أصداء

هذه بضاعتكم ردت إليكم

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

( قصة حقيقية على لسان صديق)
طبيب مصرى سافر للعمل فى إحدى دول الخليج وكان حظه أن المنطقة التى نزل بها للعمل متشددة دينياً إلى ابعد حد يمكن أن يتخيله إنسان، وصاحبنا - الطبيب - كان مسلماً عاديأ يصلى الفرائض ولكن ليس بانتظام وأحيانأ يؤخر بعضها أو يجمع عدة فروض بسبب عمله أو لأى سبب آخر ولكنه فى النهاية كان ينام مسبحاً ذاكرا لربه شاكرأ لأنعمه وكان ممن يؤمنون أن الدين لله تعالى هو وحده الذى يحاسب عباده على أعمالهم، كما كان متحررأ فكريأ فهو يشاهد الأفلام التلفزيزنية والمسلسلات والأغانى والفيديو كليب وأحيانأ تقع يده على شريط ثقافى فيشاهده خلسة دون أن يراه أحد ثم يستغفر ربه على هذا الذنب المشين.


كان يصوم رمضان كأى مسلم ويحلق لحيته فتظل ناعمة ملساء لعدة ايام ويضع الكريمات والبارفانات ويرتدى ما يشاء من بناطيل وقمصان وبلوفرات وبدلات وغيرها، ويستعمل منذ طفولته فرشاة اسنان لتنظيف أسنانه ثلاثة مرات يوميأ، ولكنه - كما حكى - كان يحب عمله جدأ ويقوم به على أكمل وجه ويجاهد قدر الإمكان ليصبح طبيباً مرموقا وناجحاً، وكان أهل الحارة يحبونه حباً شديداً ويقدرونه وهو بينهم يعيش أخاً للجميع وفى معظم الأحيان يوقع عليهم الكشف الطبى أخوية - يعنى بدون أجر- لشعوره بأنهم جميعاً مثل أهله وكم قدموا له من خيرات ومواقف نبيلة شهمة فى حياته الماضية وهو طبعاً يقدر ذلك أعظم تقدير.


كان لم يتزوج بعد وقد مر عليه الزمن فكبر فى السن حتى ناهز الأربعين من عمره ولكنه كان ينظر إليه كأنه فى الثلاثين من شدة حيويته ونشوة شبابه وقوة شخصيته، ظل يحلم بعقد عمل إلى دول النفط يرفع من مستواه المادى ليجد بنت الحلال التى تحتاج لكم هائل من الأموال حتى ترضى عنه وتتزوجه، وأخيرأ وجد عقد العمل ودفع فيه تحويشة العمر وسافر على حسابه بالطريق البرى فقد كانت هذه إحدى شروط السيد الكفيل الذى يمتلك المستوصف الخاص، وفى طريقه للسفر ذاق الأمرين من الأوتوبيس وطول الطريق وشقاء السفر والحر والحسرة على فراق الأهل والأصدقاء والجيران والأحبة ولم يجد فى طريقه صديقاً مخلصأ يأنس به أو رفيقاً حنوناً يشكو له وجع الغربة التى يشعر بنارها تلسع قلبه رغم أنه لم يزل بعد فى أراضى بلده الحبيب مصر ولم يعبر بعد إلى الجانب الآخر.


وصل الرجل إلى مقر عمله وهناك قابلوه مقابلة حسنة وأوصلوه إلى مسكنه الجماعى ( لأنه أعزب ) وكان بصحبته إلى مسكنه زميل له يعمل هناك منذ عامين وقد تأقلم ( على حد زعمه ) مع الوضع هناك حيث أن المنطقة التى بها المستوصف أهلها متشددون للغاية خاصة فى الشكليات الدينية فمثلأ حذره زميله من حلق لحيته لأنها ستكون مشكلة لو حلقها كلما راح أو جاء، كما طلب منه أن يحف الشارب وأن يرتدى جلباباً لا يصل للأرض وأن يحمل فى جيبه مسواكاً يدعك به أسنانه قبل كل صلاة وأن يقيم جميع فرائض الصلاة فى المسجد وعندما يسمع المؤذن لا بد أن يهرول للمسجد ولا يتأخر أبداً وإلا تعرض لمساءلة ( المطوعين ) وهم مسؤولون عن جمع الناس من الشوارع والمحلات والمنازل لأداء الصلاة ولو لاحظوا عليك - لازال الكلام من الزميل موجهاً للطبيب المصرى - أنك تتأخر عن أداء الصلاة فهىطامة كبرى، وإذا دعيت فى عزومة أو أكلت أمام الناس فى مطعم فعليك تناول طعامك بيدك اليمين ولا تستخدم اليد اليسرى فى ذلك أبدأ، وأن تشرب المياه على ثلاث مرات وتسمى قبل كل مرة وتحمد الله بعد كل مرة، وبالنسبة لتليفونك المحمول عندما تشترى تليفون وخط حذارى من وضع موسيقى أو أغنية كنغمة فى التليفون وإلا تعرضت هنا لمساءلات المطوعين الذين سيتتبعونك أولاً بأول ويرصدون حركاتك لحظة بلحظة، وبطبيعة الحال فقد كان لديك طبق ( دش) تستقبل به القنوات التلفزيونية فى مصر، أما هنا فحذارى من محاولة تركيب طبق فقد كسروا هذا العام أكثر من عشرين طبق وحكم بالجلد على من حاول تكرار محاولة تركيب الدش أو التلاعب عليهم بأى شكل من الأشكال فلديهم عيون تأتى لهم بالأسرار من كل مكان وساعتها لن يرحموك.

كل ذلك وأخونا الطبيب الجديد ينظر لزميله وقد فغر فاهه وفتح عينيه وصار نفسه سريعاً من الخوف والرعب والإنزعاج، كيف ذلك وما هذا الرعب الذى تريد أن تقنعنى به؟ أنا أصلى ولكن معظم الفروض فى المنزل أو العمل ومعظم الأحيان أقوم بتأخير الفرض لعذر يعلمه الله ربى وأحياناً أجمع فرضين وأحياناً أخرى يضيع منى فرض أو إثنان ولا أقضيهما،أما عن اللحية فأنا لم أطلق لحيتى طوال عمرى الماضى فكيف أطلقها اليوم ولماذا؟ وبالنسبة للمسواك فطوال عمرى أستخدم معجون الأسنان، وبالنسبة للجلباب فلن ألبسه أبدأ فأنا متعود على البنطلون والقميص وغيره، وبالنسبة لأكلى باليد اليمين والشرب على ثلاث مرات فلم أتعود على ذلك، فقال له زميله: لا بد أن تؤقلم نفسك على ذلك كما فعلنا جميعاً وليس مهماً أن تكون مقتنعاً يا صديقى فهى فترة وستمر!!


تعجب الطبيب من كلام زميله إذ أنه لم يتعود على فعل شىء بغير قناعة كاملة فقال له ولكننى غير قانع بما تقول فأنا أعلم أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يطلق لحيته مثل بقية القوم وحتى كان يطلقها قبل أن يبعث نبياً لأنها كانت عادة متبعة لقلة الحلاقين وصعوبة الحلاقة وأسباب أخرى وأما عن المسواك فقد كان النبى يقصد نظافة الفم والأسنان وطهارة رائحتهما ولم تكن فى زمنه فرشاة أسنان أو معجون يكافح الجير أو التسوس ولو عاش النبى فى زماننا لاستخدم المعجون والفرشاة لأنه أطهر خلق الله تعالى، راح صاحبنا - الطبيب الجديد - فى جدال عقيم مع زميله الذى تأقلم على الوضع وصار قطعة من أهل المكان بكل صفاتهم حتى يعيش ويكسب قرشين يعود بهما لأهله سالماً غانماً، ولكن بطل قصتنا كان مشاكساً ومجادلاً أكثر من اللازم، وعندما وصلوا لمسكنه دخل وودعه زميله وتمنى له الخير والتوفيق، ودخل صاحبنا مسكنه ورأسه يدور فيما سمعه من تحذيرات إقشعر منها بدنه، ونام ليلته من شدة الإرهاق واستيقظ صباحاً على كلاكس سيارة المستوصف ليذهب لإكمال الإجراءات فقام على الفور وفى بضع دقائق جهز نفسه ونزل للسائق وغادرا المكان متوجهين للمستوصف حيث قابل المدير الذى سلم عليه بحرارة شديدة ورحب به، ولكنه بعد فترة قصيرة بدأ يتحدث معه عن اللحية والشارب والجلباب والمسواك والإلتزام بآداب السنة النبوية، ولم يحاول صاحبنا جدال المدير كما فعل أمس مع زميله ولكنه وعده بأن يكون عند حسن ظنه، وتكررنفس الموقف مع كل من قابلهم من أطباء وممرضين وعمال فى المستوصف فالكل يلتزم بنفس الأشياء التى حدثه فيها صاحبه بالأمس، ولكن صاحبنا له رأى مخالف فهو يرى أن هذا تدخل من هؤلاء بينه وبين الله تعالى وأنه لا يجب أن يفعل إلا ما يؤمن به ولا يؤدى إلا ما يقتنع به ولكنه الآن وجد نفسه مجبرا على فعل أشياء لم تخطر له ببال، بل إنه كان يضيق ذرعاً بمن يشبههم فى مصر ولا يحاول مطلقاً أن يناقشهم لعلمه بتعصبهم وتشددهم بل وتطرفهم الذى وصل أحياناً لإتهام الغير ملتحين بالكفر ومعاداةسنة الرسول وغير ذلك من فكر متطرف عجيب، فكيف يعيش وسط هؤلاء؟ وهل فعلاً سيطلق لحيته؟ ويرتدى جلبابأ ويحمل مسواكاً ويأكل فقط بيمينه وكأن اليد الشمال بنت حرام؟ وكيف يستيقظ مبكرا لصلاة الفجر وقد تعود على صلاة الصبح بعد أن يصحو على مهله؟ وماذا سيكون موقفه لو أحداً من المطوعين تعرض له؟ إن كلامهم مطاع وهم يحكمون الناس ويتحكمون فيهم فكيف يعيش هنا وقد كان يعيش فى كامل حريته فى مصر لا يسأله أحد عن صلاته أو صيامه أو عباداته أو ملابسه أو لحيته أو شاربه أو طريقة طعامه باليد اليمين أو الشمال أو بكليهما، وعن غسل أسنانه بالمسواك أو بالفرشاة وغيرهما، بحر متلاطم من الأفكار المتزاحمة المشتتة.... هل يعود من أول أسبوع إلى مصر؟ هل يسمع كلامهم وينفذ تعاليمهم؟ ويلغى عقله وقناعته التى عاش بها؟ وماذا سيقول عنه الأهل والجيران والزملاء لو عاد بهذه السرعة، سيتهمونه بالفشل وعدم الرجولة وعدم القدرة على تحمل الغربة وفراق الأهل، والأصعب من ذلك سيضيع عليه ما أنفقه من مال قد اقترض نصفه للحصول على العقد والسفر فماذا سيكون موقفه؟ لقد أقنع نفسه أن يصبر حتى ولو عدة أشهر لتعويض مخاسره فى هذه الرحلة التى بدت تعيسة من أول لحظاتها، ومرت الأيام وبدأت لحيته فى النمو حتى استطالت وقصر شاربه، ولبس جلبابا أبيض ووضع المسواك فى جيبه وواظب على الصلاة فى مواعيدها واكتشف أنه عندما يذهب لصلاة الظهر فى الثانية عشرة فإن الإمام يقيم الصلاة بعد خمس وأربعين دقيقة ويصلى فى ربع ساعة وبذلك يضيع من وقت عمله ساعة كلما ذهب لصلاة فرض من الفروض، وصار فى نظرهم الشيخ التائب والعابد الزاهد فكانوا يكنون له كل الإحترام والتقدير بعد أن غير من نفسه بنسبة 360 درجة، وهو فى داخله غير قانع بأى شىء يفعله.

كان المستوصف مقسوماً قسمين، قسم للرجال يقوم عليه أطباء وعمال وممرضون، وقسم للنساء يقوم عليه طبيبات وممرضات وعاملات، ولأن صاحبنا كان طبياً عاماً وكان يعمل فى دوام منفصل بذاته ليلاً فقد يأتى له الجميع بما فيهم النساء للكشف عليهم، وكانت أى سيدة تأتى طبعاً منقبة ويحضر معها زوجها أو أبوها أو أخوها ( محرم ) بفتح الميم والراء لأنه لا يصح أن تخرج وحدها وكنت أستدعى ممرضة من الجانب النسائى لكى تقوم بوضع السماعة على صدر المريضة بيدها هى وليس بيدى وكنت لا أجرؤ على سؤال المريضة عن مرضها لأن صوتها عورة فكنت أتوجه بالسؤال لزوجها أو محرمها فيرد هو ويشرح ما تعانى منه، وبالطبع التشخيص لا يمكن أن يكون صحيحا لأن هناك أعراض تكون فى العيينن ( بياض العين مثلأ لو تحول للأصفر ) والوجه ( شحوب الوجه مثلاً يدل على الأنيميا ) والشفتين ( هناك أمراض لا تعرف إلا من لون الشفتين ) والعنق ( أمراض الغدة الدرقية والغدد اللمفاوية العنقية ) لا بد أن يدقق الطبيب فيها حتى يصل لتشحيص سليم، فكان صاحبنا يضطر لكتابة روشتة علاج كبيرة لانه كان يخمن ( يتوقع ) التشخيص وهو غير متأكد منه!!!!!.


فى أحد الأيام لم يقم لصلاة الفجر فقد كان جنباً، وجاء المطوع لباب مسكنه وقال له ((الصلاة الصلاة )) فرد بسرعة: حاضر أنا قادم ودخل الحمام وهو شبه نائم واغتسل بماء سخن لأنه لم يتحمل الماء العادى وقتها وخرج فوراً لصلاة الفجر حتى لا يتعرض لعقاب المطوعين فأصيب بنوبة برد حادة ظل يعالج منه أسبوعين من إحتقان بالزور ونزلة شعبية حادة وارتفاع بالحرارة وخلافه ومع ذلك كانوا يمرون عليه لصلاة الفجر أثناء مرضه فيذهب للصلاة خوفاً منهم وهو مريض.


مما رآه من عجائب أنه فى أول ايامه هناك مدّ يده لجاره المصلى وقال له: تقبل الله وحاول السلام عليه فرفض جاره فى الصلاة السلام عليه أو حتى الرد عليه فحزن حزناً شديداً وسأل إمام المسجد عن هذا التصرف فقال له: السلام بعد الصلاة لم يرد فى السنة يا أخى!!!!


فاض الكيل بعد أربعة أشهر من وصوله وجاء موعد إمتحان وزارة الصحة الذى يدخله أى طبيب جديد فقرر أن يرسب فيه ليهرب من هناك وقد كان، فظهرت نتيجته وكان راسباً رغم أنه تكلف مبلغأ كبيرأ من المال رسوم دخول هذا الإمتحان ولكن الرسوب فيه كان فرصته الوحيدة للفرار والعودة لبلده، وقرر العودة رغم إلحاح المدير عليه بالبقاء وأن من حقه دخول الإختبار مرة أخرى فرفض وصمم على العودة لمصر، وحصل منهم على تأشيرة خروج نهائى وعاد أيضاً بالأتوبيس، وعندما وطأت قدماه ارض مصر سجد لله تعالى وقبل أرض وطنه الحبيب وقال لو عشت متسولاً هنا أفضل من الحياة هناك ألف مرة، وعندما وصل منزله وسلم على أهله بكى بكاءاً مراً وبكوا جميعاً من أجله ثم نام يومين ليرتاح من وعثاء السفر، وفى صباح اليوم الثالث حلق لحيته ذات الشعر الكثيف ونعّمها تمامأ مثل أيام زمان، ثم وضع شعر لحيته فى خطاب كبير( مسوجربعلم الوصول ) ومعه ورقة مكتوب عليها ( هذه بضاعتكم ردت إليكم ) وأرسلها لمدير المستوصف وعندئذ، هدأ قلبه وبردت ناره، واستلم عمله فى بلده وفتح لنفسه صفحة جديدة.

Hassan Ahmed Omar
egyptian writter
http://abohamdy.blogspot.com
عاشق الحب والسلام

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف