مقبرة الانجليز
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
وأنا عائد مع زملاء المهنة بعد يوم عمل شاق من غزة في المرسيدس الحمراء الوحيدة في خان يونس لصديقنا الطيب "أبو أحمد"،كنا لا نزال فرحين بافتتاح جسر غزة الذي أعادت وكالة الغوث ترميمه مشكورة بعد أن حولته أمطار إسرائيل الصيفية الى لوحة تجريدية تحولت بفعل أمطار الشتاء إلى تراجيدية..!!
على طريقتنا الخاصة والرخيصة احتفلنا بالافتتاح بلا أنخاب ولا قص شريط ولا تصفيق ولا كاميرات،فقط تبادلنا نكتتين أو ثلاث ولعلعت الضحكات لربما تخفف عنا بعض عناء التدريس والسفر
كنا نقترب من ذراعي البريج والنصيرات..حين لمعت في تلك اللحظة بالذات لقطة من ذاكرة طفولتي كما الحلم.
منظر كنت ألمحه دائما عندما كانت المرحومة أمي تصطحبنا لزيارة خالتي التي كانت تقطن "الكلبوش" وهو مخيم شمال النصيرات أقيم لإيواء بعض لاجئي النكبة على أنقاض معتقل بريطاني سيء السمعة فأخذ منه اسمه ووحشته..
كان المنظر لمقبرة مرتبة بشواهدها الرخامية البيضاء ترقد بهدوء بين الأشجار الظليلة علي الجانب الغربي للطريق العام
سألت "أبو أحمد " عن المقبرة وعن سكانها الطيبين..هل رحلوا.؟!!
أخبرني أنها لا تزال موجودة وان سكانها لم يغادروا..فرجوته بصمت بليغ شاركني فيه الآخرون..لو سمحت.!!
ابتسم الرجل ابتسامته العذبة المعتادة والتي تنم عن شهامة نقية لنحال محترف وما هي إلا لحظات حتى انحرف بالسيارة غربا في شارع ترابي ضيق بين صفين من الأشجار وبعد أقل من دقيقة وجدنا أنفسنا وجها لوجه أمام الصورة التي لم تغادر ذاكرتي منذ خمسين عاما وقد اختبأت خلف الأبنية والأسيجة بمحاذاة الطريق العام.
كانت "مقبرة الانجليز " أشبه بمتنزه كبير تكسوه خضرة العشب وتزينه أشجار النخيل القصيرة الساحرة وتبدو شواهد القبور المرتبة كأزهار القرنفل والمكان أشبه بحديقة قصر ملكي يهش لك بنظافته وروائح الزهور الطازجة الممزوجة بهواء البحر أيما اتجهت.
قابلنا الحارس " محمد عواجة " بلحيته الخمسينية وقد خالطها الشيب وماء الوضوء..كان يبدو "نحلة " لاتهدأ من الجيل الثالث. تولى حراسة ورعاية المقبرة منذ العام 1984..التصق بها..أخلص لسكانها كما لو أنهم أحياء.. قابلنا في غاية اللطف والبشاشة وكأن زيارات الوفاء القادمة عبر البحار قد صقلته وزادته تواضعا..طلبنا منه الإذن بالتفرج والتأمل بل والاستمتاع لحظة بجمال المكان ورهبته..سألته وعيني تثبتان على شاهد القبر الذي يواجهني مباشرة.. حيت تتوسطه نجمة داوود مما يدل على أن ساكنه يهودي بريطاني وقرأت عبارة "سأظل احبك للأبد..زوجتك المخلصة استر "
أخبرنا الحارس أن عدد سكان هذه المحررة الإلهية يبلغ750 جنديا من خريجي الحرب العالمية الأولى..منهم ثلاثة مسلمين جزائريين من سولداد و 21 جنديا هنديا مسلما..وأخرين من الهندوس والسيخ وقفت أمام قبورهم جميعا.. شعرت بقشعريرة خفيفة لعلها من جلال الموت.. قرأت الفاتحة بعفوية لكل السكان الذين يرقدون..بصمت ويلتفون بسمت موحد فلا فرق بين رقيب أو كولونيل و لابين جندي أو أميرلاي ولولا الأسماء والإشارات على الشواهد لما عرفنا الفرق بين قبر انجليكاني أو يهودي أو مسلم أو هندوسي أو سيخي، ففي الموت تتساوى الرؤوس والرتب والأديان أمام الواحد الديان..!! وهنا قمة الحكمة.
وجدت من يصرخ بداخلي..
تعال يا مستر بوش.. وتعال يا أدون أولمرت وانظرا معي.. اقتربا قليلا من غمر حصاد لتاريخ عمره تسعون عاما لتريا كم أنتما وأمثالكما مغفلون وبكل الجبروت والغطرسة ستنتهون حتما كما أولئك وكما نحن إلى ذات الحفرة المظلمة.!!
تعالوا..يا فراعنة الدنيا لتروا كم هي الحرب لعبة غبية.. حصادها الأغبياء!!
أسألك أيها الراقد تحت العشب أمامي هل تساوي كل أمجاد بريطانيا العظمى وانتصاراتها رشفة من شاي الخامسة مساء مع من تحب..؟!!
لا تجبني.. فقد تكفل بالجواب صمتك ونسيان يتعاظم من الأحفاد..
شكرنا " أبوخليل".. وغادرنا المكان..المقبرة.. قبلة المتأملين والعاشقين للهدوء والجمال رغم المفارقة بين الاسم والصورة
،نهض المشاغب الصغير الذي لا يفارقني وأخذ يتساءل
يا أستاذ.!!
أين مقابر المسلمين وهي كثر من هذا النموذج المريح للنفس..؟!!
لم لا تكون بمثل هذا الجمال وهذه النظافة والخضرة والرعاية..؟!!
أليس من أولويات ديننا أن تكون مقابرنا مصانة ومرعية بما يحفظ للميت كرامته وللموت هيبته..؟!!
وهل من الإسلام أن تصبح مقابرنا كما هي الآن أوكارا ملائمة لتهريب وتناول المخدرات والزنا واللواط..؟!!
هل من الكرامة للحي قبل الميت أن تكون مقابرنا سوق عرض لمكبات النفاية وجثث الحمير المتفسخة..؟!!
إنني كمسلم أشعر بالخجل والحسرة من مجرد المقارنة ومن هذا الحال وهو بالتأكيد امتداد لنسيج متشابه لأحوال مؤسفة كثيرة الى درجة أني أهمس دائما لنفسي
أين الخطأ..؟!!
ومساجدنا ما أبهاها في كل حي وحارة..ومشايخنا ما أشطرهم في الوعظ وما أسرعهم في الفتوى. ويضرعون بالدعاء لله جهرا وإشارة..والمصلين ما أكثرهم يهرولون و يسمعون ويتباكون بحرقة وحرارة!!
أين الخطأ..؟!!
هل هو في المسئولين.. في التربية..في التعليم.. في التاريخ.. في الإيمان.. في الصدق.. في اللغة.. في فهمنا للدين.. فينا.. في كل شيء..؟!!
أين الخطأ..
ونحن نرى في ساحة غزة باعة يعرضون علنا وبلا حياء ملابس النساء الداخلية البراقة على بعد أمتار من فقط المسجد..؟!!
أين الخطأ..
ونحن نحترف النفاق..ونتفنن في الشقاق..فالابن لايوقر أباه والاخ يكره أخاه والجار يتمنى لو يستيقظ غدا فلا يرى جاره برغم الابتسامات الخجولة وكلمات الحب المعسولة..!!
لقد بتنا فعلا نعيش في بلد المضحك المبكي بما فيه من مفارقات وميزان مقلوب..!!
وجمت تحت وطأة التساؤلات المتلاحقة وانتقلت عدوى الكآبة الى الزملاء إلى أن أيقظني أحد هم بنكتة سياسية جديدة عن الموت والميتين..إذ قال على هيئة سؤال بريء..
هل تعرفون سبب عدم موافقة الحكومة العراقية على زيارة هيفاء وهبي لقبر صدام حسين..؟!!
قلنا : لماذا..؟!!
قال:لأن زيارتها بترد الروح..!!
عرفت فيما بعد أن هناك مقبرة انجليز أخرى أكبر في "حي التفاح " بغزة هي حصيلة ثلاث معارك ضارية في الحرب العالمية الثانية،وتضم 5000 رفات لمهاجمين من جيش إمبراطورية بريطانيا العظمى بشواهدها بينما يرقد على مقربة منها رفات عدد غير محدود من جندرما الخلافة التركية الراحلة دافعوا ببسالة حتى الموت عن مواقعهم،ولكن دون شواهد أو تمييز للأسف..!!
ولعلي أختصر الموقف الحزين وبتكثيف شديد
" لقد قضى هنا أبناء خلافة إسلامية مريضة بفعل خيانات مسلمين جبناء لصالح إمبراطورية صليبية مستبدة وجشعة..!!"
إلى هنا و يدركني الصمت الثقيل فأحيل الأمر برمته الى القارئ ليختار النكتة السياسية أو التاريخية اللائقة..لربما يخفف عني وعنه وطأة الاكتئاب..!!
توفيق الحاج