن هم مثل العالِـم أن نضالهم ضد العولمة إنما هو في النهاية مقاومة لإنحلال النظام الرأسمالي وهو بالتالي مسعى لتأبيده.

ثم لم يقل لنا العالِـم ما هي أدواته في مقاومة العولمة. هل سيدعو عامة الشعب المصري إلى منع دخول رؤوس الأموال الأجنبية إلى مصر وتوظيفها بإقامة مصانع جديدة على الطريقة الرأسمالية؟ البطالة تجاوزت في مصر نسبة 30% وأقصى ما يطمح إليه العاطل عن العمل هو العثور على وظيفة تؤمن له ولعائلته المعاش. تتبارى الدول اليوم في اجتذاب رؤوس الأموال الأجنبية لتوظف في بلادها وتستغل عمالها (!!) ورغم ذلك يتعفف أصحاب رؤوس الأموال عن قبول مثل هذه الدعوة عكس ما كان في عصور الإستعمار الذهبية. الحزب " الشيوعي " الصيني يدعو بإلحاح أصحاب رؤوس الأموال الأجانب إلى توظيف أموالهم في الصين، فلماذا ستصغي جماهير الشعب المصري إلى دعوة العالِـم الإفقارية؟! لسوء حظ العالِـم وسائر المحتجين على العولمة من الماركسيين الذين ألقوا براياتهم في الوحول ومن القوميين الذين فقدوا وظائفهم السياسية ومن الإسلامويين المتاجرين بدينهم هو أنه لا وسيلة للقضاء على العولمة إلا بقيام ثورة مضادة في مراكز الرأسمالية الإمبريالية تعيد لنظام الإنتاج الرأسمالي حيويته المفقودة وروحه التي توفاها باريها ـ وقبل أن ننتهي من موضوع العولمة لا بدّ من الإشارة إلى أن جميع المعارضين للعولمة والذين يحتشدون للتظاهر في كل عاصمة ينعقد فيها مؤتمر لمنظمة التجارة العالمية (WTO) أو السبعة الكبار (G7) هم من البورجوازية الوضيعة الذين ينتمون إلى قاع الطبقة الوسطى ومن شذّاذ الآفاق ومن بعض الذين لم يتحققوا بعد من أنهم فقدوا وظائفهم في العمل في السياسة إلى الأبد. ومع ذلك ورغم كل ذلك فلنا أن نتساءل كما تساءل وليام كلنتون رئيس الولايات المتحدة الأميركية قبل سبع سنين عجاف.. أي خير ستجلبه العولمة للبشرية؟!! أستطيع أن أؤكد اليوم أن أسوأ كارثة نزلت بالبشرية عبر التاريخ هي انهيار النظام الرأسمالي بالتزامن مع انهيار المشروع اللينيني الإشتراكي، وما كان ذلك ليكون لولا الطبقة الوسطى السوفياتية ممثلة بالمجمع الصناعي العسكري وبعصابة نيكيتا خروتشوف.

ذهب العالِـم وغير العالِـم إلى أن الماركسية نظرية فاشلة وبرهانهم على ذلك هو انهيار مشروع لينين في الإتحاد السوفياتي ونحن إذ نسلّم بأن مشروع لينين قصّر عن عبور مرحلة الإشتراكية ولم يتوصل إلى أهدافه النهائية، نطالب هؤلاء الماركسيين سابقاً أن يعترفوا بأن عالم اليوم، بعجره وبجره، هو في النهاية من صناعة مشروع لينين ؛ بل ولنا أن ندحض مزاعم الفشل ونثبت أن مشروع لينين، وهو التجربة السوفياتية، هو برهان قاطع على صحة النظرية الماركسية وليس على فشلها. كل الذين تحدثوا عن فشل التجربة السوفياتية وخلصوا إلى فشل الماركسية لم يستطع أحد منهم أن يعلل النجاحات الباهرة التي حققها البلاشفة منذ قيام الثورة 1917 وحتى ارتقاء نيكيتا خروتشوف مركز القيادة 1954 ولم يستطع أحد منهم أيضاً أن يعلل الإنتكاسات المتتالية منذ 1954 وحتى انهيار المشروع عام 1991. لا يجوز أبداً أن نعزو الإنتكاسات في النصف الثاني من عمر التجربة إلى خلل في الماركسية ونتجاهل النجاحات الباهرة في نصفه الأول، كما لا يجوز أيضاً أن نتجاهل الإنتكاسات في النصف الثاني من عمرها إلا إذا وجدنا أسبابها تقع خارج النظرية الماركسية.

يحرن كل الذين يقولون بفشل الماركسية في الرجوع معنا إلى أعمال المؤتمر الإستثنائي الحادي والعشرين للحزب الشيوعي السوفياتي عام 1959، يحرنون بصورة تدعو إلى الريبة والظنون حيث أن أعمال ذلك المؤتمر الشائن شكلت بداية تراجع الثورة الاشتراكية العالمية. ماذا قرر ذلك المؤتمر برئاسة خروتشوف..
إلغاء الصراع الطبقي من أعمال الدولة، والصراع الطبقي كما هو معروف في الماركسية محرك التطور في المجتمع.
إلغاء دكتاتورية البروليتاريا التي هي الشرط الوحيد الذي حدده ماركس لعبور الإشتراكية.
تعظيم دور الفلاحين في بناء الإشتراكية وهو ما يعاكس تطور الإشتراكية الماركسية.
تفكيك الوحدة العضوية بين الثورة الإشتراكية وثورة التحرر الوطني التي هي من أهم المبادئ اللينينية.

منظمة بهذه المبادئ هي، وبحكم النظرة الأولى، منظمة معادية للإشتراكية وللشيوعية حتى وإن كان اسمها " الحزب الشيوعي السوفياتي ". هذا الحزب وبعد أن لعب فيه خروتشوف تبديلاً وتخريباً، وبعد الإنقلاب العسكري في حزيران 1957 وطرد جميع البلاشفة، رفاق لينين، من قيادته في الكتب السياسي، أخذ ينتهج سياسة تتعاكس تماماً مع روح الماركسية وتتناقض مع مبادئها الأساسية.

إزّاء هذه الوقائع التي لا سبيل لإنكارها يمكن القول بكل ثقة واطمئنان أن النجاحات الباهرة في التجربة الإشتراكية السوفياتية تعود للماركسية كليّة الصحة، كما وصفها لينين، وأما الإنتكاسات والانهيارات والأفشال فلا تعود إلا للسياسات المعارضة للماركسية ولأسباب تقع خارجها. لذلك يترتب على الذين ألقوا براياتهم الماركسية في الوحول أن يعيدوا النظر في مواقفهم.

فـؤاد النمـري
www.geocities.com/fuadnimri01

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف