أصداء

للأرض.. في يومها

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

تفضح الصفحة البيضاء أمامي ضعفاً حين لا أبادر فوراً لملئها وأنا ألمس جفاف معين الكلمات لدي. لطالما كان الأمر كذلك أمام أحداث منعت عني النوم وجعلتني أستيقظ قبل كل المآذن، بينما الأفكار تتضارب في رأسي وتكاد تشكل كتلة متكاملة لا أسهل نظرياً من سلخها دفعة واحدة منه ولصقها على ثلج الأوراق.

ربما كانت من المرات النادرة التي تشدني إحدى الجنازات إليها. أنظر إلى الوجوه علني أعرف أحدها فلا أتبين سوى شبهاً يفصل بيننا ويجمعنا في الوقت نفسه. لا أعرف أحداً منها سوى أنني قد رأيتها جميعاً في مكان ما وفي ذاكرة ما كأنها وطن مسكون في أرضه المترامية في قلب كل من أبنائه. تغريني النظرات الحائرة وقد التقت بمآلها الأخير للسؤال عن آخر من ودعت فيصمت لساني كالعادة عن الأمر وكأنّ الأسماء تفصله عن جلال الحدث.

"سأبلغك خبراً حزيناً"؛ كثيرة كانت المرات التي قدّم للأخبار أمامي بهذه الطريقة دون أن تصدق وعدها لعزلتي حيناً ولعدم اكتراثي حيناً آخر ولاكتشافي الأمور الحزينة بنفسي أحياناً كثيرة. لكنّ المرّة كانت مختلفة اختلافاً كبيراً يرتبط أساساً بالشخص الذي أبلغني والذي يعلم تماماً أنّ هذا الأمر سيحزنني.

"رحمه الله" قلت ومسحت دمعة لم أذرف أختاً لها منذ حاوي. لا أعرف عنه سوى بعضاً من ظروف مرضه الأخير وقد نجحت العائلة في إخفاء الأمر عنه كبحاً لمزيد من الألم والعذاب له. لا أعرف عنه سوى ذلك لكنّني أعرف الكثير عن أمر آخر.

أعرف كم هو عظيم ذلك الحب الذي كانت تكنه له وأعرف كم هي كبيرة تلك العاطفة التي تبادله بها. أعرف كم تألمت لألمه وكم حزنت لحزنه وكم فرحت لفرحه. أعرف عن ليال رعته فيها وعن هواجس أقلقت منامها تجاهه. أعرف عن رفقتها الدائمة له وعن تعلقها الدائم به. أعرف عن دعائها وأمانيها وقلقها. عن تفانيها. عن تقاطع أحلامها وأمانيها بكل ما يتعلق به. أعرف عن غربتها بعيداً عنه وعن سكينة وسلام لها قربه.

أعرف عن حزن سيبقى ويستمر إلى أن لا يشاركها أحد فيه أبداً. عندها فقط سيتحول أفراحاً غامرة لهما دون سواهما ومكاناً سرياً لارتباط أبدي يلفه اخضرار ربيعي وعبق صنوبري من قلب الجبال لا يمكن لأيّ ظرف خطفه. وأعرف كم سيطيل كلّ ذلك مقامه في قلبها بعده فيزهر ياسمينة مع كل ذكرى ويهطل زخات ناعمة مع كلّ فرحة ويهبّ نسيماً عليلاً مع كلّ حبّ ويرفع أمنيات باسمة مع كل حلم جميل وأغنية دافئة ومشهد بديع هدية ما بعدها هدية.

ذلك النهار كانت الأرض تحتفل بيومها وهي تستقبل وافداً جديداً إليها لم يتسن له الإحتفال بجليله بين من بقي خارجها. وافد عاد إليها تحت التراب مع صف طويل من الشهداء اتخذ مكانه بينهم. شهداء غطوا بدمائهم أحلاماً تعود بهم إلى جليل الثلاثين من آذار ومن بعده كلّ الأراضي المغتصبة. شهداء فرشوا أمامنا أجسادهم كي نستمد قوتنا منهم ونحلم يوماً بالعودة فنزرع وردة حمراء تقطر حباً وثورة مكان كلّ منهم.

عصام سحمراني

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف