مأساة الكتلة الصامتة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
ما الذي يدعونا أن ننهك ونهلك حناجرنا وأقلامنا في المطالبة بحقوقنا وفى البحث عن وهم كبير اسمه المواطنة.. لن نحصل على المواطنة لأننا ببساطة لا نريدها.. أن مملكتنا كما المسيح ليست من هذا العالم وأحرى بنا أن نبحث عن رخصة المواطنة في السماء حيث أبديتنا لا على الأرض التي هي إلى زوال...!!
لماذا نجهد أنفسنا في كتابة أسمائنا في سجل مناصب تلك الحياة الفانية - ليس لخادم الله أن يشغل منصباً شرفياً أو سلطوياً - وأحرى بنا أن نكتب أسمائنا - بحبر لا يمكن طمسه - في سفر الحياة
لا مشكلة إذاً في أن نُهمش ونُجرد من كفائتنا ونُحرم من التمثيل السياسي...!!
ولا شيء يدعونا أيضاً لرد الإساءة أو الرد - بحسب ما يدعو ويدعى البعض - على الإعلام الهدام وبناء الهوية القبطية بل لابد وأن نقدم كلمة وشهادة وعريضة شكر لكل من يهاجمنا ولكل من يسلب حقوقنا ولكل من يضع بصمات أصابعه على خدنا الأيمن كما لا بد - كما علمنا سيدنا المسيح!! - وأن نترك له خدنا الأيسر كي ما يصنع شكلاً سيميترياً يتفق وأرقى خطوط موضة الهبوط بكرامة الإنسان إلى مستوى ممسحة الأقدام...!!
إن هؤلاء يصنعون لنا تيجان مُذهبة وأكاليل غار وأوسمة ملكية.. لنقدم لهم باقة من الفل والياسمين لاسترضائهم واستدرار مراحهم لعلهم يرحمون...!!
لنلقى الدُر للكلاب والقُدس للخنازير لنترك لهم خبز البنين ولا مشكلة أن نترك لهم البنين أيضاً...!!
لا بد وأن نعطى لأنفسنا ولأولادنا جرعات تدريبية مكثفة في فن السلبية وسياسة تقبل الأمر الواقع وفى تقبل كل ما يلحق بنا من صنوف الهوان والمذلة، في الخنوع والتقاعس والتقهقر...!!
لا بد وأن نتقوقع وننعزل وندفن رؤوسنا وأجسادنا كذلك في التراب بل في الوحل لنترك مجتمعنا هذا أنه شرير وفاسد ليس لنا حق فيه وليس له حق فينا...!!
ونصمت... نعم يا سادة نصمت
فإن الرب - وتخيلوا بعد كل هذا - سيدافع عنا ونحن صامتون...!!!
قد تمثل هذه الكلمات صدمة كبيرة لمن يتعاطاها لأول مرة لكن لن تمثل أي صدمة لمن عاش فيها وبها.
ودون الخوض كثيراً في تلك الكلمات الصادمة - والتي هي شعار الكتلة الصامتة - دعونا نتساءل؟؟
هل لا حق لنا حقاً في المواطنة؟!..
وخادم الله هل ليس له أن يشغل منصباً شرفياً أو سلطوياً؟!
والخد الأيمن ونظيره الأيسر وتلك الإشكالية التي أسُيءَ فهمها - لقرون عدة - هل أراد الله أن يتحول وجه المسيحي منا إلى مزار لكل يد متغطرسة ومتعجرفة؟!
أما كتلتنا الصامتة فلهم منا في نهاية مقالنا هذا كلمة أوريجانوسية
أولاً.. هل لا حق لنا حقاً في المواطنة؟!..
لقد فصل (أرنست ترولتلش) Ernst Troeltsch بين نوعان من المنظمات الاجتماعية - الكنسية وهما (النمط الطائفي) و(النمط الكنسي)
وقد قال أن المجتمع الديني في (البناء الطائفي) هو جماعة صغيرة مختارة مركزة جداً حول قائد كارزماتي وتعطى صورة تتصف بالكمال وتوجه كل اهتمامها إلى تقديس أعضائها بحسب مبادئ مثالية مطلقة مستقيمة الرأي ولها علم قليل بما يقوله الآخرون أو يفكرون فيه ولا تطلب باجتهاد أن تكون خميرة في مجتمع أكبر بقدر ما تطلب أن تكون مثالاً منفرداً ويدعون الآخرين للدخول إليهم وسواء كان مشايعو هذه الطائفة معادين للعالم خارجهم أو متسامحين أو غير مبالين فإنهم عادة يرفضون كل ما يتعلق بالقسم أو المحكمة ولا يعملون كحكام أو محاربين في الخدمة المسلحة - وهو ما ينطبق على حال الرهبنة في صورته الإيجابية وعلى كتلتنا الصامتة في صورته السلبية.
أما (البناء الكنسي) فهو مجتمع المؤمنين كبناء كهنوتي متدرج وله وجهة نظر اجتماعية محافظة أساساً يطلب أن يمارس تأثيراً روحياً على كل الحياة عن طريق صيرورتهم جزءاً لا يتجزأ من المجتمع الكائن ولكي ينجز هذا الهدف فإنه يسعى إلى تسوية تسمح بالملائمة بين ناموس الله المطلق وبين متطلبات الحياة ومقتضياتها في عالم غير كامل.
وهو في الحقيقة ذات التقسيم (مع اختلاف المسميات) الذي أقره يوسابيوس القيصرى (إظهار الإنجيل "1: 8")
وذات الفصل الذي تحدث عنه القديس أغسطينوس في كتابه (مدينة الله) إذ قال أن الناس ينقسمون إلى:
(مواطنون من مدينة الله) و(مواطنون من المدينة الأرضية) وأوضح أن مصلحة مدينة الله لا تنفصل عن مصلحة المدينة الأرضية وشدد على أنه من الخطأ أن نقول أن الأشياء التي تشعر بها المدينة الأرضية هي أشياء سيئة
........
ونحن نؤيد بل ونعيش في نمط (البناء الكنسي) - طالما لم نسلك طريق الرهبنة ولم تسعفنا غرائزنا للسمو فوق الطبيعة - إذ يتفق وتعاليم كتابنا المقدس بصورة كبيرة فنحن نور العالم وملح الأرض (جزءاً لا يتجزأ من المجتمع الكائن) ونحن مطالبون في ذات الوقت بممارسة تأثيراً روحياً على كل الحياة (ليس أحد يوقد سراجاً ويغطيه بإناء أو يضعه تحت سرير بل يضعه على منارة لينظر الداخلون النور) ولا يمكن أن يُمارس هذا التأثير ونحن جلوس في بيوتنا وفى كنائسنا متراخين في ممارسة واجباتنا نحو المجتمع الذي نعيش فيه غير مطالبين بحقوقنا التي هي حق أصيل لنا ولأولادنا والتي - لا تتنافى في ذات الوقت مع مملكتنا التي ليست من هذا العالم - فالسيد المسيح نفسه مارس كافة واجباته نحو المجتمع.
والدعوة للمواطنة والمطالبة بالحقوق ليست ظاهرة كنسية جديدة وليست ابتكار عقلي منسوب لمسيحي آخر زمن.
تأملوا قليلاً فيما يقوله ترتليانوس (160 - 220 م) قال "لا تكونوا مثل البراهمة أو حكماء الهند العراة وسكان الغابات أو أسرى لأي انعزال في الحياة ويجب أن تكونوا في ولائكم للدولة أسوة ببقية مواطنيها".
وقال أيضاً في دفاعه الذي قدمه عام 197م (والذي وصف بأنه التماس لمعاملة المسيحيين معاملة منصفة وأراه أنا السابقة الأولى في الدعوة إلى المواطنة والمطالبة بحقوق المسيحيين)
"وهكذا نعيش في العالم نشارككم المحكمة والسوق والحمامات والمتاجر والمصانع والفنادق وأيام السوق وكل الأنشطة التجارية الأخرى ولسنا دونكم سفراً في البحر أو خدمة في الجيش أو فلاحة للأرض أو بيعاً وشراء وفى ذات الوقت.. ونصلى بلا انقطاع من أجل الأباطرة طالبين لهم طول العمر.. من أجل زمن الإمبراطورية.. من أجل شجاعة الجيوش وولاء مجلس الشيوخ واستقامة المواطنين ومن أجل عالم مسالم وكل ما يرغب فيه الامبراطور كإنسان وكقيصر".
ونحتاج لفتح قنوت بحثية في علم وعالم الآبائيات لنكتشف أن كتابات هؤلاء ركزت وبصورة كبيرة على كون المسيحيين جزءاً لا يتجزأ من المجتمع الكائن وعلى أهمية ممارسة تأثيراً روحياً على كل الحياة - هذا ما لم يتم اختيار طريق البتولية وسلك الرهبنة والموت الاختياري عن العالم.
ولا نجد أفضل من كلمات قداسة البابا شنوده الثالث لنصل إلى حد الإجابة المباشرة على سؤالنا هذا هل لا حق لنا حقاً في المواطنة؟!..
"أول حق سياسي للإنسان هو حق المواطنة. وواجبه هو الولاء لهذا الوطن، واحترام الدولة ومؤسساتها وقوانينها... ومن حقوقه السياسية حق الانتخاب في حدود النظام العام. ومن واجبه الذهاب إلى مكان
الانتخاب، والإدلاء بصوته حسب ضميره... ومن حقوقه المساواة، في نطاق المؤهلات والكفاءة والمقدرة.
من حقه أيضاً الدفاع عن النفس، ومن واجبه أن يكون صادقاً وعادلاً في دفاعه عن نفسه. ولا يظلم غيره ويلقي عليه التبعة دون وجه حق... ومن حق الإنسان الحرية في حدود القانون. ومن واجبه أن يستخدم حريته، بحيث لا يعتدي على حريات الآخرين وحقوقهم... ومن حقه إبداء رأيه ونشره، واستخدام حرية الصحافة، ولكن هذا كله يقابله واجب الحفاظ على سمعة الآخرين وعدم التشهير بهم، وأن يحتفظ بأدب الحوار، له أن يتكلم، وواجبه أن يتكلم حسنا".
وخادم الله هل ليس له أن يشغل منصباً شرفياً أو سلطوياً؟!
أيمكن أن يشغل المسيحي وظيفة عامة في الدولة أو يمكنه أن يخدم في الجيش بدون التضحية بإيمانه؟!
لقد قدم ترتليانوس في كتابه (عن الوثنية) إجابة وافية عن هذا السؤال نقتبس منها قوله "يمكن لخادم الله يشغل منصباً شرفياً أو سلطوياً طالما أنه يمكنه أن يتحرر من كل مظاهر الوثنية (العالم في حالتنا هذه) بواسطة نعمة الله أو بذكائه مثلما شغلها يوسف ودانيال.. فهذان الرجلان اشتغلا حكاماً لمصر وبابل يتمتعان بمجد المنصب وسلطانه وزخارفه ولكنهما ظلا أحراراً من تأثير الوثنية (العالم)"..
إن من يدعو للعزلة والتقوقع والبعد عن الوظائف العامة في الدولة والتمثيل السياسي إنما يجردنا من كفاءتنا ومؤهلاتنا - التي هي وزنات معطاة لنا من قبل الله وسوف نحاسب عنها - كما يضع سيف الحرمان من أبسط حقوقنا في يد من أراد لنا ذلك
هل أراد الله أن يتحول وجه المسيحي منا إلى مزار لكل يد متغطرسة ومتعجرفة؟!
"سمعتم إنه قيل عين بعين وسن بسن، وأما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضاً".. (متى 38:5، 39)..
لنرى كيف تصرف السيد المسيح عندما لطم على وجهه؟ ولنتأمل فيما فعله الرسول بولس عندما لطم أيضاً على وجهه؟
قام عبد رئيس الكهنة بلطم السيد المسيح على وجهه قائلاً له "أهكذا تجاوب رئيس الكهنة؟" وبذات أسلوب التحقيقات الشهير "كلم البيه عدل" فما كان من السيد المسيح - الذي لم يكن قد تعدى حدود الأدب أو اللياقة - إلا الدفاع عن نفسه وعن حقه القانوني قائلاً "إن كنت قد تكلمت ردياً" فاشهد على الردى، وإن حسناً" فلماذا تضربني؟ (يوحنا 23:1) وفى ظرف مشابه ضرب الرسول بولس على فمه فما كان منه إلا أن احتج قائلاً: سيضربك الله أيها الحائط المبيض أفأنت جالس تحكم على حسب الناموس، وأنت تأمر بضربي مخالفاً للناموس؟ (أعمال 3:23)
مما يعطي لنا مؤشر أنه من حقنا أن ندافع عن براءتنا ونعترض على الظلم عندما تَمس حقوقنا القانونية والإنسانية وألا نجعل وجهنا مُباحاً ومُستباحاً لكل من هب ودب وأن لكل شيء - حتى التسامح والاحتمال - حدود تتفق وقدراتنا البشرية المحدودة.
وأخيراً كلمة أوريجانوسية لكتلتنا الصامتة
" وأما الذين يتساءلون عن منشأنا ومُنشئنا فنجيبهم أننا جئنا تجاوباً مع أوامر يسوع أن نطبع سيوفنا محاريث فكرية تصارع ضد الغطرسة ونحول الرماح إلى مناجل بها نحارب ذلك لأننا لن نشهر السيف ضد أي أمة ولن نتعلم الحرب فيما بعد وبدلاً من مجازاة العوائد التي جعلتنا غرباء عن العهود صرنا أبناء السلام بيسوع مؤسسنا " (العلامة أوريجانوس)
لا أنا بل نعمة الله التي معي
جورج شكري
george02002@gmail.com
LG1712006LG
@yahoo.com