عصرنة التأصيل
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
للفعل " فكر" معاني الابتداء وليس بالمعنى الغائي أي الانزالي المسبق للفهم الخاص على الحالة المنوي بحثها فالغائية للفكر بذاته هي سفسطائية لفظية لا أكثر والفكر المنسلخ عن تداعيات الواقع زمانا ومكانا هو سفسطة لغوية أو ترف لفظي لا أكثر أيا كانت الحجج التي يسوقها والقول هنا يقصد به الفكر الإنساني أو التدخلات الإنسانية في الأحكام الإلهية والأديان السماوية، فالأديان كل الأديان وجدت لإسعاد البشرية وتطورها وصياغة الحياة على الأرض كإبداع الهي عظيم لا يمكن مطاولته أو مقاربته والبشر الذين يساهمون في تطوير الحياة على الأرض عبر إيمانهم وفكرهم هم مؤدون جيدون للإيمان الحقيقي أما أولئك الذين يحنطون الدين ويغلقون الأبواب أمام الفكر والعقل والعلم بعيدا عن تعاليم الله عز وجل فهم دعاة للموت ومبشرين بخراب الأرض متناسين قوله تعالى" وجنة عرضها السماوات والأرض " وهذا التأكيد الإلهي لمكانة الأرض وحتمية اعمارها إشارة واضحة إلى أن مصير الأرض ليس الخراب كما يبشر دعاة انتظار الموت، فالأجدر بنا تذكر الحقيقة" اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا" الإشارة الأولى كانت اعمل لدنياك والإشارة الثانية للآخرة إلا أن المتكرر فعل الأمر اعمل والعمل دنيوي سلوكي وممارسة فعلية لا ألفاظ ومحفوظات وسفسطة لغوية بلا معنى.
للفعل "فكر" أيضا معاني البحث والتحليل للوصول إلى نتائج وهو يأتي من تعبيرات "الفك" و"المقارنة" و"الاكتشاف" و"التركيب" وهذه الكلمات تحمل صفة التضامن والتكامل، فعملية الفك هي عملية بحث وتقصي وقراءة بهدف الوصول إلى اكتشاف العلاقات بين مكونان الحدث أو المادة أو الرؤيا والمقارنة محاولة للاستفادة من إبداعات وإنجازات الآخرين لاختزال الجهد المبذول للوصول إلى نفس النتائج فعالم المختبر الذي ينشر أبحاثه الفاشلة يساعد من بعده في عدم تكرار العمليات نفسها فهو إذن عالم في اكتشاف الخطأ ومنع التكرار واختزال خطوات مهمة وكل هذا يؤسس لإعادة عملية التركيب لاستنباط رؤية جديدة أو رأي جديد أو حتى منتج مادي جديد، وهذه التعابير اللغوية الثلاث ضرورية للإبداع البشري بكل تجلياته أيا كانت على الصعيد العلمي أو الاقتصادي الإنتاجي أو التجليات الاجتماعية في السياسة والحياة الاجتماعية العامة، والمبدع المفكر أو المبدع العالم وكلاهما يصوغون مستقبل الحياة بأنماط مختلفة ولكنها مكملة فلا يمكن الفصل بين الاكتشافات العلمية والتطورات الفلسفية والرؤى بما في ذلك الرؤى والفلسفات الإنسانية أو الدينية فالله سبحانه وتعالى بكل عظمته قدم للإنسان الصغير البسيط كل الأدوات الضرورية للإقناع والله سبحانه دفع بالإنسان ليثور على واقعه فقد كان موسى عليه السلام ثائرا عظيما ضد الظلم الفرعوني وكذا فعل عيسى عليه السلام ضد ظلم وجبروت الإقطاع بكل سلبياته وتجلياته وثار عليهم وتحمل كل صنوف العذاب في سبيل دعوته ثم جاء سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام ليدق الأصنام بفكرة التوحيد العظيمة، وليثر على سلطة القبيلة والتقاليد الرجعية، فالأديان الثلاث إذن لم تأتي بلغة الأمر بل بلغة الإجابة على معضلات الحياة ومشاكلها وكانت الآيات الكريمة تنزل لحسم أمر خلافي محدد، وأحاديث الرسول الكريم لم تكن أنماط الأوامر المجردة بل الإجابات على احتياجات المسلمين والناس، وهذا يثبت أن الأديان لم تأتي من فراغ وان الله سبحانه أعطى الناس الأرض ودعاهم إلى الاهتمام بها ولولا الرسالات السماوية التي حملها الأنبياء لما كانت الثورة على ظلم فرعون أو عبدة أصنام مكة ستبدأ، فالإمعان في البحث والتفكير هو الذي قاد الإنسان إلى الوصول للخلاص بمعرفة " الذات الإلهية" وفي سيرة سيدنا محمد علية الصلاة والسلام نجد الأبرز في بدء الدعوة حكايته مع غار حراء هي حكاية فكر وتأمل وبحث وهناك نزلت الآية الكريمة" اقرأ" وليست صدفة أن هذه الكلمة هي أولى كلمات الله عز وجل إلى البشرية.
أعمدة البحث والاستدلال العلمي:
" اقرأ باسم ربك الذي خلق " وهي دعوة صريحة ومباشرة للتفكير والبحث وتأتي عظمتها ودلالاتها البحثية لا النصية من كونها جاءت من الله سبحانه إلى بشر لا يتقن القراءة بالمعنى النصي، فهي إذن دعوة فكر وبحث وانطلاقة للذهن البشري نحو الحقيقة، وقد تكون الكلمة الأولى في القرآن الكريم هي العنوان المفترض للفكر الإسلامي أولا والعربي ثانيا، وهي دلالة حية على أن الإسلام فكر بحث وعلم واستدلال وتطور والدعوة الإلهية تلغي كل فكر جامد متوقف عند النصوص وحرفياتها وهي لو قيلت لرجل يتقن القراءة النصية لاختلف الأمر، وقد يكون من الممكن عندها القول أن النصوص مطلقة وان الدعوة للتنفيذ الحرفي لنصوص بعينها، لكنها قيلت لنبي كانت عظمته في أميته، ويتباهى المسلمون دوما بان إثبات نزول القرآن من عند الله سبحانه وتعالى أن النبي كان أميا لا يعرف القراءة والكتابة، وبالتالي فالدعوة جاءت فوق المستوى النصي الثابت باتجاه المكتشف الواعي والمدرك بالاستدلال والبحث والتفكير.
" اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم" والدعوة هنا للتفكير بالخالق وعظمته من خلال التفكير بالخلق، والدعوة أيضا لاستخدام العلم بالتفكير" الذي علم بالقلم" والعلم ليس له حدود وبالتالي البحث والاكتشاف" علم الإنسان ما لم يعلم"، فلا حدود إذن للعلم والمعرفة والبحث والاكتشاف، فالله سبحانه وتعالى بقوله "علم الإنسان ما لم يعلم" بين أن أبواب العلم مفتوحة على مصراعيها للإنسان ليتعلم المزيد والمزيد، وهو بذا لن تتوقف معرفته عند حد معين فالإسلام إذن اعتمد البحث والاستدلال العلمي ليأتي المتحجرون وأصحاب المصلحة في التخلف ليضعوا نصوصا حياتية مقدسة لا يجوز المساس بها وأصبحت الطقوس والهوامش أهم من النص السماوي الأصلي وتحمل قداسته وبذا غرقنا في التخلف والتراجع بدل التقدم والتطور وجاء الانكفاء على الذات ليلغي أية إمكانية للتلاقح مع الآخر.
بعد الانطلاقة العظيمة التي قادها الإسلام بإخراج الناس "من الظلمات إلى النور" والإجابات العظيمة التي قدمها على قضايا العصر ومسائل السياسة والمجتمع وتأسيسه لأعظم مدرسة في الفكر الإنساني تمزج بين الروحاني والواقعي برؤية عظيمة وفرت للإنسان أرضية لانطلاق تفكيره وإعادة صياغة الحياة برؤى توافق كل تطور، ومما يثبت أن الإسلام اعتمد استخدام الفكر ومباديء التحليل العلمي بدون حدود ولم يعتمد أسلوب الأمر الفوري المباشر بل أسلوب الإقناع العلمي والمنطقي ما ساقه القرآن الكريم من آيات لتثبت بالعقل صحة الإسلام وكذلك ما سعى إليه الإسلام من واقعية عبر توفير الظروف لتنفيذ الأحكام وليس العكس والإسلام اعتمد التطور التدريجي ولم يعتمد الأوامر المطلقة، وذلك واضح في قضية الخمر وقضية الرق والعبودية وهذا دليل واضح أن الإسلام يقبل التقدم للامام، ويوضح ذلك سيد قطب ( ظلال القرآن) حين يناقش موضوع العبودية ويقدمها كإثبات متسائلا إن كان يحق لنا اليوم تشريع العبودية ما دام الإسلام لم يحرمها، وبالتأكيد فان الإجابة لا وهذا يعني إذن أن بالامكان الانتقال بالأحكام الشرعية إلى الأمام وإعادة قراءتها على ضوء الواقع دون أن يمس ذلك أركان الإسلام وأسسه وقداسته، كذلك فالإسلام اعتمد أسلوب الحوار والإقناع، قوله تعالى" وادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة" والحكمة هنا تعني العقل والإقناع المبني على العلم والإثبات لا على الأمر والتعسف، فإذا كان الله سبحانه قد أمر نبيه بالدعوة إليه بالحكمة أفلا ينسحب ذلك على ما هو اقل أهمية بكثير، إذا كانت الحكمة هي الطريق إلى الله أليس الأجدر أن تكون الحكمة أيضا هي الطريق إلى الحياة وقضاياها وتغيراتها وتطوراتها.
مواجهة العالم المتطور:
يتميز القرن الحادي والعشرين بأنه زمن تكريس الثورة الرقمية التي انطلقت في القرن السابق وهو بالتالي زمن الاستدارة العملية للكرة الأرضية زمانا ومكانا ليس بالمعنى المادي فقط ولكن بالمعنى الروحي والفلسفي وبمعنى تلاقي الحضارات وتلاقحها، وقد جاء هذا بسبب ما أنجزته الثورة الرقمية من توحيد الكرة الأرضية عمليا، حتى بات العالم اليوم "عالم انعدام المسافات لدرجة الصفر"، والأخطر من ذلك أن الثورة الرقمية قلبت المسائل رأسا على عقب وأدت إلى ظهور حقيقة "تبادلية المسافات" بإبعاد القريب مكانا لدرجة كبيرة وتقريب البعيد لدرجة الصفر، لقد أدى ذلك إلى حالة عجيبة من الاغتراب لدى الأجيال الشابة في أوساط الشعوب النامية والمجتمعات التقليدية من جانب كما أن ذلك يدخل في صلب الوعي وبالتالي في تشكيل الفكر الواعي على الأرض لدى هذه الشعوب، فأنت كعضو في مجتمع تقليدي محافظ، وتعيش النمط الاجتماعي التقليدي في السلوك والعلاقات الإنتاجية والاجتماعية والسياسية وفي نفس الوقت تنتقل وحيدا ومنعزلا وداخل غرفة مغلقة عبر شاشة التلفاز إلى عالم وردي منفتح ومختلف كليا، وأحيانا يحصل هذا الانتقال بشكل أكثر حميمية عبر الكمبيوتر بحيث يمكنك محادثة العالم وإجراء اتصال حي مرئي ومسموع ومقروء مع سائر بقاع الأرض، هذه التبادلية العجيبة بين مكانك الذي تعيش ابتعادا زمانيا كبيرا عنه ومكان الآخر الذي تندمج به زمانيا لحد التماثل، ذلك يخلق تعارضا بين ما تقتنع به وتقترب منه زمانا وفكرا وما تعيشه مكانا وتشارك في نمط التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية فيه وبالتالي فان الحديث اليوم عن فكر خاص بأمة ما أو فكر خاص بقومية أو أتباع ديانة ما أصبح ضربا من الخيال، فالمعرفة وهي أساس صياغة الفكر الإنساني أصبحت بمتناول كل بني البشر أيا كانت انتماءاتهم القومية أو الدينية أو العقائدية الفلسفية وأصبح الحديث عن خصوصيات امة ما ضربا من الوهم إذا لم تتمكن هذه الأمة من الإمساك بالخطوط الدقيقة الفاصلة بين الاحتياجات المحلية والخصوصية الفكرية والحضارية والدينية لها بما يكفل فحص كل شيء برؤية العقل والتأصيل الديني له وليس برؤية الهوامش والفروع.
لا يمكننا أبدا أن نكون جزءا من الحراك الإنساني العام ونحن نقيد أنفسنا بنصوص وشروحات مضت عليها سنوات وسنوات ونحن نحولها بإرادتنا إلى نصوص مقدسة لا يجوز المساس بها رغم معرفتنا الأكيدة أنها من صنع البشر وان ما جاء بها يحق له إعادة فحص أقواله وإثباتاته كلما دعت الضرورة إلى ذلك، وفي آخر نقاش لموقف الدين من قضايا عديدة جرى بين المفكر الإسلامي حسن الترابي وعدد من المفكرين والباحثين حول زواج المرأة المسلمة من كتابي وشهادة المرأة مقابل شهادة الرجل وكذا عن الحجاب للمرأة المسلمة وكذا حقها في الإمامة وقد مس الترابي اللامفكر فيه لدى البعض ممن وصل بهم الأمر حد تجريم الترابي أو تكفيره بينما دافع البعض الآخر عن أفكاره وساق إثباتات علمية تبرر دفاعه مستمده من الأصول، وتمسك المهاجمون بلغة خطابية عالية بلا مضمون سوى كيف لهذا الرجل أن يقترب مما قلنا به رأينا منذ أكثر من ألف عام وانتهينا، وعليه أيضا أن يسلم بموقفنا وشروحاتنا وتحليلنا الذي قبلنا بها.
كثيرون هم أولئك الذين لا يريدون فتح أبواب الفكر على مصراعيها لان ذلك سوف يلقي بالعديد من التفاهات إلى مزبلة الفكر المنغلق الحرفي اللامبدع والتقريري لما قبله دون اعمال الفكر والتمحيص بضوء العصر مكتشفاته وتطوراته وبذا فهم يستخدمون لغة التكفير والتخوين لإسكات الآخرين
الإسلام عماد الفكر العربي:
لا يمكن لأحد أن ينكر أن الإسلام هو العماد الرئيسي للفكر العربي وهو بسبب سيطرة فنة من دعاة الحرفية الجامدة عليه وإشهارهم سلاح التكفير في وجه كل من يحاول الاقتراب من تفسيرهم وشروحاتهم الخاصة اندفع معظم المفكرين والباحثين العرب إلى الهروب باتجاهات مختلفة ومنها
1- البعض هرب عكسيا وبشكل مطلق باتجاه رفض كل ما هو ديني ولأنه بدأ من الفراغ فقد ذهب أيضا إلى فراغ آخر أكثر ابتعادا عن واقعه وراح يبحث عن لغة يعتقدها ويقتنع بها لينقلها حرفيا لواقعه.
2- جزء آخر عاد إلى الخلف ليتمكن من محاربة هؤلاء الكنسيين الجدد في الدين الإسلامي فرفض كل ما في تفسيراتهم وعاد ليبدأ تفسيرا جديدا معاديا لكل تطور فاغرق في اللفظ وابتعد عن المحتوى أو انكب على الطقوس وضخمها بما يمكنها من تغطية كل مساحات الوقت، وأصبح المسجد ليس مكان عبادة وفكر بل ملتقى لممارسة الطقوس لا أكثر وهؤلاء الغوا الآخر من عالمهم بابتعادهم عنه.
3- البعض أيضا اعتقد بخطر الآخر على الإسلام لذا لجا إلى محاربته لإلغائه فعلا عن ارض الواقع معتقدا أنه بذلك يعطي الإسلام القدرة على أن يسود على الأرض وتناسى كليا أن الإسلام اعتمد الإقناع والعلم في فكره ودعوته وان كان قد اعتمد الحرب والسياسة في بناء دولته.
أصحاب المدارس الثلاثة هذه غاب عنهم كليا أصحاب مدرسة كان ولا زال من الضروري أن تكون وهم أصحاب مدرسة الفكر التحليلي العلمي في الإسلام والذين وحدهم يمكنهم الاستفادة من الإرث البشري الضخم ومن الإنجازات العظيمة لصالح نفض الغبار الذي راكمه أصحاب المصلحة الحقيقية في تغييب الإسلام الحي والواقعي كرافعة رئيسية للفكر العربي، بشكل خاص وحضارة الشرق بشكل عام، وما يدور اليوم من صراع ضد الإسلام هو في جوهره صراع بين حضارتي الشرق والغرب وتجلياتهما الفكرية والمادية والغرب المسيطر ماديا والمحتكر لحق إنتاج سلع العصر والمسيطر على السوق المادي بات مقتنعا أنه إلى جانب سيطرته على الإنتاج والسوق فهو بحاجة للسيطرة على الفكر الذي من المفترض أن يلعب دور القائد والموجه للإنتاج والتسويق وتجلياتهما على الأرض اقتصاديا وبالتالي سياسيا واجتماعيا ويعرف ادوارد سعيد الاستشراق بقوله انه" توزيع للوعي الجغرافي السياسي على نصوص جمالية بحثية، اقتصادية، تاريخية، لغوية، تنتهي بتقسيم العالم إلى جزأين غير متكافئين: الشرق والغرب في تصنيف يخدم المصالح التي لا يكتفي الاستشراق بخلقها بل بالحفاظ عليها" فالغرب إذن حريص كل الحرص على ماضوية الشرق واستغراقه في سبات عميق وهو يسعى دائما إلى العودة لتمجيد الماضي العظيم للشرق بهدفين:
الأول: تبرير استخدامه لهذا الإرث العظيم من الحضارة، بل وفي كثير من الأحيان التهامه له ودمجه في ثقافته وبالتالي إثبات انه الأجدر والأحق لإثبات وراثته للفكر الإنساني أيا كان جنسه.
الثاني: تقديم صورة الشرق على انه تجمد كليا هناك وهو غير قادر على مواصلة التطور وهو لذلك ليس جديرا بالاحتفاظ بصورة المبادر أو الصانع لبدايات الحضارة الإنسانية ما دام قد توقف بها عند حدود الماضي رافضا تجديدها.
اقتحام الآخر:
لقد تعاطى معنا الغرب لا على قاعدة الوهم أو حتى القبول بالقائم بل على قاعدة قدرة القوي على رسم الآخر ودفعه للقبول بالمشهد المرسوم وتمثله، مشهد العلاقة بين الغرب والشرق وهو مشهد استعلائي قائد في موقفه من الآخر الأدنى وهو الشرق وفي نفس الوقت فكر منفتح في مواجهة آخر سلبي مستكين منغلق قابل بالواقع عملا ورافض له لفظا ففي حين نقوم بدور المتلقي دوما لكل ما ينتج الغرب من سلع وأفكار وأدوات اتصال وتواصل، في نفس الوقت نواصل صراخنا الفموي العالي أن لا للحاق بركب الغرب ولا للنقل والتأثر به رغم أن واقع الحال عكس ذلك كليا ويمكن ملاحظة ما يلي:
1- العديد العديد إن لم يكن الغالبية الكبرى من المثقفين العرب والمسلمين وخصوصا أصحاب الأصوات النقدية العالية يعيشون في الغرب ويتمتعون بالحريات المتاحة هناك ويمارسون الثورة على الواقع في الشرق عن بعد ودون أية مضاعفات بل هم يتباهون بالحماية التي يحصلون عليها جراء ذلك، والسؤال هنا أين التأثير الذي يمكن أن يحدثه هؤلاء في الأجيال الناشئة في المجتمعات الشرقية سوى تأثير تقليدهم بالهرب إلى حيث الحماية لممارسة الثورة من على صفحات الصحف أو شاشات الفضائيات أو الانترنت وفي حالات أكثر للحصول على فرص عمل ودخل أعلى وشعور بالأمن الاجتماعي مقابل بلدان لا توفر لأبنائها حتى القبر أحيانا.
2- عشرات الفضائيات المنتشرة حاليا بكل وسائل التشويق والترغيب لتسويق نمط الحياة الغربي السهل والممتع والمثير في عالم منغلق ماضوي لا يرغب بالحديث لمحيطه ويسعى له منفردا وهذا يساهم كثيرا في دفع الأجيال الناشئة إلى الانسلاخ عن واقعها ورفضه لصالح الانتقال المكاني لا لصالح التغيير والانتقال بمجتمعهم إلى الأمام.
3- نحن رغم العدائية الفموية للغرب إلا أننا نمارس التمجيد العملي له عبر إعلان الثقة بالسلعة الغربية والاشتباه بكل السلع المحلية، بدءا بالخبز وانتهاء بالصواريخ والطائرات، فنحن إذن نشتم ونقبل في آن واحد ولا يمكن عزل الثقة بسلعة جهة عن أهمية الاحترام الذي نكنه بداخلنا لمنتجها أيا كان وهذا يقودنا طواعية إلى الاقتراب من احترام أفكارهم رغم المعارضة والإدانة العلنية لهذه الأفكار والتي نخفي تحتها إعجاب شديد لا يمكننا الإفصاح عنه بسبب الفكر الماضوي والمنغلق السائد.
4- الأفكار النقية في العصر الحديث تشبه الأجناس النقية والتي يؤدي طول أمد الانعزال وعدم التلاقح مع الخارج إلى إصابتها بأمراض متعددة تقود بها للانقراض أو التشويه، ووحدها الثقافات والأفكار الهجينة هي التي تعيش دوما في حالة حراك وتطور، والحية منها هي التي تستخدم الثقافات الأخرى لصالحها وتتحول إلى متلقي متدخل فاعل لا إلى متلقي ساكن لا حول له ولا قوة.
هذه الحال من الضرورة أن تدفع بنا لمغادرة مواقع الدفاع أو الانتظار والانتقال إلى مواقع الهجوم معتمدين المقارنة النقدية ليس بالمعنى الرافض المسبق بل الفاحص الراغب بالاستفادة والتطوير وبالتالي القدرة على استيعاب الآخر فكرا وأداء، ومحاولة المساهمة في رسم صورته وليس العكس وتصدير هذه الصورة له ومباشرة حتى نتمكن من تصحيح صورتنا وإبراز المشاركة الفعلية في صياغة الفعل الإنساني وتجلياته عملا وفكرا.
لماذا نفكر:
قد لا يبدو السؤال منطقيا إلا إذا تولدت لدينا قناعة أن للإنسان دور مهم في صياغة الحياة البشرية فوق الأرض، وان هذا الدور هو الدور المركزي في التوصل إلى النتائج الضرورية لمواصلة الصعود التطوري في الحياة الإنسانية، فالله سبحانه وتعالى خلق الأرض كل الأرض للبشرية كل البشرية فهو يقول في القرآن الكريم سورة البقرة آية(22) مخاطبا الناس جميعا " الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وانزل من السماء ماء فاخرج به من الثمرات رزقا لكم" وفي الآية (29) من سورة البقرة يقول تعالى " هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء" وهنا إشارة إلهية واضحة إن الأرض لكم أيها البشر فافعلوا بها ما تشاءون، فالإسلام إذن ضد الجمود عند اللفظ، ذات يوم أمر رسول الله (ص) الناس أن لا يلقحوا النخل، وقد اعتقد الناس أن ذلك أمرا من أمور الدين فأطاعوا فأصيب موسم البلح بالخراب فذهب الناس إلى الرسول يعرضون عليه أمرهم فكان رده عليه السلام:" انتم اعلم بأمور دنياكم.. وإذا أمرتكم بأمر من أمور دينكم فأطيعوني" وفي أحاديث الرسول(ص) ما يؤكد ذلك " لا تجتمع أمتي على ضلالة " فإجماع الأمة إذن أمر شرعي يتفق وأحكام الإسلام وليس ذلك من قبيل اللغو فأقوال الرسول(ص) هي أحكام ( لا ينطق عن الهوى) والقول هنا بصحة إجماع الأمة جاء مجردا ومطلقا فأي إجماع للأمة مقبول على الإسلام ومطابق له وبذا فأمر الأمة إذن متروك لها تقرر ما تراه مناسبا لمصلحتها وحين تصل إلى الإجماع فمعنى ذلك أنها وصلت إلى الحقيقة، وهذا يؤكد أهمية التوافق بين الرأي في قضايا الحياة والأحكام الدينية، وبذا نجد أنفسنا في مواجهة مع الدعوة إلى التجديد والعودة للعمل بالاجتهاد وقراءة الدين أحكاما ونصوصا على أرضية الواقع ومصالح الأمة ولا يجوز القول بتحريم الاجتهاد وإعادة النظر، فأمير المؤمنين عمر ابن الخطاب عطل العمل بأحد الأحكام انطلاقا من التغيرات التي طرأت، فهل هناك من يشكك بقوامة عمر بن الخطاب، ثم لنلتفت ما قاله الرسول الكريم " ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن.." ثم أن الرسول دعا الأفراد إلى الالتزام بالجماعة بقوله" من فارق الجماعة مات ميتة الجاهلية".
العقل في الإسلام إذن مركز الفعل وقد ذكره القرآن تسع وأربعون مرة بصيغتين ( أفلا تعقلون ) و ( لعلكم تعقلون ) ويؤكد ذلك ابن تيمية بقوله ب ( موافقة صحيح المنقول الصريح المعقول ) ويذهب حسن حنفي إلى ابعد من ذلك بكثير باعتباره الدليل العقلي يقيني بينما الدليل النقلي ظني، لكن هذه الأفكار والدعوات الصريحة إما إلى الوسطية أو الحداثوية أو العصرنة جميعها ووجهت بحرب شعواء من حماة المطلقات الجاهزة في الشروح لا في الأصول، ويكاد البعض يسعى لتغييب الأصول لصالح الشروح والتفاسير الخاصة، وهؤلاء حرصوا ولا زالوا على جعل الفكر العربي فكر المطلقات وتحريم الاقتراب من اللامفكر فيه أو المقدس دون أن يعني الاقتراب أو المس في قدسيته أو الانتقاص من قداسته بل وحتى البحث في تثبيت قداسته وصحته على قاعدة التوفيق العلمي المبحوث بين صحيح المنقول وصريح المعقول، ولذا وجدنا هجوما كاسحا يطال كل من يقترب من فتح بوابات اللامفكر فيه لإعمال العقل، وبالتالي فان إطلاق العقل وفتح البوابات لريح البحث والإبداع على قاعدة إبداع ما لم يكن، بفتح الأبواب على قراءة و إطلاق الروح في بحث المقدس وتعميمه دون المس بقداسته وليس تقرير ما كان على قاعدة الجمود عند شروحات أصحاب السلطة الدينية أو الدنيوية فكلاهما لا يملكان حقا إلهيا بتفسير النصوص ولم يحصلوا على إرادة الله في حماية كلامه المقدس( القرآن الكريم).
عصرنة التأصيل:
ما نحتاجه اليوم هو حداثوية أصيلة لا ماضوية متحجرة، بمعنى أن المطلوب لاستعادة الحضارة العربية وممثلها الفكري دوره الفاعل والطليعي هو إيقاف حالة التحجر والإمساك بالشكليات والابتعاد عن الجذور والاصالة ومحاولة الارتفاع بها نحو الواقع والظروف المستجدة، مستفيدين من الإرث المعرفي الإنساني وبذا يقول ادوارد سعيد "إن نفي النقاء الثقافي يجيز الشراكة في الإرث المعرفي" وبرأي ادوارد سعيد أن الأمم القادرة على القبول بنفي النقاء الثقافي بحاجة إلى قوة ذاتية، قوة تمكنها من احتواء الآخر لصالح الذات وفقط الأمم القوية هي التي لا تخشى الاستفادة من الإرث المعرفي الإنساني والتطورات التي توفرها حركة الحضارة البشرية الفاعلة بكل تلاوينها، والعصرنة هنا هي نفي للماضوية المقيته التي نستفيء نحن بظلها ويحاول الغرب تكريسها لنا بل وتضخيم الانا الماضوية لدينا ليبقى من حقه الانتقال نحو حداثوية متواصلة فكريا وماديا على طريق تكريس نمط المستهلك لدينا والانتقال بنا من المستهلك للسلع المغلفة الجاهزة إلى مستهلك للفكر الغربي المعلب والجاهز، وليس يمكننا أبدا أن نواجه الجرافات الضخمة التي تجتاح خيامنا عن الأرض لتبقيها نماذج وهمية متحجرة في أذهاننا إلا بالانتقال كليا من حالة الوقوف أمام التفاصيل والأنماط الجاهزة إلى الإمساك بالجذور واستعادتها إلى الضوء، فمن يمسك بجذور الشجرة ويدفن نفسه تحتها على قاعدة أنها الأصل يشبه إلى حد بعيد من يترك الجذور ويمسك بالأوراق على قاعدة أنها الواقع السهل والمعروف.
ينبغي الحفر على الجذور وإزالة التراب عنها وفحصها ليس بلغة النفي بل بلغة الإنعاش والعصرنة، فمن غير المعقول أن تبقى امة بأسرها أسيرة نصوص قالها عدد من الأشخاص أيا كانت صفتهم عدا الرسول الكريم منذ مئات السنين ولا يجرؤ احد على مقارعة ما أتوا به بفكر علمي وتحليلي حي وعصري ولذا فان الأمة بحاجة اليوم للإجابة على كافة التحديات التي طرحها ويطرحها يوميا العصر الحديث، فليس من المعقول أن نترك لأعدائنا الحق المطلق في استخدام وسائل الإعلام والاتصال لنشر أفكارهم والدعوة لمفاهيمهم ونذهب نحن إلى حد تحريم استخدامها والاستفادة منها، إن هذه النظرة تقودنا إلى حقيقة أن المعاداة للتجديد والحداثة عند العرب قد جاءت بسبب ارتباطها بحداثة وتجديد الاستعمار والاحتلال والقوة المصاحبة لهما وهذا يعني الجمود عند اللحظة وترك الآخر منطلقا نحو كل ما هو تطويري وتحديثي لفكره وأدائه بما يكفل تطوره الدائم وقدرته على إحكام السيطرة ويبقينا أسرى ماضي يوفر لنا القيود بأيدينا وأرجلنا لصالح المحتل أو المسيطر وهو هنا الغرب فكرا وسلوكا.
