أصداء

هل الفوضى تخلق فسادا أم العكس؟

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

ما الذي جعل موظف الدولة يعمد الى الكسب غير المشروع ونهب المال العام؟ ما الذي يدعو المواطن الى التسفيه بالمباديء الوطنية والى عدم الشعور بالمسؤولية الأخلاقية تجاه وطنه؟ ما هي المناخات التي هيأت لمثل هذه الظاهرة المؤلمة التي ضربت في طول البلاد وعرضها منذ ما يزيد على عقدين من الزمن؟ هل الفساد فعل نمطي أم هو رد فعل عارض؟ وهل هذا السلوك السلبي له أساس من المشروعية أم إن شيوعه (على قاعدة كل ما هو مشاع مشروع) أكسبه هذه المشروعية؟ وأخيرا نتسائل عن السبب الذي يقف وراء شيوعه؟


أسئلة كثيرة تبحث عن أجوبة ناجعة، ونحن نشاهد ونسمع كل يوم عن طعون بذمة هذا السياسي وذلك الوزير، وهذا المسؤول الحكومي وذاك المدير.
ونعرف إن السادة المسؤولين الذين يصرخون ويتصارخون بطروحاتهم وتصريحاتهم الداعية الى مكافحة الفساد المالي والإداري يشكلون السواد الأعظم من طاقم الجهاز الإداري للدولة العراقية، ولكن نعرف أيضا أن الكثير من هؤلاء الدعاة من يغرق هو نفسه في هذا الفساد حال تسنمه منصبا في الدولة، متناسيا المباديء التي تنادى بها منشغلا في غنائمه منغمسا في سرقاته ومستثمرا فرصة وجوده في موقع المسؤولية ليوزع المناصب والمكارم ويجود بالعطايا والهدايا على الأهل والعشير وأعضاء الحزب وأبناء الطائفة.


ليس من المنطق القول إن تفشي الفساد المالي والإداري سببا من أسباب الفوضى والإضطراب والتداعي الحاصل في مفاصل الدولة، وليس مطاردة المفسدين وحدها كافية للقضاء على هذا الوباء، بل علينا أن نقر بحقائق ملموسة أفرزتها تجارب الشعوب والدول الأخرى التي أثبتت إن فساد أجهزة الدولة هو واحد من النتائج الطبيعية لإنعدام الإستقرار السياسي في أي بلد بغض النظر عن تقدم أو تخلف أو صغر أوعظم ذلك البلد وليس العكس.


فالبلدان التي تبتلى بالحروب وتغرق بالأزمات ومن ثم تفقد إستقرارها السياسي تكون عرضة لأن ينخرها وينهش جسدها هذا الفساد حتى لو نصبت المناشق في كل زاوية من زوايا مؤسسات الدولة.
ولعل أبسط مثال على ذلك هو ما عايشناه من تجربة في النظام السابق، فبرغم بوليسية ذلك النظام وبرغم كل ألوان البطش والإعتقال والترهيب التي إتبعتها اجهزته فإنها لم تتمكن من معالجة أو أيقاف تفشي الفسـاد الذي كان قد عم مؤسسات الدولة العراقية من أدناها الى أقصاها كنتيجة متوقعة للأزمات التي خلفتها حروب وسياسات صدام الطائشة.


إن سلوك موظف الدولة الذي يعمد الى الوسائل غير المشروعة للكسب السريع هو سلوك مشاع و(رد فعل طبيعي) كلما فقدت الدول إستقرارها السياسي وكلما فقد المواطن الطمأنينة بمستقبله والثقة بمؤسسات دولته، وهذا المشاع لا يلبث أن يصبح قاعدة لها شرعيتها العرفية فيما يصبح خلافها هو الإستثناء.


كان الفلتان الإداري وتـنامي ظاهرة الرشوة قد إستشريا في مؤسسات الدولة مع إطالة سنوات الحرب العراقية الإيرانية، وخصوصا بعد تردي الوضع المعاشي لموظفي الدولة وحالة فقدان الثقة بالمستقبل السياسي للبلد، وهو ما ترك جملة من المظاهر السلبية على الوضع النفسي للمواطن العراقي والتي جعلته يتعامل مع مفردات الحياة تعاملا ظرفيا وآنيا وتهافتيا وبتعبير آخر، أقصى إستغلال لأقصى فرص ممنوحة له أو التي يمكن الحصول عليها من أجل الفوز بالمغانم ما يفسر فقدانه الثقة بالمستقبل المنظور.


أما ما تلا غزو الكويت والحصارالإقتصادي الطويل وسنواته العجاف فقد عمق أسباب التداعي والتفكك إظافة الى إتساع رقعة العاطلين عن العمل وأرتفاع نسب الجرائم على إختلافها بل وظهور ما يعرف بالجريمة المنظمة لأول مرة في تأريخ العراق، حتى وصل معدل الجرائم اليومية الى (وقوع جريمة كل عشرين دقيقة) حسب تقارير وزارة الداخلية وإعتراف وطبان الحسن وزير الداخلية أنذاك من خلال شاشات التلفزيون.


في مثل هذه الظروف ظهرت الى السطح مفاهيم وقيم ومعارف إجتماعية جديدة أعطت غطاءا من المشروعية لجنوح موظفي الدولة وفسادهم، فما عاد المجتمع ينظر بأزدراء الى الموظف المرتشي، وعلى قياس (كل ما هو مشاع مشروع) كما أسلفنا، مضى التحلل الأخلاقي مداه، بل وأصبح المجتمع ينظر للمجرم المرتشي نظرة فيها شيء من الحسد!! لأنه مغامر وشجاع وعرف كيف يستغل فرصته، وهؤلاء السراق والمفسدين الحكوميين شكلوا طبقة إجتماعية من الأغنياء لهم قيمتهم ومقامهم وتأثيرهم الواضح وسط المجتمع والدولة على حد سواء!!.


وعندما سقط الوثن العراقي وإنهارت السلطة الفاشية بعد الحرب الأخيرة إنكشف بالكامل جبل الجليد الذي كان حتى ذلك الوقت متخف ولم يظهر منه سوى ذؤابته، فأصبحنا ونحن أمام إنعدام الإستقرارالسياسي عاجزين عن إقناع الفرد بالفردوس الذي ينتظر العراق الجديد، ولتمضي تلك المعارف المنحرفة التي خلفها النظام المقبور في بسط مفرداتها لتأكل ما تبقى من الأخضر ولتأتي على كل نبت نحاول زرعه طالما تخلفنا في إسعاف الحال السياسي بحال ناجع ولم ننجح في خلق إستقرارا سياسيا.
خلال الشهور الماضية كنت أراقب طيف من الأصدقاء المسؤولين كانوا فعلا دعاة إصلاح ومتمسكين بمباديء وطنية نبيلة لكني أسفت عليهم عندما وجدتهم مؤخرا على مشارف الإستسلام ( للحالة المشاعة ) مع كل تصعيد في الأزمات التي تحدق بالعراق، حتى إن البعض منهم قد صرح لي أنه نادم على عدم إستغلاله للفرص التي مرت به، قائلين على سبيل المثال (أن الوضع السياسي للبلد ميؤس منه وعلينا الحصول على قروش بيضاء كما فعل غيرنا طالما نحن مقبلين على أيام سوداء!!)
ونخلص الى القول إن تخلخل المرتكزات السياسية للدولة يرافقه دائما إنحلال أخلاقي، في مقابل إن الأستقرار السياسي يمهد لتثبيت قيم وأخلاقيات رفيعة يعتد بها المواطن، وإن هذا الإستقرار من شأنه أن يخلق ضمانات مستقبلية ويترك لدى المواطن آثارا نفسية إيجابية لها فعلها المؤثر في سلوكه وأخلاقياته وشعوره بالمسؤولية الوطنية تجاه وطنه ومواطنيه.

عبدالجبارالبياتي

motanabi66@yahoo.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف