حتى لا نزوّر التاريخ 1
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
لماذا نضطر الى التشكيك دائما بمؤرخينا ؟ هل يعود ذلك لتجاربنا التي كشفت لنا دائما عن متاجرة بالأحداث والشخوص على حساب الحقائق ؟ لماذا نكتشف دائما متأخرين أن الكثير من محدثينا وكتابنا قد كذبوا علينا ؟ هل نحن حقا أمة ( لسانيات) والمبالغة جزء من بنائنا النفسي؟ هل فقدان المصداقية فيما بيننا وبهذا الشكل اللامعقول هو ما يسمح بإشاعة الكذب دون أي حرج ؟ هل مواجهة الكذب تستدعي الأستعانة بالكذب ؟ لماذا نتطوع مخلصين الى تشويه تاريخنا ؟ لماذا هذه الخصومة بيننا وبين النزاهة والحيادية والصراحة ونقد الذات أو الإعتراف بالخطأ ؟ وأخيرا، هل إنكسار ذواتنا وهزائمنا وخيباتنا ومرارة وضعنا الإجتماعي غير السوي هو وراء كل ذلك ؟
عام (1980) كنت في ديوانية أحد الأصدقاء في جنوب البصرة، وكان أحد الحضور يحمل نسخة من مجلة ألف باء العراقية وعلى غلافها عنوان رئيسي يقول (رواية رابعة لحادثة مقتل نوري السعيد) الرجل الأبرز في العراق الملكي، والذي قتل على أيدي المواطنين بعد يوم واحد من سيطرة العسكريين على السلطة في 14 تموز 1958، فدار نقاش وجدال وسجال بين الحضور حول أي من الروايات الأربع هي الصحيحة في مقتل الرجل، وكان يجلس في جانب آخر من الديوان ثلاث من الرجال كبيري السن منشغلين بمتابعة التلفزيون الذي كان يعرض يومها حلقة من مسلسل شهير عن (هارون الرشيد)، وبينما نحن محتدمين في نقاشنا فإذا بأحد الشيوخ الثلاث يقاطعنا ويفاجئنا بسؤاله ( يا أساتذة، إذا كان نوري السعيد الذي قتل من سنوات قريبة لم يتمكنوا من تحقيق رواية واحدة عن موته، فكيف يريدوننا أن نصدق تفاصيل ما يعرضوه أمامنا الآن عن حياة هارون الرشيد الذي مات قبل أكثر من ألف عام ؟!!.
إن أحداث التاريخ صنيعة من صنائع الإنسان، وهو من يدونها، لكن أحداث التاريخ وأبطالها وأنذالها غالبا ما تصلنا وفق تصورات هذا (المدون، المؤرخ)، لذلك أصبح علينا لزاما قبل الإطلاع على الحدث الذي يتناوله هذا المؤرخ، أن نتعرف على شخصيته ومدى حياديته وأمانته وصدقه ورؤياه الموضوعية وإحترامه لقارئه وللمسؤولية الأخلاقية المترتبة على ذاكرته، إضافة الى مكونه العلمي والإجتماعي والنفسي.
وكلنا قرأ وسمع لأكثر من عّلامة وبّحاثة عن تشكيكهم بمدوناتنا التاريخية البعيدة والقريبة، فكم هم أولئك (المؤرخين) الذين صنعوا على سبيل من الجبناء والأنذال والطغاة والمجرمين والسفهاء واللقطاء أبطالا أسطوريين، وكم سفهوا وصبوا على أبطالنا وشرفائنا وعلمائنا ومفكرينا لعناتهم ؟ وقيل - والكلام لأساتذتنا الأكاديميين - أن التاريخ الذي ورثناه (عنوة)، غالبا ما كتب في حضرة السادة الخلفاء السلاطين الولاة الملوك الرؤساء. فهل علينا أن نمضي مضي هؤلاء الأسلاف وننتهج نهجهم ؟
ربما يستسهل البعض - خطأ ً- أهمية ودور التاريخ في حياتنا، دون أن يعي أن واحدة من أهم معضلاتنا ومصائبنا وكوارثنا هو هذا التاريخ الذي له على الدوام إنعكاساته ومؤثراته على جميع مفاصل حياتنا، إن كان ذلك على مستوى السلطة أو المجتمع أو الفرد، أما عنصري الخطر الأساسيين لكل تداعياتنا فهما أولا إصرارنا على تزويرالتاريخ وتلفيق الأباطيل والبطولات الكاذبة والأساطيرالمخدرة، وثانيا فقداننا الجرأة على الإعتراف بواقعنا المشوه والمتردي والمتخلف والمريض، وهذان السببان كافيان لتشويه ذاكرة أمة بأكملها. وقلما وجدنا سابقا أو نجد اليوم كاتبا أو مراقبا ينظر الى الحدث أو شخوصه بمنظار إنساني وأخلاقي، وينقله بواقعية وشفافية وتجرد، دون أن يدس السم بالعسل.