منذ أمد بعيد وضع الناس الإسلام في قمقم النصوص الفرعية ولم يعودوا قادرين على فتح أبواب الاجتهاد من جديد ونسوا أن الأئمة الأربعة الشافعي وأبو حنيفة وابن حنبل والمالكي وغيرهم هم بشر وان علماء مثل الغزالي وابن تيمية وغيرهم قد تمكنوا دون أن ينتقص إيمانهم من الغوص في النصوص والبحث مستخدمين علمهم الواسع في الفلسفة والطب وسائر العلوم لخدمة الدين وليس العكس، فالإسلام ليس دين كهنوت نصي بل دين حياة عملية وواقع قائم وحي، وهو لا يمكن مقارنته بالكنيسة التي استعدت العلم واتخذت لنفسها الحق بصياغة علوم كهنوتية لا تجوز مناقشتها ككروية الأرض ودورانها مثلا، ولذا تعارضت الكنيسة كليا مع العلم وحين جاءت الثورة الصناعية أو النهضة الأوروبية لتحدد دور الكنيسة وجدت نفسها تخرج كليا عنها وتلغي الروحاني لصالح الواقعي بالمطلقين والمطلقين خطأ، فالعلم ضروري للدين العظيم وكذا الدين ضروري لبشرية صالحة متماسكة حية تملك رؤيتها وسمو انتماءها وأهدافها.
إن التفكير الواقعي المعتمد أصول البحث العلمي هو منهج التفكير الديني الصحيح، ومن يعرف القرآن الكريم جيدا يعرف أن القرآن جاء كرد واقعي على الأحداث الحية ولم يتم إنزاله نصوصا وتشريعات جاهزة ومسبقة بل مثل ردودا على حالات وتداعيات الواقع المعاش وكذا كانت أحاديث الرسول الكريم إجابات حية على واقع حي، والواقع يتطور ورؤية النصوص يجب أن لا تبقى بعيدة عن التطورات الجارية أو المكتشفات العلمية وتفاعلات العمل والإنتاج البشريين
في نفس الوقت هل من الضرورة بذل جهد ما بهدف التميز على قاعدة رفض الآخر أيا كانت معطياته أو أفكاره أو الأسس التي يعتمد عليها في إعادة صياغة المعرفة فكرا ومنهجا للتحليل وإخضاع الفكر للمعرفة وتطوراتها وليس العكس، وهل بات من الممكن مقاطعة الآخر والتخلص منه والابتعاد عنه منعا للتأثير السلبي، ومن ابرز المظاهر لنمطية المقاطعة كان نظام طالبان في أفغانستان والذي رفض التعاطي مع الاختراعات الحديثة كالراديو والتلفزيون وبالتالي كل أشكال الاتصال والتواصل، فماذا كانت النتيجة، تدمير الحركة وتجربتها على أيدي المحتلين الأمريكان المعادين دينيا وقوميا حتى وجدت حركة طالبان ومعها الحركة الأم القاعدة نفسها مضطرة للاستفادة من الخدمات الكبيرة التي تقدمها وسائل الاتصال والتواصل تلك فظهرت مواقع الانترنت وشرائط الفيديو المسجلة والمقابلات التلفزيونية وما إلى ذلك، وهذا يدفعنا لاستنتاج ما يلي:
1- لم يعد بالامكان اليوم إدارة الظهر للآخر بأي شكل من الأشكال، فان أنت أغلقت بوابات فكرك فستجدهم يدخلون لك بمئة لبوس ولبوس.
2- إن لا قومية للعلم والمعرفة وبالتالي فلا قومية للفكر، وان منجزات امة ما علميا أو فكريا هي ملك لكل البشر بلا استثناء وبدون حدود، ولا يوجد في الفكر الإنساني ما هو ماركة مسجلة ولا بأي حال من الأحوال.
3- إن منجزات ابن رشد وابن سينا والكندي وغيرهم في العلوم الإنسانية هي مصدر افتخار دائم لعرب والمسلمين بشان دورهم الطليعي في الإنجازات العلمية المختلفة وينبغي لهذا أن يوفر لنا رؤية هامة عن حجم الاستفادة التي قدمها علماؤنا للبشرية وبالتالي فإننا نملك نفس الحق في الاستخدام لمنجزات الغير تماما كما ملك الغير الحق في استخدام منجزاتنا.
4- إن تراكم العمل الإنتاجي وتجلياته في التركيبة الاجتماعية والسياسية لم يعد حكرا على أمه دون الأمم
السؤال الأول الذي ينبغي لنا الاجابه عليه بوضوح وبدون مواربة وبعيدا عن النرجسية والغرور وتضخيم الذات خارج الواقعية العلمية، هو: هل هناك فكر عربي إسلامي متميز ومختلف عن باقي الأفكار؟ وإذا كان كذلك فهل يعني هذا أن هناك مثلا فكر غربي مسيحي أو شرقي علماني أو هناك فكر بوذي أو هندوسي أو كونفوشيوسي، هل هناك فكر محدد الهوية والميزات ونحن ندخل القرن الحادي والعشرين، وللاجابه على هذه التساؤلات فلا بد إذن من توضيح في غاية الأهمية، وهو أن ذلك كان ممكنا في العصور القديمة حيث كان مصدر الفكر الإغريقي هو المجالس وكان القرآن الكريم ينقل بالحفظ الشفهي وكان الشعراء يحفظون قصائدهم عن ظهر قلب وكان لا بد في سبيل الوصول إلى فكرة ما، وعلى سبيل المثال التأكد من حديث ما قطع مسافات طويلة بوسائل نقل بسيطة وبدائية وقد تحتاج سفرة واحدة في سبيل تثبيت صحة رواية حديث واحد إلى عدة شهور، لذا وفي عصر انعدام المسافات وتسارع التطورات والاكتشافات العلمية فان الفكر العربي الإسلامي بحاجة إلى ثورة لصالح الأصول، اعتمادا على ما يلي:
1- التعريف في الفكر العربي الإسلامي يجب أن ينطلق من كونه فكر إنساني حي يتسلح بأصول دين سماوي وارث ومكمل للأديان السماوية الأخرى، وهو بهذا يملك ميزة خاصة عن باقي الديانات.
2- الفكر العربي الإسلامي المغيب هو فكر العقل والمعرفة وهو يتمثل في الكم الكبير من النصوص القرآنية الاستدلالية مثلا على وجود الخالق والتي تعطي الإنسان القدرة والضرورة على استخدام عقله للتوصل لقناعة الإيمان، ويرفض الإسلام إلغاء العقل لصالح التسليم.
3- استحضار العلوم الإنسانية الحية كعلوم الاجتماع والاقتصاد والسياسة وكذا القوانين والتشريعات وإعادة فحصها على ضوء الأصول وعلاقتها بواقع الحال والتطورات والإمساك بقداستها في نفس الوقت وذلك باستخدام الفكر المقارن والجامع بين الأصول المعنية وإلغاء ظاهرة الإمساك بالنص الحرفي دون سياق وروده ودون علاقته بالنصوص الأخرى المكملة أو النافية أو المعمقة، ذلك أن مشكلة العلوم الإنسانية العربية أنها كبلت يديها بنصوص السابقين ورفعتها إلى مرتبة التقديس رغم أن لا علاقة لذلك بالدين لا من قريب ولا من بعيد، فالمجتهد أو المشرع أو المفكر هو إنسان ومن حق سائر المفكرين أن يحذو حذوهم ويترك الأمر إلى الناس ليجمعوا على ما هو حق، بمعنى أهمية إطلاق مبادرات الاجتهاد والبحث والمقارنة والتفكير في سبيل الوصول إلى رؤية عصرية قادرة على الإجابة على كل تساؤلات العصر.
إن الفكر العربي الإسلامي مطالب اليوم بان يقدم الإجابة المباشرة على تساؤلات العصر كقضايا الشورى و الديمقراطية، الرأي والرأي الآخر، العلم ومكتشفاته، المرأة ودورها، حقوق الإنسان وقضايا التنمية والتمويل والتطوير الاقتصادي، وتماما كما رفض سقراط نمو غائية الفكر وسيطرته على أثينا القديمة وما قام به ديكارت بالانفتاح على حداثة الغرب في مواجهة فكر العصور الوسطى فان الفكر العربي الإسلامي اليوم مطالب بالثورة على الماضوية الكئيبة وعلى الكنسية الغريبة عنه والانطلاق نحو فكر حداثوي عصري يعطي الحق في نبش كل شيء مع الاحتفاظ بالتأصيل، ولا يمكن لأحد أن يقرر مسبقا حدود الكفر سوى الله سبحانه.
كثيرة هي قضايا العصر التي نحاول عدم الإجابة المباشرة عنها رغم كثرة المحاولات المتفرقة والتي تفتقد للجدية والمراكمة والتواصل ويمكن تلخيص هذه القضايا على سبيل المثال لا الحصر فيما يلي:
الديمقراطية:
لم يعد الالتفاف على مسميات الديمقراطية ومحاولة إيجاد بدائل كاريكاتورية أو مسميات مختلفة، فايا كانت التسمية إلا أن الديمقراطية تعني بناء دولة المؤسسات والمشاركة الشعبية وتطوير وصيانة دور وأداء منظمات المجتمع المدني وبناء قانون عصري يساهم في التأسيس لسلطات أربعة منفصلة متكاملة بما فيها سلطة الرأي أو الإعلام أو سلطة المعارضة اعتمادا أن حق المعارضة يكمن في الكشف والمناقشة العلنية لأداء الحكم وصولا إلى حكم صالح قادر على التأسيس لدولة يسودها القانون وحقوق الإنسان بكل معاييرها العصرية، وذلك لن يأتي دون فكر حداثوي يمسك بالأصول لصالح العصر ويملك القدرة على إبقاء الاصالة حية في ثوب عصري فلا يمكن للعصرنة أن تعيش وتتطور بعيدا عن الجذور الروحية كغذاء متواصل وقادر على إمداد الفكر بمقومات الاستمرارية والنمو والإبداع، وبالتالي فان من المفيد القفز فوق التعارض اللفظي بين الديمقراطية والشورى على قاعدة انه لا يوجد وصفة جاهزة للديمقراطية أو للشورى بل إن الحياة وتحدياتها والظروف الخاصة هي التي تحدد النمط والتفاصيل والتسمية آخر ما يجب أن نفكر فيها والآيات الكريمة صريحة" وشاورهم في الامر " والرسالة الالهية هنا موجهة للرسول الكريم (ص) نفسه فما بالكم ببني البشر العاديين والذين قال تعالى عنهم" وامرهم شورى بينهم".
التجارب العربية الفتية في الديمقراطية أثبتت أنها الملاذ المطلوب للجميع بما في ذلك التيارات الإسلامية ومقارنة بين تجربة الفوز الساحق لجبهة الإنقاذ الإسلامية في الجزائر ومحاولة التفافها على التجربة الديمقراطية مع الفوز الساحق أيضا لحركة حماس في فلسطين واللغة التي واكبت ذلك عن احترام الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، هذه التجارب تثبت أن الجميع يعترف اليوم عمليا بأهمية الديمقراطية وكذا تتقدم العديد من الدول العربية بتسارع نحو إشاعة الديمقراطية في كافة مناحي الحياة ومنها الانتخابات البلدية في السعودية ومشاركة المراة انتخابا وترشيحا في الانتخابات النيابية في الكويت وكذا انتظام الانتخابات في دول عديدة أيا كانت الملاحظات حول آليات إجراء هذه الانتخابات وتدخلات السلطات الرسمية بها بشكل أو بآخر.
المرأة:
من غير المعقول أن يواجه العرب العالم اليوم بصورة المرأة الملفوفة بالغطاء الأسود ولا يعني ذلك بأي حال من الأحوال الدعوة للعكس أو للتعري فهناك الكثير من أنماط الالبسه المحتشمة والعملية دون أن تفقد الإنسان إنسانيته فمظهر المرأة الملفوفة بالسواد بالكامل حتى وجهها ويديها ليس تشاؤميا ولا إنسانيا فقط بل هو شتم علني للرجل فالرجال ليسوا كلابا مسعورة في الطرقات وبالتالي فالمنطق والواقعية ضرورية في كل شيء.
لا نريد المرأة خيمة سوداء تثير الريبة والشك وتساهم في تعطيل نصف المجتمع وكذا لا نريدها عرضا جسديا لا يقدمها إلا على أنها جسد للمتعة لا أكثر، النمطان يتعاملان مع المرأة بنفس الروح وبالتالي فنحن لا نريد للعالم أن يقرانا على هذه الصورة كما يحلو له ان يصورنا محاولا إلصاق هذه الصورة بالمرأة العربية وتصويرها على أنها مجرد قطعة استعمال يمنع الاقتراب منها وينظر لها على أنها متخلفة رغم أن ذلك ليس حقيقيا على الإطلاق، فالمرأة العربية عاملة وفاعلة وبدرجة تزيد عن الرجل، المرأة إلى جانب مهمتها الطبيعية في الحمل والإنجاب والرضاعة فهي كبدوية ترعى الغنم وتحضر الماء إلى الخيمة حملا على رأسها وهي كفلاحة تعمل في الأرض أكثر من الرجل الذي يحتفظ لنفسه بدور السيد أو المدير المسئول عن الشؤون الخارجية للأسرة وعملها وهي كذلك كعاملة في المصنع أو المدرسة أو المستشفى وتكاد المرأة العربية هذه الأيام تشارك في سائر الأعمال بغض النظر عن صعوبتها، والى جانب ذلك فان المرأة العربية تقوم بأعمال البيت وحدها وتشير إحصائيات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني إلى أن مشاركة المرأة في سوق العمل في عام 2005 تصل إلى 14،2% بسوق العمل بشكل عام بينما تصل النسبة في قطاع الزراعة والحراجة إلى 35% وفي سوق الخدمات إلى 47،8% ونسبة الباحثات عن عمل 24،7% وواضح من الأرقام أن المرأة الفلسطينية كنموذج للمرأة العربية منخرطة في العملية الإنتاجية بشكل جدي.
من المعروف أن المرأة نصف المجتمع وان تغييبها عن الصورة يجعل صورة المجتمع نفسه مشوهة ولذا فان ما يجري في عالمنا هو تغييب متعمد للمرأة العربية عن الصورة وجعلها تقوم بأقسى الأدوار في السر بعيدا عن الأضواء، المرأة العربية العاملة تقوم بالعمل خارج المنزل ثم تعود لتكمل عملا روتينيا أقسى في البيت ومجبرة على ممارسة دور الزوجة ليلا، فأية حياة أقسى من ذلك وهل يحتمل الرجل العربي القيام بهذا الدور ليومين متتاليين ومع ذلك يصر على استخدام تعابير دونية عن المرأة ( ضلع قاصر، ناقصة عقل ودين، ضعيفة، حرمة أجلكم الله )، يتبين من واقع الحال أولا أن المراة العربية منتجه وفاعلة أكثر من الرجل في كثير من الأحيان، وتشير النصوص الدينية والتاريخ العربي والإسلامي أيضا إلى دور فاعل للمرأة العربية وبعكس ما يشاع وما يرغب البعض في تكريسة فان وضع المرأة الدوني في العالم العربي يأتي بسبب العادات والتقاليد ولا علاقة له بالدين الإسلامي، فالإسلام حض على احترام المرأة وأعطاها دورها بعكس الرؤية السائدة، والاسلام في حقيقته يعطي للمرأة كل حقوقها واكثر من اية قوانين وضعية مهما حاولت الادعاء بذلك والنصوص القرآنية تبين ذلك" ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف"، " انا خلقناكم من ذكر وانثى"، " والمؤمنون والمؤمنات بعضهم اولياء بعض يأمرون يالمعروف وينهون عن المنكر"
التنمية:
والتنمية هنا بالمعنى الشمولي الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والفكري، التنمية بمعنى البنية التحتية وكذا الوعي وتداعياته، والأنماط الاجتماعية المصاحبة، ولا مجال لأمة أن تحاول الوقوف في وجه ظالميها وسالبي إرادتها دون ثورة تنموية حقيقية يصاحبها ويهيء لها الأجواء فكر تنموي قادر على الإجابة المباشرة على التساؤلات الهامة بما في ذلك أنماط التعامل المالي في البنوك وغيرها وفحص الموقف من التعاملات البنكية في ضوء الفروق بين مرابي فرد ممن يكنزون الذهب والفضة ووسيط مؤسسي بكل طواقمه، بين من يملك المال الراكد ومن يحتاجه للعمل، فنمط العمل البنكي العصري يختلف كليا عن نمطية الربا في العصور القديمة والعالم اليوم موحد وملزم باستخدام البنوك لتسهيل التعاملات المالية والتجارية والصناعية، ولذا فمن المفيد تسليح الاقتصاد الوطني وصانعيه أي المجتمع بكل التشريعات التي توفر إطلاق روح المبادرة والإبداع واستثمار الثروات والتخلص من الاعتماد شبه التام على الآخرين، ودون اقتصاد عربي منتج وايجابي فان الحديث عن الاستقلال الفكري أو الاقتصادي ضربا من الخيال.
حقوق الإنسان:
قد لا أبالغ إن قلت أن ما نملكه من تراث عظيم لرؤية عظيمة لحقوق الإنسان يفوق بكثير شكلا ومضمونا تلك الدعوات المتواصلة والضجيج العالي الذي يثيره الغرب حول موضوعة حقوق الإنسان في الشرق، متناسين أن الإنسان لديهم جزء مادي من العملية الإنتاجية وهو مهم أهمية وجود السلعة لا أكثر ولذا يبقى الاهتمام به بحجم علاقته بالعملية الإنتاجية ورغم واقعية هذه النظرة إلا أن أنفاصلها عن القيمة الروحية للإنسان هو الذي يحولها إلى جامدة ومعادية فعلا للحقوق الطبيعية للإنسان والتي تساوي بين الناس، والإسلام يحض على تساوي البشر" الناس سواسية كأسنان المشط" متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا"، والاسلام حريص كل الحرص على حريات البشر وحقوقهم وكرامتهم والنصوص القرآنية تبين ذلك بكل جلاء،" ولقد كرمنا بني آدم " والحديث هنا يشمل كل بني البشر،" وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا "،" افأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين"، كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو اقرب للتقوى".
إن الدعوة الواضحة هي ان تحديات العصر الحديث تدعونا باخنصار لان نكون بمستوى الحدث وان ننطلق بجذورنا نحو النور وان نملك من القوة ما يدفعنا لان نشرع كل نوافذنا للريح لنرسم نحن صورة الآخر فعلا ايجابيا لا ان نبقى نرى في المرآة الكئيبة ما يرسمه الغير لنا دون ان نحرك ساكنا، بل والأدهى أننا في معظم الأحيان نلبس تلك الصورة ونستسيغها ونتعامل على أساسها.
عدنان الصباح