العراق: خطوة إلى الأمام وخطوتان إلى الخلف أم العكس؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
هناك من يعتقد أن النتائج التي تمخض عنها مؤتمر بغداد الدولي بشأن أمن واستقرار الأوضاع في العراق كانت مخيبة للآمال والتوقعات والتمنيات بينما رأى البعض الآخر أنها خطوة إيجابية تصب في مصلحة العراق والشعب العراقي وتساهم في تقريب الآراء ووجهات النظر بين جميع القوى والأطراف المعنية بالشأن العراقي. فلقد أبدى هوشيار زيباري وزير خارجية العراق ارتياحه من سير أعمال المؤتمر ووصفه بأنه بنٌاء وإيجابي في مناخه وتركيبته بينما أكد رئيس وزراء العراق الأستاذ نوري المالكي على مشروعه السياسي والأمني الذي سبق أن أعلنه عند توليه مسؤولية القيادة الأولى في العراق مؤكداً ثوابته السابقة كتجريد الميليشيات من السلاح وحصره بيد الحكومة فقط والبدء بمشروع المصالحة الوطنية الذي صار يتعثر الآن لأسباب كثيرة سنأتي على شرحها لاحقاً، وعودة ضباط ومنتسبي الجيش العراقي النظامي السابق ممن لم تتلطخ أياديهم بدماء الشعب العراقي لكن عملية الفرز في هذا المجال غاية في الصعوبة إن لم تكن مستحيلة. فقمع الشعب العراقي وانتفاضاته الشعبية كان على يد الجيش العراقي السابق وبالذات قوات الحرس الجمهوري، والتأكيد على التعاون والتنسيق الأمني والسياسي والاقتصادي مع دول الجوار والمنظومة العربية والإسلامية وعدم السماح لأحد بالتدخل في الشأن العراقي الداخلي وعدم السماح بتحويل العراق إلى ساحة للصراع بين هؤلاء ومنع استشراء وتنامي نفوذ أي منها، ومنع جعل العراق نقطة انطلاق لضرب أية دولة ومهاجمتها من قبل أي طرف كان، وهو يقصد هنا الولايات المتحدة الأمريكية وإيران بالذات، لاتتعدى التمنيات الطوباوية. كما أكد السيد المالكي في كلمته أنه لايريد أن تعود عجلة التاريخ إلى الوراء، ويقصد بذلك سد الطريق بكل السبل أمام عودة النظام البعثي السابق للسلطة. وأكد مرة أخرى تمسكه بالدستور ونتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة أي الاحتفاظ بالسلطة كرد غير مباشرة على الإشاعات المغرضة المنتشرة بخصوص عزم الأمريكان الإطاحة بحكومته. تجدر الإشارة إلى أن خطوة مهمة تحققت في هذا المؤتمر، الذي جاء مخيباً للآمال على مستوى التمثيل الرسمي فيه والذي لم يكن على مستوى رفيع، والتي تجسدت بقبول أمريكا لأول مرة بالجلوس إلى طاولة واحدة مع كل من طهران ودمشق للتباحث في الشأن العراقي وفي أمور أخرى على أمل إنجاز تقدم ملموس في الملف الأمني العراقي.وبهذا الصدد صرح السفير الأمريكي السابق في العراق زلماي خليل زاده أنه أجرى مناقشات غير رسمية على هامش جدول أعمال المؤتمر مع نظرائه الإيرانيين الأمر الذي نفاه هؤلاء الأخيرين بالرغم من دعوة السيد المالكي الجميع إلى بذل الجهود من أجل خفض حدة التوتر بين الشركاء والتوقف عن تسليح الميليشيات الطائفية والقوى الإرهابية والتكفيرية. وقد شدد سفير الولايات المتحدة في العراق على أن أي من الدول المشاركة في هذا المؤتمر لاتجد مصلحة في زعزعة العراق وتقسيمه أو تشظٌيه والحال أن جميع القوى الجالسة على طاولة المفاوضات في هذا المؤتمر تخشى من عواقب عبور العنف المهيمن على أرض السواد وتجاوزه الحدود العراقية والانتشار في دول المنطقة المحيطة بالعراق التي باتت تمسها شظايا هذا العنف الأعمى لاسيما في ملمحه الطائفي السني ـ الشيعي. والجدير بالذكر أن العلاقات الدبلوماسية مقطوعة بين طهران وواشنطن منذ سنة 1980. وبالرغم من التزام الأطراف المشاركة بمحاربة الإرهاب إلاٌ أن الخلافات مازالت قائمة بين العديد منها. فتصريحات الإيرانيين من أجل إحلال السلام في العراق والمنطقة غير كافية بنظر الأمريكيين وفي نفس الوقت شددت إيران على ضرورة وضع جدول زمني واضح ومحدد لإنسحاب القوات الأجنبية من المنطقة ومن العراق بالذات. وهذا مؤشر سلبي لما سيكون عليه الحال في المؤتمر القادم الذي سينظم في تركيا بعد شهر لمواصلة جدول الأعمال الحالي وتعميقه إذ أن نتائج هذا المؤتمر وتداعيات تطبيق الخطة الأمنية لن تقف حجر عثرة أمام بعض المخططات التي تدعمها أمريكا وتباركها بعض القوى الإقليمية والرامية إلى تصديع التحالفات السياسية القائمة حالياً داخل العراق وتفكيك التكتلات السياسية المتشكلة في الوقت الحاضر استناداً إلى مصالح ضيقة متبادلة، ومحاولة العراب الأمريكي وبعض حلفائه داخل العملية السياسية العراقية سحب الأكراد إلى جبهة سياسية وطنية عراقية جديدة غير دينية وغير طائفية ولا تخضع لمبدأ المحاصصة بل تعتمد مبدأ المواطنة والكفاءة والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين العراقيين وقد تكون ذات تطلعات علمانية غير معلنة بغية عدم استفزاز القوى السياسية ـ الدينية المسيطرة على الشارع العراقي اليوم حيث يمكن أن تتمخض تلك التحركات والمناورات عن واقع سياسي جديد لاسيما بعد القرار التاريخي المدوي الذي اتخذه حزب الفضيلة بانسحابه من كتلة الإئتلاف العراقي الموحد فاتحاً الباب على مصراعيه أمام خطوات جريئة مماثلة ستتوج بإنسحاب القائمة العراقية بزعامة الدكتور أياد علاوي من الحكومة وستلحقها بكل تأكيد جبهة التوافق السنية وستنضم إليها جبهة الحوار الوطني بزعامة صالح المطلك وبعض العناصر المستقلة في باقي القوائم والكتل كمجموعة قاسم داود على سبيل المثال لا الحصر وربما تنضم لهؤلاء بعض العناصر البعثية السابقة التي انفصلت عن حزب صدام حسين وأدانت مرحلته وقامت بمراجعة سياسية وايديولوجية جذرية لفكر البعث وانفراده بالسلطة وممارساته الدموية والإجرامية وحروبه العبثية. وبتكوين أغلبية برلمانية جديدة معارضة للسلطة الحالية سيخولها الدستور الحالي المصوٌت عليه باستفتاء جماهيري، بتشكيل حكومة جديدة قد تسمى بحكومة إنقاذ وطني أو ما شابه ذلك، والتي ستقوم بدورها بمراجعة بعض نصوص الدستور التي تثير إشكاليات وخلافات عميقة بين مختلف المكونات، والعمل على تنظيم انتخابات جديدة سليمة وأكثر نزاهة والحد من تغلغل ونفوذ دول الجوار الضالعة في مخطط زعزعة الأوضاع وخلخلة الوضع الداخلي العراقي بشكل أو بآخر. هذه هي اللوحة العراقية في جانبها السياسي. فماذا عن الجانب الأمني والعسكري؟
لابد من الإشارة هنا إلى الخلفية التي تدور فوقها هذه المناورات وهي خلفية خطيرة ميدانياً على ضوء تصعيد العمليات الإرهابية واستهداف الشعب والمدنيين بالتفجيرات وانعدام الأمن الملازم لشل الدورة الاقتصادية والانتاجية الطبيعية بالرغم من تمتع الخطة الأمنية بقدر كبير من الجدية وبإمكانها تحقيق نجاحات ملموسة على أرض الواقع لكنها محكومة بأن تكون مؤقتة إذا لم تصاحبها خطوات سياسية مهمة وجوهرية مقبولة من قبل الجميع، وحصول تحسن ملموس وحقيقي في مجال الخدمات والأعمال والوظائف وإنعاش الوضع الاقتصادي وزيادة القدرة الشرائية للمواطن وتوفير مستلزمات العيش الضرورية بأسعار مقدور عليها.والحال، أن الإدارة الأمريكية تواجه عقبات لايمكن تذليلها بسهولة ليس أقلها ما تقوم به الأغلبية الديموقراطية في الكونغرس الأمريكي من مناورات للضغط على الإدارة الجمهورية للانسحاب من العراق ومنع أو عرقلة تمويل العمليات الحربية الجارية في العراق. وقد أشارت وسائل إعلام أمريكية مؤخراً إلى أن الإدارة الأمريكية الحالية تواجه صعوبات جمٌة في إيجاد دبلوماسيين أكفٌاء يقبلون بالعمل في القنصليات الأمريكية التابعة للسفارة الأمريكية في العراق بل حتى أنها تجد صعوبة في العثور عمٌن يرغب في العمل في السفارة الأمريكية في العراق المحمية داخل
المنطقة الخضراء وذلك خوفاً على حياتهم ناهيك عن تفشي نفور كبير ورفض من جانب المؤسسة العسكرية للقيام بالمهام السياسية وبمسؤوليات إعادة الإعمار والبناء والتأهيل المدني وبات العسكريون يعبرون علناً عن تذمرهم من الأوامر الصادر إليهم من البنتاغون لتغطية النقص في القطاع المدني الأمريكي في العراق كما ظهر ذلك جلياً في الصحافة الأمريكية. ولكن أهم تحدي يواجه الاستراتيجية الأمريكية في العراق هو عجزها عن تأمين الاستمرار في توفير التمويل اللازم لعملية إعادة الإعمار والبناء الضرورية جداً لإنجاح الخطة الأمنية الجارية حالياً وتحقيق النصر المأمول لاستئصال الإرهاب.
لقد أهدرت واشنطن 21 مليار دولار كنفقات لم تحقق شيئاً يذكر وكانت خسارة محضة كما يقول بعض الديموقراطيون.فإعادة إعمار العراق كان هو الهدف الذي أنشئت من أجله مؤسسة برنامج المساعدة الأمريكية الأكثر طموحاً منذ خطة مارشال الشهيرة التي ساهمت في إعادة بناء وتعمير وتطوير أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. فلقد أنفقت واشنطن كما تدٌعي 21 مليار دولار لترميم البنى التحتية للبلد بعد أن تعرضت للتخريب الشديد إثر ثلاث حروب دامية واثنتي عشر عاماً من الحصار والمقاطعة الدولية. وهكذا بعد انصرام أربعة أعوام على سقوط النظام الصدامي السابق، وصل برنامج المساعدات الأمريكية إلى حدوده القصوى أو إلى نهايته المرسومة حيث أستهلكت 90% من مبالغه المرصودة لهذا الغرض ولم يتحقق منها شيء يذكر ولايمكننا الإشارة إلى مشروع واحد حتى لو كان رمزياً تم إنجازه بنجاح ولو محدود. فسكان بغداد وباقي مدن العراق لايحصلون سوى على ساعتي كهرباء في أحسن الأحوال يومياً، والصادرات النفطية تراوح في مكانها ولم تسترجع مستواها الذي كانت عليه قبل الحرب الأخيرة، والمشتقات النفطية والوقود البيتي مفقودة أو شحيحة وإن وجدت ففي السوق السوداء ومرتفعة الأثمان مما يثقل كاهل المواطن العراقي فضلاً عن خطورة الحصول عليها في طوابير انتظار لاتطاق وتتعرض لخطر التفجيرات وهجمات الإهابيين والإنتحاريين في كل لحظة مع مايترتب على ذلك من إنهاك وإحباط وغضب نفسي لدى المواطن الذي يشعر أنه رقم لاقيمة له في حسابات السلطة. كما أن أغلب الأموال المخصصة لإعادة الإعمار اختفت كما لو أنها غرقت في رمال متحركة أو ابتلعتها رمال الفساد وانعدام الأمن. فالنتائج جاءت كارثية إذ فاقمت الأزمات الموجودة لأن برنامج إعادة الإعمار أعد تحت النيران وفي أجواء العنف الطائفي الأمر الذي لم يكن موجوداً في حالة تطبيق خطة مارشال إذا سمحنا لأنفسنا بالمقارنة بين الخطتين أو البرنامجين كما أشار ستوارت بوين مدير التفتيش العام
المختص ببرنامج إعادة إعمار العراق بعد زيارته الأخيرة لبلاد الرافدين. فلقد أنشأت الحكومة الأمريكية مؤقتاً منذ بداية عام 2004، أي بعد بضعة أشهر من سقوط النظام السابق بغية مراقبة أوجه الإنفاق وكيفية استخدام الأموال المخصصة للبرنامج العراقي والتي وافق عليها الكونغرس الأمريكي لصالح العراق. ولكن ومنذ السنة الأولى تحت إدارة بول بريمر، وفي ظل شيوع الفوضى والفساد الذي وسم مرحلة الحاكم المدني الأمريكي سيء الصيت بريمر أثيرت الشكوك لدى بعض الأوساط داخل واشنطن حول عمليات الاختلاس والإهدار والمحسوبية واحتكار العقود الوهمية. فهناك شركات أمريكية كبرى مقربة من الإدارة الحاكمة في واشنطن تكالبت على هذا البرنامج واحتكرته لنفسها وتكليف شركات صغيرة وسيطة بعمليات التنفيذ بأسعار مزرية والتي كانت عاجزة عن تحقيق نتائج ملموسة فاحتكرت شركات عملاقة كهاليبرتون الصفقات والعقود وأوكلت التخطيط والتنفيذ لجهات غير كفوءة أو غير أمينة وكانت نتائجها سيئة للغاية كصبغ بعض واجهات المدارس والمؤسسات الحكومية، إلى جانب غياب التنسيق الصحيح بين مختلف الوكالات الأمريكية أو الشركات الخاصة، مثل غياب التنسيق بين المدنيين والعسكريين مما خلق أجواء من الفوضى العارمة وفرصاً كبيرة للتبذير. ومع تفاقم أعمال العنف وتصاعد وتيرة الإرهاب وتطور أساليبه أرتفعت تكاليف العملية الأمنية التي ابتلعت بدورها الجزء الأكبر من ميزانية إعادة البناء والإعمار التي ذهبت إلى جيوب الشركات الأمنية الخاصة وجيش المرتزقة الذي يعبث بالعراق ليل نهار. فالأجانب القليلون الباقون داخل العراق لايتنقلون إلا ضمن قوافل من سيارات ورجال الحماية المدججين بالسلاح والكل يعرف أن الحمايات الخاصة مكلفة جداً مما زاد أعباء التكلفة أضعافاً مضاعفة.
فبعد تعيين ستوارت بوين بقليل في بداية سنة 2005 أشار في أولى تقاريره إلى اختفاء مايربو على الـ 9 مليار دولار كانت مخصصة لإعادة بناء العراق عبر شبكة معقدة ومتقنة من الاختلاسات والسرقات والتهريب والفساد والرواتب الوهمية ونفخ الفواتير والتكاليف الفعلية والتبذير المتعمد وشراء الذمم والرشاوي والفضائح التي تزكم الأنوف ولكن بعد فوات الأوان. فالفوضى العارمة التي غرق فيها العراق أرغمت الإدارة الأمريكية على إعادة النظر ومراجعات التوجهات والتوجيهات العامة المميتة والقرارات القاتلة التي أصدرها بول بريمر وما ترتب عليها من تكاليف سياسية وبشرية واقتصادية كارثية كقراره بحل الجيش وقوى الأمن والشرطة والمخابرات وحل وزارات كاملة مثل وزارة الإعلام والدفاع والداخلية واللجوء إلى القطاع الخاص والشركات الأمنية الباهضة التكاليف لتأمين العاصمة العراقية والمنطقة الخضراء مقر عمله، والمنشآت الحساسة كوزارة النفط وحماية الشخصيات السياسية والحزبية المتعاونة معه، وتأهيل قوى أمنية جديدة بدأت من الصفر حيث كرٌس 93% من الاعتمادات الإجمالية الأمريكية للعراق لغير الوجهة المخصصة لها أساساً. والشيء الوحيد الملموس الذي تحقق هو تدريب بدائي لـ 328000 جندي وشرطي بيد أن نفقات هذا العمل كانت مبالغ بها جداً لاسيما تكاليف الشركات الخاصة التي كلفت بالقيام بهذه المهمة والتي حققت أرباحاً خيالية مقابل نتائج وضيعة يرثى لها حيث لازالت القوات العراقية في الجيش والشرطة دون المستوى المطلوب فضلاً عن افتقادها للتسليح والتجهيز الجيد والملائم والمتطور أو الحديث من مركبات وعربات مدرعة وطائرات هليكوبتر حديثة وأجهزة اتصالات وأسلحة متطورة خفيفة ومتوسطة وثقيلة وأجهزة كاشفة للألغام والعبوات الناسفة والسيارات المفخخة.
وبعد الإطلاع على هذا الانحراف الخطير في برنامج إعادة البناء والإعمار اقتنعت الحكومة الأمريكية بعد فوات الأوان بضرورة تغيير استراتيجيتها كلياً دون الاعتراف بذلك علناً وتغيير الطاقم الأمريكي الحاكم في العراق فاستبدلت السفير خليل زادة بكروكر والجنرال كيسي ببتراوس وغيرهما من المسؤولين الكبار من مدنيين وعسكريين. ويعتقد أن دافيد بتراوس الحاكم العسكري الجديد وقائدة القوات الأمريكية في العراق بدأ بداية جيدة وعقلانية ومتواضعة وبراغماتية وإن قادته في واشنطن يعرفون جيداً أن أمامهم ستة اشهر كحد اقصى ستكون حاسمة للنجاح أو الإعتراف بهزيمة نكراء. وهكذا بدأت الخطة الأمريكية لإعادة البناء طموحة وكريمة قبل أن تتبخر وتضيع في متاهة الاختلاسات والسرقات والاحتيالات مما دفع الكونغرس إلى عدم تمديدها وتجديد برامج إعادة البناء التي وعدت بها الإدارة الأمريكية قبل الاجتياح والغزو وتدمير البنى التحتية للبلد.
