السودان: ابعد من رفض القوات الدولية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
نلهث، دون كثير جدوي، ومعنا لغتنا، خلف عالم يتقدم بالطفرات لاسيما في مجال التكنولوجيا. ماهو المقابل العربي لمصطلح virtual reality الكومبيوتري ؟ هل هو شبه الحقيقه، الواقع الافتراضي، الواقع الخيالي ام الخيال الواقعي؟ ايا كانت الترجمة الصحيحه فأن مؤدي المصطلح هو ذوبان الحدود بين الخيال والواقع منصهرة بحرارة العقل الطليق وانجازاته الجبارة في حقول العلوم الطبيعية والانسانيه. كلمة طفره، لو نذكر، دخلت قاموس البؤس السوداني وعدا من نظام مايو النميري ( 69 -85) بطفرة تنمويه تلحقنا بالبرازيل، أنتهي بنا الي استئناف حرب الجنوب اهليا ومجاعة زحفت علي الغرب ممهدة الارض لحرب دارفور الاهلية بوعد من نظام انقلاب 1989. من تفاعل الحصيلة الكارثية لوعود هاتين الشموليتين وجدنا انفسنا أمام مجموعة مازق متداخله تعج بالاسئلة والطلاسم. الحاضر الان بقوة من بين هذه الاسئلة: لماذا يرفض المؤتمر الوطني القوات الدولية في دارفور وكان قد قبلها في مواقع اخري وبالضد من موقف شريكيه الكبير والصغير، الحركة الشعبيه وحركة التحريرجناح مناوي، واصدقائه الدوليين مثل فرنسا؟ ماهي مصلحة المؤتمر في استعداء تحالف غربي لعب دورا اساسيا، ان لم يكن الاساسي، في جعل اتفاقية نايفاشا ممكنه وهي التي تبقيه القوة الكبري في الحكم خلال الفترة الانتقاليه قبل الانتخابات وبعدها وتضمن بذلك استمراربقائه فيها علي المدي المنظور مهما كانت نتيجة الاستفتاء علي تقرير المصير ؟
قتل هذا الموضوع بحثا واجابات. المؤتمر نفسه قدم اكثر من تفسير لموقفه يتمحور حول التباينات بين طبيعة وظروف اتفاقيتي نايفاشا وابوجا وحول بعض جوانب قرار الامم المتحده رقم 1706 وماأعتبره نوايا خفيه وراء دوافع امريكا والغرب. وهناك تفسيرات الجهات غير المتعاطفة مع المؤتمر الوطني وتدور حول صراع بين جناحين الاقوي منهما هو الرافض للقوات الامميه ويترجح تأثيره لان ضغوط الامم المتحده والدول الغربية بقيت حتي الان ضعيفة بما لايحد من وزنه. التفسير الاخر اكثر بساطة وهو ان مجئ القوات يعني حتمية التعامل مع المحكمة الدوليه بقائمة متهميها التي بدأت بأثنين ولكنها لن تتوقف عندهما عدد ومقاما. يجمع بين هذه التفسيرات انها تنتمي لعالم الواقع ولكن هناك تفسيرا ينتمي لعالمي الواقع والخيال تمتزج فيه عناصر من كليهما قد يكون اكثر سلامة وهو، علي الاقل، افتراض يستحق التأمل فيه كبديل او مكمل لتلك التفسيرات.
مختصر هذا التفسير ان الرفض تعبير عن استقرار المجموعة الفاعلة في المؤتمر الوطني والحكم علي استراتيجية ترمي لنسف اتفاقية نايافاشا كلية او جعلها غير ذات موضوع بدفع الطرف الجنوبي، حركة شعبية وشعبا، الي حسم امره بالانفصال. حسب هذا السيناريو شبه الخيالي او شبه الواقعي المقصود من الرفض استخدام قضية القوات الدوليه المرتبطة بأتفاقية ابوجا كأداة لتعكير العلاقة مع الامم والولايات المتحدة الامريكية وبريطانيا في سياق هذه الاستراتيجيه. وفق هذا المنطق تغدو مفهومة تصرفات اخري مثل عرقلة قدوم وفد لجنة حقوق الانسان في فبراير الماضي بالتركيز علي دور رئيستها الامريكيه، وقبلها مباشرة عدم اجتماع رئيس الجمهوريه بممثلي الامين العام والاتحاد الافريقي الياسون وسالم وقبل ذلك التعامل الخشن مع ايان برونك ممثل الامين العام للامم المتحده بطرده وكذلك مع مساعده للشئون الانسانيه بمنعه من زيارة بعض مناطق دارفور. هذه الحزمه من التصرفات تهدف لاختبار مدي استعداد هذه الجهات او قدرتها علي منع المؤتمرالوطني من التملص عن التزاماته بموجب الاتفاقية بأكثر مما يفعل الان اي تجميدها فعليا بحيث يكون استفتاء تقرير المصير قضاء لامر كان مفعولا ويجد المؤتمر بين يديه سودانا بلا عقبات غير اسلاميه، يدرك بتجربته مع الشمال منذ يونيو 89 ان من الممكن السيطرة عليه بمزيج من الخطاب الديني وسياسة الجزرة لقوي السوق المتناميه النفوذ والعصا للبقيه. وهذا مكسب فوق البيعه، كما يقال، لان هناك مكسبا اهم وراء استقصاد الاتفاقيه من وجهة نظر صانعي القرار في المؤتمر.
ان العنصر المفقود في التحليلات السائدة لكيفية تعامل قيادة المؤتمر والحكم مع موضوع القوات الامميه هو النظر لحصاد التجربة خلال عامين من تنفيذ اتفاقية نايفاشا بعيونها، اي من واقع مناخاتها النفسيه ومحفزات التفكير لديها. الثغرة المحدودة التي فتحتها الاتفاقية في جدار قبضة المؤتمر علي السلطه، واخر نماذجها اضطراره للتراجع عن ايقاف جريدة السوداني، تتسع يوما بعد يوم بما يهدد بفقدان السيطرة تماما اذا نظر اليها من زاوية معينه. هناك دستور ديموقراطي في اساسياته حتي لو كانت القوانين السائدة مناقضة له وشريك في السلطه هو الحركةالشعبية لايمكن اسكاته عند الخلاف حتي لو كان تجاهله في التنفيذ ممكنا ومجتمع دولي وشركاء ايقاد لهم موقعهم مراقبة وضغطا وفق نصوص الاتفاقية نفسها. برغم محدودية التاكل الفعلي في قبضة المؤتمر علي السلطه الناجم عن هذه القيود منذ بدء تنفيذ الاتفاقيه، فأن مجموعة من الاسباب ادت لتجذر عقلية الاحتكار السلطوي بدرجة من العمق تجعل حجم الاحساس بالتاكل لديها اضعافا مضاعفة بالمقارنة لحجمه الفعلي دافعا الي تصرفات تبدو لاعقلانية للذين ينظرون اليها من خارج تلك العقليه حتي اذا فكروا في الموضوع وفق مايعتبرونه مقياس مصلحة المؤتمر الوطني. هذه سلطة عمرها الاحتكاري شارف علي العقدين من الزمان دون تهديد داخلي جدي حتي بعد انقسامها افقيا ورأسيا بخروج مجموعةالترابي لان ضعف المعارضه الشماليه ضعف مزمن ومتزايد لكون مصدره الاساسي ليس ذاتيا وانما انعكاس لحالة مجتمع انحسر فيه نفوذ تيارات الاستنارة والعقلانية ثقافيا واجتماعيا وسياسيا. اضافة لذلك فأن بعض اوساط المؤتمر تعتبر سلطتها امر دين وحقا الهيا يؤكده وصول شبيهاتها العربيات الي الحكم واقتراب بعضها منه كبديل اول في فلسطين ومصر وسوريا وغيرها. وفوق كل ذلك هناك تخوف اوساط معينة في المؤتمر من العواقب المستقبلية المحتملة علي مصيرها الشخصي اذا ضعفت قبضة الحزب علي السلطه علما بأن الاحساس بالخطر يتضاعف هنا ايضا بأكثر من درجته الفعليه..اذا اخذت هذه المؤثرات المتشابكة وترسباتها في العقل الصاحي والباطن في الاعتبار يغدو ممكنا تصور وجود دوافع وهواجس بمستوي من القوه يدفع الي رسم استراتيجية لتقويض نايفاشا وتشييد دولة المؤتمر الوطني في بقية البلاد بدء بالتصلب في موقف رفض القوات الامميه. والحال ان هناك عوامل اخري ترجح صحة هذا التحليل لدوافع مطبخ صنع القرار في الحزب الحاكم ذلك أن نظرة الي المشهد الراهن تكشف عن الكثير مما يغري برسم سيناريو التخلص من اتفاقية نايفاشا الذي استقرت عليه تلك المجموعه.
صحيح ان امريكا، الرقم الاهم في معادلة الضغط الخارجي، لاتريد الانفصال الذي سيترتب حتما علي مثل هذه الاستراتيجيه لانه سيعلق في رقبتها دولة موبوءة بمشاكل التأسيس ومغلقة جغرافيا مما يجعلها تحت رحمة جار شمالي تحكمه سلطة غير صديقه لفترة طويله. علي ان امريكا ليست في وارد التدخل العسكري لحماية الاتفاقيه او التهديد الجدي به بالنظر للاعباء التي ينوء بها ظهرها في العراق وافغانستان وغيرهما. وبما ان الحركة الشعبية لاتستطيع ارغام المؤتمرالوطني علي الالتزام بالاتفاقيه في غيبة ضغط غربي فعال فانها ستقنع في نهاية المطاف مرغمة من الغنيمة بالاياب جنوبا لان المصدر الاخر للضغط وهو الشمالي كان وسيظل محدودا للغايه. فالمعارضة الشاملة وطنيا، الحزبية والنقابيه، ضعيفة ضعف وعي نخبوي وشعبي انحدر لمستوي لم يعرفه السودان طوال تاريخه المعاصر والدليل علي ذلك أن اكثر الضغوط فعالية علي السلطه الان مصدرها جهوي- اثني اولويته الحصول علي نصيب في السلطة والثروه وليس الديموقراطيه... اي بعيدا عن الطريق الوحيد لتفكيك الازمة العامه. وهذا معناه، من جهة اخري، ان الولايات المتحده ليست في وارد محاولة اسقاط النظام ايضا.
صحيح ان هناك امكانية لتدخل غربي اقل من العسكري ولكن هذا مقبول لدي قيادة المؤتمر الوطني مهما كان حجم العقوبات الدولية والثنائية التي سيجر اليها لانها ثمن رخيص بالمقارنة لما تعتبره جائزتها الكبري وهي الاحتفاظ بالسلطه وفي دولة ( صافية ) اسلاميا، وعلي كل حال فأن ظهرها محمي علي الصعيدين بالحائط الصيني والي حد اقل بالدب السوفيتي مما سيخفف من هذه العقوبات. كما ان كثيرا من هذه العقوبات يمكن الحد من تأثيره. فعرقلة تصدير البترول يحد منها ان معظمه يذهب للصين ودول اسيوية اخري، وتجميد الاموال العامة والخاصه يمكن الاحتياط له منذ الان، والمحكمة الدوليه تقرر سلفا عدم التعامل معها، والحصار الاقتصادي يخفف منه اضطرار الدول الغربية لمراعاة الجنوب فضلا عن ان عبأه لن يقع علي المؤتمر واهله وحظر تصدير السلاح يجري التحسب له بأستغلال 70% من عائدات البترول لانتاج مايمكن انتاجه محليا وبالشراء من الصين كما ان خرق الحظر له سوابق كثيره.
صحيح ان النسبة الاكبر من البترول المستثمر حاليا في الجنوب او مناطق الحدود مع الشمال ولكن احتمال الاحتياطات الكبيره موجود في الشمال الغربي والشرق وفقا لمصادر وزارة الطاقه. كذلك فأن خبرة الاستخراج والتسويق محصورة لدي رجال الحكم. وهذا مع خبرتهم المشهودة الاخري في التحايل ستمكنهم من الاستمرار في استنزاف البترول الجنوبي لفترة اطول حتي لو سقطت نايفاشا رسميا وذلك بالاستمرار في اللعب علي قضية ترسيم الحدود. وكرت الضغط والتلاعب القوي الاخر هو وجود انابيب النقل وميناء التصدير في الشمال وكذلك مصافي البترول الثلاثه الي جانب حاجة دولة الجنوب الي المنافذ الشمالية علي البحر لقدر من صادراتها وورادتها ريثما تفتح لها منافذ كافيه عن طريق شرق افريقيا.