أتابع بين فترة وأخرى الشهادات التاريخية التي يقدمها الباحث (حسن العلوي) من على شاشة قناة الحرة، وقد وقفت إحتراما لهذا الرجل أكثر من مرة، لجرأته على نقد الذات وكشف الحقيقة ولو على حساب شخصه وإنتماءه الذي لا ينكره وهو يحصي المثالب والأخطاء التي كانوا وراءها، ويسبغ على خصومه ومخالفيه في الرأي صفاتهم الحميدة، وكم تمنيت أن يحذو حذوه الآن الأخوة الذين يتناطحون ليل نهار مختلفين في تقييم حاكم أو مرحلة من مراحل تاريخنا القريب، بل ويتبادلون في مقالاتهم الشتائم والسباب والذم والقدح وتشويه السُمع، ومرة أخرى نتساءل مع شيخنا الذي عرضنا لسؤاله بداية حديثنا : كيف يُطلب منا أن نصدق فصول تاريخنا الذي كتب تحت سياط الجلادين والعسّافين، في عصور طبُعت بالقهر والخوف والظلم وجزالرؤوس والتفنن بالتعذيب ؟
أما السفاقة فهي خلق لم يخجل منه البعض ممن يعملون في حقل الكتابة والتأليف والإعلام عموما، ومازال بعضهم يتعاطى العمل وفق قاعدة ( أكذب أكذب أكذب حتى يصدقك الآخرون)، ألم نكن نقرأ بين فترة وأخرى عن الزهد وشظف العيش الذي كان عليه حاكم العراق السابق، في وقت يعلم فيه الجميع كيف إستباح هذا الرجل وعائلته وحاشيته المال العام وخلق من حوله عالما باذخا ومترفا لا يبزه فيه إلا الأباطرة الرومان، وكيف كان يهب لـ (أحد) المال أو الأرض أو الدار أو السيارة الفارهة لمجرد أن هذا (الأحد) ساق له نكتة أضحكته وأهتزت لها أكتافه !!.
ألم تنشر الصحف والمجلات العراقية قبل أكثر من عشرين عام إن طعام الرئيس مؤلف من خبز الشعير والتمر واللبن (1) وأن الرئيس (عام 1988) قد أصيب بالحرج ذات مرة لعدم إستطاعته تسديد دين عليه لراع باعه عدد من الأغنام فاضطر للإستدانة من ولده قصي مبلغ (2000) دينار، وإن بدلته العسكرية قد ضاقت عليه وليس لديه المال لشراء واحدة جديدة !!.
على ماذا إعتمدت المجلة في نشر مثل هذه الروايات ؟ ألم تكن قد إعتمدت على تصور(القيادة الحكيمة) التي أملته عليها ؟ بل إن هذه الحكاية تكشف لنا جانبا مهما آخر، فهي تعكس التصورات التي كانت لدى الحاكم وبطانته عن العراقيين من أنهم ليسوا سوى (قطيع) من الجهلة والأغبياء من السهل الإستخفاف بعقولهم، ألم ينشر (عدي) نجل الحاكم إعلانا في صحيفته يبلغ فيه عن فقدانه لبطاقته التموينية ومعلنا عن مكافأة لمن يعثر عليها ؟ فليمعن كتاب مرحلته (الشرفاء) في مدى سخرية (القيادة) وأبنائها من شعبنا، ففي تلك اللحظات وفي الجانب الآخر من بغداد وتحديدا في ساحة وقوف الطائرات بمطار بغداد الدولي، كان هناك هرج ومرج، فقد إنكب جمع من الفنيين المختصين على إحدى طائرات الخطوط الجوية العراقية المدنية التي إحتجزها (قصي) النجل الثاني للحاكم بدون مقابل، لغرض (تحويرها) كي تغادر الى إسلام أباد لجلب زوج من الحمير الوحشي لمزرعته لتسلية العائلة !!.
إن إستخفاف القائد وزمرته بالعراقيين يذكرنا بوقائع تنبه لها نخبة من العراقيون، فهي تكشف جانب من (العقد المرضية النفسية) الكثيرة التي كانت تتشكل منها شخصية (القائد)، مثل عقدته من الأكاديميين،(2) وعقدة صراعه مع المدينة (3).
قد يتصور البعض ـ خطأ ً- إن الأمثلة التي أوردناها وغيرها في حاشية مقالنا هذا، ساذجة وغير ذات أهمية، لكن إختصاصيوا التاريخ ينظرون إليها بعكس ذلك، فمعظم محللي ومحققي مدونات التاريخ إستندوا دائما الى تفاصيل يومية بسيطة ليستقرأوا من خلالها الأحداث والشخصيات وليسندوا بها تقييمهم لحقبة تاريخية.
هناك مشكلة أخرى نواجهها عند قراءة بعض فصول تاريخنا، وخصوصا فصول التاريخ العراقي الحديث وشخصياته، فكثيرا ما كنا نكتشف - ونحن نطالع كتابا يؤرخ لمرحلة ما - أن المؤلف قد راعى ذاته ومقامه وعقيدته وإنتمائه وربما قبيلته وعائلته وهو يؤرخ لحدث عاصره أو سياسيين عاصرهم ولو على حساب الحقيقة، دون أن يدرك الخطورة التي قد ينطوي عليها توثيقه هذا، وأنه سيخلف وراءه جدل وخلافات لا نجني من وراءها غير البللة والقلاقل والخصومات.
هناك عجز في التركيبة الذهنية والنفسية لأغلب شخصيات مؤرخينا ومحدثينا، هناك أكثر من تسوّس ينخر في الذاكرة العربية والعراقية، فهل يعقل الآن أن كل هذه الملايين الممتدة على طول الأوطان وعرضها تعجز عن تقييم مرحلة أو شخوص تقييما علميا ونزيها مع توفر كل هذا الكم الهائل من الوثائق والتسجيلات والبيانات والمكاتبات والشهود ؟
فالذي يطالع مثلا صفحات الصحف والمواقع الألكترونية اليوم يقف على مقالات تمجد حاكم قاتل جزار مجرم مريض قلما وجدنا شبيها له في التاريخ، بعبارات وأوصاف تصل حد التأليه. فما الذي يصح من القول غير إن هذا البعض يعيش أزمة شرف قبل كل شيء ؟
ونؤكد قبل أن نختتم هذا الفصل من الكلام، على حقيقة جوهرية وخطيرة وهي المسؤولة أولا وأخيرا عن كل مآسينا وإنحطاطنا وفشلنا وخيباتنا، تلك هي معاييرنا الأخلاقية، أو بلغة أدق، إنعدام النظرة السليمة الى الأخلاق كعلم له أسسه النظرية الثابتة ومنهج تعامل إنساني بحت، ليس له من علاقة إطلاقا بما عرفناه من أعراف وتقاليد وطباع وموروثات إجتماعية. (4)
فمازال محور الأخلاق عند معظمنا محدد بـ (بالحياض التناسلية)، والحفاظ على هذه الحياض هو الحفاظ على الشرف بأجمعه، وكل ما عدا ذلك ليس للشرف من علاقة به، وإذا ما طرق سمع أحدهم لفظة (الشرف) تبادر الى ذهنه فورا تلك النواحي الجنسية، فهو لا يريد أن يقتنع إطلاقا أن الشرف يسقط أيضا عند الكذب وعدم الأمانة وفقدان الشعور بالمسؤولية، لا يريد أن يقتنع إن الأنانية والأمتناع عن فعل الخير وسلب حقوق الآخرين هو العهر والدعر والسقوط والفجور والفحشاء والإنحراف الخلقي بعينه.
متى يقتنع العربي والشرقي عموما أنه لا الأديان ولا الفلسفات الوضعية ولا الضوابط العلمية للأخلاق النظرية حددت مفاضلات بين مفردات الشرف ؟ متى يقتنع إن الكذب والدعارة الجنسية على سبيل المثال بذات المستوى من الإنحطاط الخلقي ؟
والى أن يقتنع الجميع (أن الأعراف والتقاليد هي وحدها من وضعت التعاملات الجنسية كمقياس وحيد للشرف )، فإننا ماضون والحمد لله على رزاياه في إستساغة ماهو مشاع من أعراف تبيح الكذب والتزوير والدعارة اللسانية، ماضون ومجدّون في تعاطي القتل والترويع والترهيب والخطف والسلب والنهب والتحريض على العنف والكراهية، دون أدنى شعور بتأنيب الضمير أو بثـلب أو وخز للشرف المصون، دون دراية أن هذه الرؤيا للضواط الأخلاقية هي وحدها من أودت بنا الى كل هذه الفواجع والخرائب والمصائب والتخلف والتفاهة والتفتت والمباذل والرعونة والحيونة والضياع.
فيما سيظل تاريخنا القريب والبعيد مبنيٌ على التحريف والتزوير، وستظل ضلالاته تلقي بظلامها علينا لتتسبب بإختلافاتنا وعداواتنا وتخلفنا المعجل، الحاضر والمؤجل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1). عام 1998 وبسبب إحدى المواجهات العسكرية المحتملة، وضعت القيادة خططا إحترازية، منها أيجاد بدائل لبعض مقرات القيادة وغيرها، فكان إن إختاروا موقعا بديلا لمطبخ (السادة مرافقوا القائد) على مقربة من مسكني، وكنت أشاهد يوميا مدى الأسراف والبذخ الذي كان عليه طعام هؤلاء السادة (وبما لا يتصوره عقل صحفيي صدام)، ليست الحكاية هنا، إنما كانت المفاجأة بعد أن ينتهوا من تحميل كل سيارة بالأطعمة العائدة لـ (سيد ٍمرافق)، فقد كان الطباخون يحملون ما تبقى لديهم من لحوم الأغنام والسمك والدجاج والفاكهة والألبان والعصائر ليلقوها في حفرة كبيرة أمامهم، وعندما سألتهم لماذا لا توزعوها على هذه العوائل الفقيرة من حولكم ؟ فرّد عليّ رئيسهم : ممنوع !!، وسألته لماذا ؟. فقال : إن القيادة لا تريد أن يرى الآخرون ماذا تأكل، لأن طعامهم سيكون (منفوس!!)..
(2). كان الرئيس إذا ما أستقبل وفد من الفلاحين أو من عامة الناس البسطاء، يتحدث لهم بلغة فصحى مستخدما مصطلحات (الأيدلوجية والبنيوية والتكتيك والتجريد إلخ )، وعندما يكون في حضرته جمع من أساتذة الجامعات أو المهنيين الأكاديميين، يتحدث معهم بلهجة ريفية مثل (ياولم يابا حنا جاي إنحجي عن كون، وهسا عينة ال ما يعرف يكاون ما نكرمو). لا لشيء سوى عقدته من الأكاديميين ورغبته المبيتة في قطع الدرب عليهم خشية إستخدامهم مفردات لا يفقهها !!..
(3). بالنظر لأهمية الحديث عن صراع البداوة والحضارة الذي أسس له عالمنا الإجتماعي إبن خلدون، والذي جسده الرئيس السابق كأحد (عقده المرضية) رأينا أن نفرد فصلا خاصا لعقدة صدام من المدينة في حلقة منفصلة.
(4). ينظر في كتاب (الأخلاق النظرية) للدكتورعبد الرحمن البدوي.
عبد الجبار البياتي