هذا ما يخص الجانب الأمريكي للخلفية التي تدور على سطحها الأحداث الفائرة الآن في العراق أما الجانب العراقي فلا يقل مأساوية وكارثية عن الجانب الأمريكي في تعامله مع الواقع العراقي المزري. فالقوى السياسية العراقية بكل أطيافها، والمتواجدة جنباً إلى جنب تحت قبة البرلمان العراقي، تنظر بعين الشك والريبة وربما الحقد والكراهية وعدم الثقة بعضها للبعض الآخر. وكما ذكر الصحافي الفرنسي الذائع الصيت والرهينة السابق في العراق الزميل جورج مالبرونو على لسان نائب برلماني سني كان قد أستجوبه هاتفياً وآخرين التقاهم في باريس على هامش المؤتمر الإعلامي في اليونيسكو،و بتعبير النائب البرلماني الذي لم يذكر أسمه:" إن القاعدة تشكل خطراً على مستقبل السنة أكثر من تهديدها للشيعة" و:" إن السكان واقعون بين مطرقة تهديدات الحركات الإرهابية وسندان الجبهة الموالية لأمريكا" على حد تعبير نائب برلماني قومي التوجه والانتماء. وأضاف على لسان نائب سني آخر قائلاً:" لا أحب القاعدة لكنها في الوقت الحاضر تشكل الحاجز أو السد المنيع الوحيد لنا ضد الميليشيات الشيعية". كما ذكر مالبرونو في تقرير نشرته صحيفة الفيغارو الفرنسية أن هناك من بين عشرة آلاف و خمسة عشر ألف مقاتل في العراق ينضوون تحت راية القاعدة منهم خمسة ألاف من جنسيات أجنبية بين عرب وغير عرب أفغانيين وباكستانيين وشيشان وجزائريين ويمنيين وسعوديين ومصريين وسوريين وهم يقاتلون القوات الأجنبية المحتلة و( المنحرفين الشيعة الخارجين عن الدين أو الهراطقة) كما يصفونهم. كما يوجد عدد من المتطوعين السعوديين والأثرياء الخليجيين الذين قدموا أسلحة وأموال لفلول البعث المنهار من العلمانيين المتمردين على السلطة الحاليةبغية كسبهم للمد الإسلاموي وأن القوى الإرهابية بمختلف أصنافها تتمتع بمساعدات مالية وتسليحية هائلة من جانب الأثرياء الخليجيين وبعض الأثرياء الباكستانيين المتعاطفين مع الحركات الإسلاموية والسلفية التكفيرية وكذلك تختزن تلك القوى الظلامية الكثير من الأموال والأسلحة العراقية المسروقة أو التي أورثها لها أقطاب النظام الصدامي المقبور والتي تستخدمها اليوم ضد أبناء الشعب العراقي المظلوم بكل تكويناته وانتماءاته فكل العراقيين ضحايا الطغيان البعثي السابق والإرهابي التكفيري الميليشياوي الحالي.
وأخيرا لابد من إشارة سريعة للفت الأنظار والتذكير على أقل تقدير لمأساة نجمت عن هذه الفوضى وهذا الدمار والاحتلال والقتل العشوائي والاستقطاب الطائفي والتهجير القسري ألا وهي مأساة اللاجئين العراقيين خارج الوطن وداخله فهناك مخيمات اليأس المطلق القابعة في منطقة الحياد الحدودي بين العراق وسورية وبين العراق والأردن بين العراق والسعودية وأكثرها مأساوية تلك الموجودة على بعد أمتار من الحدود السورية والعراقية حيث يعيش العشرات من الرجال والنساء والأطفال والشيوخ والعجائز والمرضى حياة مأساوية وكأن العالم وخالقه تخلى عنهم وبالرغم من ذلك يتدفق الآف العراقيين يومياً إلى تلك الحدود هرباً من الموت أو الجحيم الطائفي الذي يغرق فيه العراق اليوم فالبلد ينزف يومياً مئات العقول والكفاءات والناس العاديين وبصمت لايطاق وهناك من بين هؤلاء من لايحمل جوازات سفر ولا أموال ولا أثاث ولايعرفون ما هو مصيرهم الذي سيكون الموت ربما في هذه البقعة الصحراوية القاسية، يتحملون برد الشتاء وشمس الصيف الحارقة بلا ماء ولا دواء ولا غذاء وأغلبهم هرب بجلده بعد أن فقد إبناً أو أخاً أو أباً أو أماً أو أحد الأقارب العزيزين أو اضطر للمغادرة تحت التهديد بالإبادة والتعذيب والتمثيل بالجثث من قبل هذه الجهة الطائفية أو تلك وكأني بهم وهم يرددون صيحة أبي الشهداء أما من ناصر أما من مغيث أما من معين؟
د. جواد بشارة
باريس