صحيح ان الراي العام الشمالي مع الوحده في عمومه ولكن بسلبية تطبع كافة مواقفه منذ زمن بعيد ابرز مظاهرها غياب الانتفاضة العتيدة التي اسقطت نظامي عبود ( 58-64 ) ونميري من قبل رغم توفر اسبابها بأكثر مما كانت عليه في اكتوبر 64 وابريل 85 بمراحل ومراحل. علي ذلك فهو عاجز عن سد طريق المتوجهين نحو التقسيم واعجز عن تعويض ذلك بجعل الوحدة جاذبة للجنوبيين لان الطريقة الوحيدة لذلك هي تصحيح الوضع في الحكومة المركزيه وفي وقت تفيد فيه شهادات اكثر من قيادي في الحركة الشعبيه ( عرمان، باقان ) بالحاجة الي جذب وحدوي قوي للغايه ليخرج الجنوبيون من مزاجهم الانفصالي الراهن.
صحيح ان الحركة الشعبية تتصرف بضبط اعصاب تحسد عليه ازاء تصرفات شريكها المناقضة لنصوص الاتفاقية وروحها وان الغرب والامم المتحده قدما اكثر من تنازل في تفسير القرار الاممي وتنفيذه لتليين موقف قيادة المؤتمر الوطني من القوات الامميه ولكن امكانية استدراج الغرب والحركة الشعبيه الي موقف يبدو فيه انهيارالاتفاقية من مسئوليتهما او، اقله، امرا قابلا للمغالطة حوله تظل قائمه. ايغال قيادة المؤتمر الوطني في طريق التصلب الي اخره والتحايل المتكرر والفظ احيانا لتعطيل تنفيذ الاتفاقيه ( ابقاء القوانين المناقضة للدستور، بقاء صلاحيات جهاز الامن دون تغيير، الطريقة الملتوية في تمرير قانون الاحزاب، تعطيل تقرير خبراء ابيي، الاحتفاظ بقوات الدفاع الشعبي الخ..الخ..) سيستدر في نهاية الامر رد فعل ما من هاتين الجهتين تنفخ فيه اجهزة المؤتمر الاعلامية وغير الاعلاميه مما يثير بلبلة حول الجهة المسئوله.
صحيح ان السيد عبد الرحيم حمدي برأ ورقته الشهيرة التي ظهرت في اكتوبر الماضي من شبهة التحضير لسيناريو دولة المؤتمر الوطني ولكننا اذ نستعيد هيكلها هنا نجدها شديدة الانسجام معه. الفكرة الرئيسية التي طرحتها الورقة هي ان القوة التصويتية التي ستحسم اي انتخابات قادمة تتركز في ولايات الشمالية حتى سنار والجزيرة والنيل الابيض وكردفان وبما ان هذه المناطق هي الاكثر استجابة للمؤثرات الخارجية والاكثر وعياً وطلباً للخدمات والانتاج وفرص العمل بحكم انتشار التعليم في اوساطها وسهولة الاتصالات فيها، فان تركيز الاستثمارات يجب ان يكون بالضرورة فيها.
واخيرا صحيح ان الاسلاميين الانتباهيين، نسبة للصحيفة الناطقة بأسمهم، يطرحون افكارا ومواقف قريبة من الهدف النهائي لهذه الاستراتيجيه الخفيه ولكنهم في الحقيقة يمثلون حشرجات موت الاسلام الايدبولوجي وهو يلفظ انفاسه الاخيرة تحت وطأة تقدم بديله( الاسلام ) البراجماتي: تحالف بورجوازية التحرير الاقتصادي الاعمي ديموقراطيا واجتماعيا مع بيروقراطية الدولة والحزب المدعوم بدخل الريع البترولي. هذا البديل هو المقرر الحقيقي للتطورات الخطيرة القادمه ومن هنا اهمية التركيز علي متابعة مسيرته بكافة ادوات التحليل المتوفره ومن بينها الاداة الجامعة بين عناصر الخيال والواقع التي اعتمدها هذا المقال، فقد يتضح مستقبلا تغير النسب بينهما لمصلحة الاخير.
عبد العزيز حسين الصاوي
Alsawi99@hotmail.com
كاتب سوداني