أصداء

موافج.. موافج في مصر

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

تكاد قصة تصويت مجلس الشعب المصري على التعديلات الدستورية المقترحة، مؤخرا ً، أن تكون صورة طبق الأصل، عن قصة عضو مجلس الأعيان العراقي في العهد الملكي محمد العريبي. فقد روي عن العريبي أنه كان، ذات جلسة، يحدّق ساهيا ً في المنصة الطويلة العريضة الموضوعة في صدر المجلس، أثناء مناقشة مشروع قانون ما، وعندما جرى التصويت على القانون، رفع النائب يده على الفور صائحا ً : موافج.. موافج.. ( موافق.. موافق ) لچن ( لكن ) شلون طبـّبتو ( كيف أدخلتم ) هذا الميز ( المنصة أو المنضدة ) من هذا الباب الصغير ؟!

فبينما انصبت انتقادات المنتقدين للتعديلات، على منحها صلاحيات مطلقة لرئيس الجمهورية وقوى الأمن، بحيث يغدو تغيير الرئيس وتداول السلطة سلميا ً أمرا ً مستحيلا ً، وتمنح الأجهزة الأمنية سلطات قمعية ليست لها حدود، راح " المصوّتون " ومؤيدوهم من الكتـّاب والصحفيين يتحدثون عن أشياء ثانوية هلامية ولاملامح لها، مثل فتح أبواب المستقبل على مصراعيها أمام الشعب، ومساواة الفقراء بالأغنياء، وإعادة للكرامة للشعب المصري من خلال رفع الرقابة القضائية عن صناديق الاقتراع، أو على حد تعبير الصحفي المصري " الموافج " أسامة سرايا : " هو الشعب المصري شوية عيال حتى نخلـّي عليه رقابة قضائية ؟ "

ويبدو أن مشكلة الكتـّاب والصحفيين " الموافجين " في كل عصر ومصر أكثر " عواصة ً " وتعقيدا ً من غيرها من المشاكل. فالكاتب والصحفي هو رقيب الرأي العام على صنـّاع القرار والماسكين برقاب الناس، ومهمـّته التنبيه والتحذير لا التصفيق والتصفير استحسانا ً، وإذا أخذ دور المؤيد والموافق والمؤالف والمحالف للسلطات الحاكمة، مهما كانت درجة شعبيتها وديمقراطيتها وعدالتها وصلاحها وتقواها وورعها، فيكون قد كشف ظهر الجمهور الذي استأمنه على شرف الكلمة وتركه أعزل َ أمام المصائب والنوائب والنازلات وما أكثرها !

ولكن الموعظة لاينبغي أن توجـَّه إلى الكتاب والصحفيين وحدهم، على هذا الصعيد، وخاصة ً في مصر والبلاد العربية. فالسلطات الحاكمة والقوى المسلحة وقطاعات من الجمهور كذلك تفضـّل دور المصفـّق و" الموافج " بالنسبة للكاتب والصحفي أكثر من تفضيلها دوره الناقد والمصحـّح والمقوّم، وإذا أحسـّت بأن رياح الصحفي تجري بما لاتشتهي سـَفـَنها عاجلته بضربة التجويع القاضية، وطردته من عمله كما تـُطرَد الكلاب، أو حاصرته في الميادين الحرة كما يـُحاصر جرذ مذعور. وإذا كنـّا - نحن معشر القلم - نجد من يطعمنا ويؤوينا في البلاد الحرة، فأين يذهب زملاؤنا الطاوون على الجوع في بلاد الخير، إلا ّ إلى التصفيق والارتزاق أو الهلاك فقرا ً وفاقة أواغتيالاً كما يحصل في العراق.
ففي التاريخ المصري المعاصر، على سبيل المثال، كان الرئيس الراحل جمال عبد الناصر يضيق ذرعا ً بأيّ نقد يوجـّه إلى سلطاته من قبل الصحافة، حتى أنه تحدث عن مجلة " روزاليوسف " كمجلة ناقدة مدّعيا ً أن أكثر مايذيعه راديو إسرائيل من أخطاء في مصر منقولٌ عن " روزاليوسف " ! ( عبد الله إمام : حياتي في الصحافة، دار الخيـّال / القاهرة-لندن، ط1، سبتمبر ( أيلول ) 2000، ص 112 ). وكذلك كان الرئيس الراحل أنور السادات أكثر الناس حديثا ً عن حرية الصحافة وأكثر الناس غيظا ً من أيّ نقد يـُوجـَّه إلى الحكومة معتبرا ً - على حدّ تعبيره - المشاكل معروفة وبنحلّ فيها.. " ليه الإثارة بقى ". فكانت حرية الصحافة في عهده واسعة وبلا حدود في الهجوم على الماضي، والتبشير برخاء المستقبل، أما الحاضر فلا داعي للتعرّض له ! ( نفسه، ص151 ).

إن أفضل حل ٍّ أمام الكتـّاب والصحفيين الذين يرغبون عن الانخراط في جوقات " الموافجين " المتكاثرة هذه الأيام، هو اللجوء إلى العالم الحر و هري جلد الحاكمين والمصفقين لهم في بلادنا الخائبة بالنقد اللاذع المتواصل، لكن ليضعوا في حسبانهم أن يد البطش السلطوي يمكن أن تطولهم حتى في لندن الآمنة، ويطوى ذكرهم وخبرهم مع الأيام، وتـُسـَجـَّل الجريمة ضد مجهول، بعد أن يعجز خبراء سكوتلانديارد عن الاهتداء إلى أي خيط يوصل إلى الفاعل، إذا عاشوا حياة اجتماعية طبيعية، وخالطوا الناس دون تدقيق في هوياتهم، وأتاحوا لمن هب ّ ودب ّ معرفة عناوين سكنهم وأرقام هواتفهم وخرائط تحركاتهم وإلخ... من بياناتهم الشخصية.

ألم يوجد العميد علي شفيق مدير مكتب نائب الرئيس والقائد العام للقوات المسلحة المصرية الأسبق المشير عبد الحكيم عامر مقتولا ً في شقـّته المؤجـّرة مفروشة ً في شارع الأطباء " هارلي ستريت " في لندن، يوم الثلاثاء 5/7/1977، وكانت الشقة مقلوبة رأسا ً على عقب، وكانت رأس علي شفيق مهشـّمة ً، والدماء تغطي وجهه، ومخـّه إلى جواره، على البلاط، وفشل أبرع ضباط سكوتلانديارد في التعرّف على القاتل ؟ ( عادل حمـّودة : إغتيال عبد الناصر، الفرسان للنشر، القاهرة، يوليو ( تموز ) 2000، ص123 )
وألم تغتل الجماهيرية العظمى عددا ً من المعارضين المنتقدين لها وتختطف أحدهم من بقالته في لندن، وآخر من الشارع في القاهرة، دون أن يصل المحققون إلى أية نتيجة حتى الآن ؟
وأخيرا ً، ألم يـُقتـَل، صحفيون روس عديدون، بأشكال مختلفة، لانتقاداتهم العلنية والجريئة لما يجري في بلادهم ؟
يقول الأكاديمي الروسي يوري فلشتنسكي في كتاب كان قد ألـّـفه مع رجل المخابرات الروسية الذي مات في لندن مسموما ً بالإشعاع ألكسندر ليتفيننكو إن ليتفيننكو دفع ثمن معرفته الدقيقة للأساليب الماكرة التي اتبعها مؤيدو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لتسويق الأخير كواحد من أكثر زعماء روسيا شعبية يتم انتخابه حتى الآن، وحرصه على كشف هذه المعلومات للرأي العام. ويضيف : لقد روى لي مالم أكن أريد سماعه من الفظاعات، عن قتل الشيشانيين حرقا ً أو دفنهم أحياء، ووصف لي أساليب التعذيب الوحشية بدقة مجسـّمة.

يواصل القول إن الضابط السابق القتيل كان يدرك أنه سيعاقـَب إن عاجلا ً أو آجلا ً على " خيانته " في المؤتمر الصحفي الذي كشف فيه في موسكو عن الأمر الذي وجهته إليه إدارة بوتين لقتل الثري الروسي بوريس بيرزوفسكي، بعد أن أبلغ الرجل المعني ّ بالأمر على الفور.
وقبل تسميم ليتفيننكو في لندن منع بوتين الكتاب المذكور ( نسف روسيا - المؤامرة الخفية لإعادة رعب المخابرات السوفياتية، غبسن سكوير، الطبعة الأولى، لندن، 2007 ) ولقي حتفه كل من ساعد المؤلفيـَن في تأليفه.

مسرحية " الموافجة " في مصر وغيرها ليست بيضاء دائما ً. فلتأخذ أحزاب المعارضة والكتاب والصحفيون المنتقدون - حتى من هم في الخارج منهم - حـِذرهم، وليضعوا كلمة الأكاديمي الروسي المذكور نصب أعينهم :
" مازلت أتذكر من خلال محادثاتي المبكرة مع ألكسندر في مكتب بوريس بريزوفسكي في موسكو، أن ألكسندر قال إن بوتين سيقوم بالتطهير إذا وصل إلى السلطة، وسيـُقتـَل أناس أو يُعتـَقلون. إنني أستطيع الإحساس بذلك. وهو سيقتلنا جميعا ً أيضا ً، صدقني. إنني أعرف ما أقول جيدا ً. ربما كان ذلك في كانون الثاني ( يناير ) العام 2000، أي بفترة قصيرة قبل انتخاب بوتين للرئاسة، في أيار ( مايو ) من العام نفسه. وكان يتصرف كرئيس مطلق منذ كانون الأول ( ديسمبر ) العام 1999. كيف أمكن لألكسندر أن يفهم بوتين بهذه الدقة منذ ذلك الوقت المبكر، فيما كان الآخرون يعتبرونه زعيما ً ديمقراطيا ً عصريا ً ؟ " ( المصدر، ص 9 )
صدّامون كثيرون آخرون، منتظمون في طوابير طويلة على باب المشنقة. هذه هي الحقيقة المؤسفة، التي بإمكان الحاكمين ومصفـّقيهم و " موافجيهم " أن يجنـّبونا إياها، بشيء من الإحساس الواعي بقيمة الحرية والتعدد وقبح الاستبداد والتبرير له وتسويقه وتخليده.


عيون الكلام : أوسكار آمرينجر : السياسة هي فن أخذ الصوت من الفقير والمال من الغني لقاء التعهد بحماية كل منهما من الآخر !


alaalzeidi@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف