أيها الإنتحاريون إحذروا هذا الإنتحاري
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
أيها الإنتحاريون إحذروا الإنتحاري موفق محمد!
الإنتحاريون الذين يفجرون أنفسهم وسط العراقيين "الكفار"، والمفخِّخون الذين يفجرون سياراتهم في الأسواق والمستشفيات وأماكن العبادة، ربما لا يخشون مخلوقاً ولا خالقاً، ولكن عليهم أن يخشوا إنتحاريا يفوقهم تأثيرا، ويفوقهم إنتحاريةً، سوى إنه في الوقت الذي يفتون فيه باليأس من الأمل يُولِد هو الأملَ من اليأس، وفي الوقت الذي يموتون فيه كرها بالحياة الدنيا يستعد هو للموت حباً بها، وفداءً لها. سلاحهم بارود وسلاحه كلمة، ولنرَ من الذي يغلب!
من الذي يزوّد شعلة الشجاعة في قلب موفق بزيت لا ينضب أبدا؟ هل هي الخسارة المطلقة، أم المَقْتَل المسبق؟ هل هي المعاناة من إنحطاط قيمة الحياة الآن في عراق حالك ووحشي مما يساويها والموت، أم الإيمان بحتمية حياة آتية في عراق يسع الجميع؟ من لا يملك شيئا، لا يخسر شيئا. وموفق الذي فقد إبنه، وحرية التعبير وكرامة العيش لسنوات طويلة، ما عاد يشعر أنه يملك شيئا يخشى عليه. واليوم وهو يتوقع، مثل كل فرد في العراق، أن يخسر حياته في أية لحظة وفي أي مكان ودون أي ذنب، ما يزال يرى نفسه لا يملك شيئا يخشى أن يخسره ما دام لا يملك حتى حياته. لقد مَرَّ بنا الأمَرّ، فما الذي نخشاه؟!
هو من جيل الشعراء العراقيين الذين عرفوا بالستينيين. مجايلوه أصابوا من الشهرة درجات متفاوتة، وكثيرون منهم أصابوها خارج العراق. هو إختار البقاء. ودفع ثمن ذلك باهضاً، وهو فخور به.
المرة الوحيدة التي رأيته فيها كانت عندما كنت في الخامسة عشر من العمر، حيث كنت أصغر الحضور سناً في جمهور إتحاد الأدباء. في تلك السن كنت أحرص على حضور أماسي الأربعاء التي يقيمها الإتحاد في مقره بساحة الأندلس ببغداد. وفي إحدى تلك الأماسي إستمعت الى موفق. كان شابا قوي الصوت، ميالا الى الحركة أثناء الإلقاء. قرأ بضعة من قصائده، ولا أزال أذكر أنه في إحداها يصف نفسه ينظر في المرآة الى رأسه ويتعجب من هذا الرأس كيف يدير شؤون العالم! كان يقرأ بإنفعال ويشع حيوية، أما قصائده فكانت تلتقط من الحياة اليومية صورا لتكشف ما فيها من فرادة لم ننتبه إليها. كان صيادا لجَمال موجود حولنا ولا ننتبه إليه. ذلك كان أسلوبه. في متابعتي الأخيرة له لاحظت أنه ما يزال عبر هذه السنين مواضبا على أسلوبه الخاص هذا، سوى إنه بلغ فيه غاية أشد صعوبة وتحديا حيث إنه بدلا من إصطياد الجمال في حدائق السعادة صار ينقب عنه بين أحزان الناس ونكبات البلاد ونكباته الشخصية.
لم ألتق به يوما، لكني كنت دائما أتتبع أخباره. كان لي إبن عم عزيز (مات في الحرب العراقية الإيرانية) من أبناء مدينة الحلة، مدينة موفق محمد. كان إبن عمي طالبا في إعدادية الحلة المركزية التي كان موفق مدرسا فيها، فكان يسرد علي كلما زارنا في بغداد أطرافا من أحاديث وطرائف أستاذه الشاعر، وكنت أستزيده.
عندما إقتحم الحرس الجمهوري مدينة الحلة لقمع إنتفاضتها سنة 1991 أقتيد إبن الشاعر بعيداً مع من أقتيدوا من أبناء المدينة، ومنذ ذاك لم يعرف عنه شيئا الى أن عثر على رفاته في مقبرة جماعية أصر صدام حسين حتى اللحظة الأخيرة على أنها كذبة. إختفاء إبن الشاعر في تلك الظروف المرعبة كان أقسى الضربات التي تعرض لها في حياته. في تلك الأثناء بدا وكأن الشعر الفصيح ما عاد يكفي لوصف فجيعته، فأرفقه بباقات حزينة من شعر العامية. وما كان ذاك رثاء، إنما أناشيد روح الى روح...
في سنوات الحصار الدولي على العراق نشر لموفق قصيدة "عبديئيل" عن واقع الحصار يواصل فيها أسلوبه الخاص: إلتقاط صور من واقع الحصار وإعطاءها لمسة من فنه. هذه اللمسة صارت تتكرس كأسلوب خاص به وحده، صعب الشروط حتى ينطبق عليه وصف السهل الممتنع، فيأتي النص حافلا بالتورية والكنايات والإحالات التي تعود جميعها الى قاموس الحياة العراقية في هذه اللحظة. لا شيء في النص غير مفهوم ما دمت تعيش في هذا الزمن، ولا شيء فيه لا يهيج مشاعرك ما دمت عراقيا. وفي تلك السنوات كان قد إنتهى به المطاف واحدا من عامة الشعب يرتزق بعمل يده، تاركا لـ "شعراء أم المعارك" الإرتزاق ببيع أنفسهم.
بعد إحتلال العراق وسقوط نظام صدام تحول العراق الى ساحة لحروب عديدة في وقت واحد. غير أن كل المتحاربين بدا وكأنهم متفقون على وسيلة واحدة لإرهاب بعضهم بعضا: دماء العراقيين. ولم تكن مدينة الحلة إستثناء، لا في جرائم الإحتلال وجرائم المنتفعين منه ولا في جرائم التكفيريين وجلادي النظام السابق. فكانت السيارات المفخخة تنفجر عند طوابير الناس في أي مكان، فيما الإنتحاريون يختارون أكثر الأماكن والأسواق إزدحاما بـ "الكفار" ليفجروا أنفسهم بينهم. وضع غرائبي كله: فلا الحجج التي يؤتيها هؤلاء الإنتحاريون يمكن عقلها ولا وسائلهم العديمة الضمير. وكعادته إنطلق صوت موفق محمد في المعركة. وكانت ولا تزال معركة شرسة. هم يضربون بالسيارات والأحزمة الناسفة وموفق ينسفهم بالكلمة. يفككهم، يفضح أعماقهم، يواجههم بحقيقتهم. لا يرفع في قصائده شعارات جاهزة، إنما يعيد الشعارات المتداولة اليوم الى عناصرها الأولية، لا بالفكر التحليلي وإنما بالفن والمعانات. أنّى لقارئ أو ناقد أن يفي قصيدة موفق "فتاوى للإيجار" ـ على سبيل المثال ـ حقها ما لم يكن عراقيا ويعيش في العراق اليوم؟ حين يقرأها القارئ غير المكتوي بالنار العراقية قد يتصور الصور الصادمة التي تحفل بها والعبارات الراجّة، والتعابير الدموية، ضربا من التغريب، وقد لا يصدق أن كل هذه الأشياء حقيقية وتحدث اليوم في العراق. على قارئ قصيدة موفق محمد أن يصم أذنيه وهو يقرأ فعويل الثكالى والصرخات الأخيرة للضحايا تطير خارج الورقة وتصك الآذان. وفي هذه القصيدة بالذات يشن موفق هجوما إنتحاريا على الإنتحاريين، هو الذي لا حراس لديه ولا نفوذ يحميه إذا ما قرر أعداؤه أن يستهدفوا حياته. إن قصيدته خطر حقيقي عليهم لأنها ليست عادية، ولا تحريضية، إنما هي فن بديع يمزج الحقيقة بالمجاز، والمعنى المباشر بنَفْيه، والمعلومة بالسخرية منها، مثلما يدخل التعابير العامية والكنايات المحلية في النص الفصيح، ويجاور الإحالات الفلسفية والميثولوجيا الرافدينية جنبا الى جنب مع الأقوال السائرة والحكمة الشعبية. ذروة فنية نادرة لأنها نتاج مزج لعدة ذرى معاً: ذروة القتال في معركة الحياة؛ والذروة في شفافية الروح؛ والذروة في المجاهدة الجمالية.
موفق محمد لا يرى حوله ما يدفعه الى الإعتقاد بأن معاركه إنتهت. ليس لأنه مشاغب أو ميال للعراك وإنما لأن هذه المعارك ـ أصلاً ـ ليست إختياره؛ لقد فرضت بالقوة عليه وعلى العراقيين، وكل مجدهم هو في إصرارهم على الدفاع عن كينونتهم الإنسانية. سابقا لم يفهم الشاعر لماذا سيق الأبرياء، ومن ضمنهم ولده، الى الموت بحجة التفتيش عن الأعداء. وحاليا لا يفهم لماذا يقتل المدنيون في الأسواق بحجة الإحتلال الأميركي. أما القتل الجماعي العشوائي للمواطنين بدافع الكره الطائفي والتعصب المذهبي فحرب إجبارية أخرى. ثمة في العراق، ومنذ زمن بعيد، مزاج يستسهل قتل النفس فردا وجماعة، سواء تلَبّسَ أعضاء فرق إعدام حكومية أو عناصر تنظيمات مسلحة. هذا المزاج بلاء دفعت ثمنه الأسر العراقية من أبنائها وبناتها جيلا بعد جيل. نحن العراقيين ممتنون للفدائي موفق محمد الذي يصد عنا بالكلمة ويلات هذا المزاج الجنوني. إنه يقدم كلمته، ومصيره الشخصي، فداء لأبناء وطنه، تاركا الشهرة والجوائز لغيره من نجوم الظهور الأدبي مثلما تركها سابقا للمداحين.
سمير طاهر
(كاتب وشاعر عراقي مقيم في السويد)
samirtahir@gmail.com