أصداء

کم أحب الموت

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

لست من الذين يحبذون إقامة علاقات صداقة واسعة ومع أي کان، بل لقد کنت دوما مقلا و حذرا من هذه الناحية، لکنني في نفس الوقت عندما کنت أجد الانسان الذي أقتنع به و ألمس أو أستشف من خلال شخصيته شيئا ما يهمني، سراعان ماکنت أجد نفسي ميال الى ذلک الانسان، وهنا في المانيا، حيث الحياة تأخذ نمطا يميل الى التعقيد و الانطواء، لم أجد نفسي ذات يوم إلا وأنا مهتما لأمر رجل الماني تعرفت اليه لاول مرة من خلال مراجعتي لعيادته و صار فيما بعد صديقا ألتقي به خلال فترات لم تکن منتظمة.


الدکتور بيتر غرويتهzwnj;، کان طبيب اسنان قد تجاوز العقد الخامس من عمره بقليل، ورغم انه لم يکن يحبذ التکلم أغلب الاحيان، لکن المرء لو تمکن من إستدراجه فإنه کان سيواجه انسانا لبقا و متمکنا من السيطرة على عقل و وجدان محدثه، وقد کنت أجهد أغلب الاحايين لإستدراجه سيما حين کانت لحظات يتيمة تجمعنا في احدى کافيتريات المدينة لنحتسي شيئا من القهوة أو الجعة معا.


غرويتهzwnj;، کان ينظر للحياة من زاوية مغايرة تماما للتي انا کنت أنظر منها، والغريب انه کان صريحا لحد"جلد"و"صفع"المقابل بحقيقة مايعتريه إزاءه، وأذکر مرة وأنا أود أن أستبين رأيه بالذي يجري في منطقة الشرق الاوسط، فقال في هدوء وبرود قاتلين، وماذا يجري هناک؟ أليس هو ذات الاحمق المسمى بالانسان؟ و مرة أخرى و أنا أنصت لحديث له بخصوص الممثلة الراحلة رومي شنايدر، فجأة غير مسار حديثه وقال بنبرة يغالبها اليأس: شنايدر على الاقل کانت تمثل مقابل حفنة من الاموال و بريق شهرة ما، أما نحن، فأي ممثلين تعساء نحن؟ اننا أشبه بمهرجين تمرسوا في کل أشکال الحزن و السأم و الکآبة ولکن بفارق إننا نقبض في مقابل تهريجنا الفارغ و غير المجدي، سأم قاتل.


لا أدري ماذا کان سر تعلقي بهذا الطبيب، أحيانا کنت أتصور ان فيه الکثير من نفحات و أفکار کامو و کافکا، وفي مقتبل شبابي الذي ذهب هباءا منثورا، کنت من أشد المأخوذين بذينکما الکاتبين المشهورين، والغريب ان غرويتهzwnj; کان يرغب بالانصات لي بدقة کلما ذکرت شيئا عن الکاتبين الآنفين رغم انه کان يکره کثيرا دفتر الملاحظات الذي يکاد يرافقني دوما لأسجل ما يروقني من ملاحظاته و أقواله، بل وکان يود الاستماع الى کل کاتب آخر مماثل لهما، ومن هنا أذکر کم کان مأخوذا بالشاعرة الايرانية الراحلة"فروغ فروغزاد" و بالکاتب الايراني"صادق هدايت"، عندما کنت أروي له ما تحفظه ذاکرتي من آثارهما الرائعة، ولست أنسى کم أعجبه اسم إحدى روائع الراحل الکبير نجيب محفوظ"قصة بلا بداية و لانهاية"حتى انه من فرط إعجابه و إبهاره بالعنوان قال، کان يجب أن يمنحون محفوظ جائزة نوبل لأجل هذا العنوان الرائع فقط. والحق، ان الدکتور غرويتهzwnj;، کان يرى الحياة ذاتها قصة بلا بداية و لانهاية مثلما إنبهر کثيرا بمقطع من شعر مظفر النواب الذي يقول فيه"والليل کعمر الاموات طويل فکيف تحاسبني و کيف أتوب" ، حيث ردد کثيرا و في لقاءات أخرى لنا عبارة"الليل کعمر الاموات طويل"، وکأنه کان يرى قصرا أو قصورا في عمر الاحياء و وجد ضالته في عمر الاموات!


وبسبب من مشاغل و مشاکل الحياة، إنقطعت عن الدکتور غرويتهzwnj; لفترة أتصور انها تجاوزت الشهرين، وذات يوم وأنا أراجع عيادته لکي يستطلع الوضع العام لأسناني، وجدت اسما آخرا على اللوحة الخارجية للعيادة، وقد فوجئت بالامر في البداية و لما دخلت العيادة وسألت، وإذا بي اسمع خبرا نزل علي کالصاعقة، لقد أخبرتني السکرتيرة ان الدکتور غرويتهzwnj; قد إنتحر قبل شهرين!


دارت بي الدنيا، ووجدت نفسي أکره الموت و أمقته لأنه إختطف انسانا کنت أجد الکثير من السلوى بمجالسته، وشعرت بحالة من الکآبة التي أنستني الکثير من الامور و لم أجد نفسي إلا و قد طفقت أتتبع أخباره من أصدقائه و المقربين منه، فأخبروني بأن غرويتهzwnj; قد إنتحر بشنق نفسه بواسطة قطعة حبل!
ولست أرغب في التفلسف و فذلکة الکلام بخصوص الفراغ الروحي الذي يعيشه الانسان الاوربي ذلک انني اجد الانسان هو ذاته لو کان في أي مکان، وان الحزن و الاحساس بالکئابة هو نفسه لو لف الانسان في أي مکان من البسيطة، وقد لاتستطيع زخارف الحياة ولا بهجتها من إدخال شئ من الاحساس بالسعادة الى نفوس إشرئبت بالاحزان حتى غدت کل الاشياء بلون و طعم الحزن، وهذا هو کان حال صديقي غرويتهzwnj;، الذي فاجأني مرة وأنا أقول له أثناء إحتساءنا للقهوة، کم أحب القهوة، فقال مردفا بصورة لم أألفها منه سابقا وهو يبتسم فيما کانت تقاسيم وجهه تأبى الانبساط: وأنا... کم أحب الموت!

نزار جاف
nezarjaff@gmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف