الاتجاه المعاكس
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
لا أدري لماذا ينتقد كثيرون ظهور برنامج الاتجاه المعاكس على تلك الشاكلة والنحو، ويطلقون عليه شتى النعوت والأوصاف كصراع الديوك، وحلبة الملاكمة، وحوار الطرشان. وكل ما يفعله البرنامج المذكور هو أنه ينقل زوايا عشوائية من واقع عربي متناطح ومتشرذم، بشخوصه، وحواراته الطبيعية، ويجسدها بشكل حسي ومنطقي. فبرنامج الاتجاه المعاكس، هو أنموذج مصغر عن الاتجاهات المتعاكسة الأكبر الموجودة في كل بيت، وشارع، وداخل كل مؤسسة، وجماعة، وحزب، وجلسة صغيرة، حتى لو كانت حول "نرجيلة" وطاولة نرد، في مقهى شعبي، وفي قرية نائية. بل وفي الحقيقة، ومن وجهة نظر معيارية وتقييمية، هو أخف وطأة، وبكثير، مما يجري على أرض الواقع، من طرش، وحرد، وممانعة، وتدافع، ومناطحة. ويخيّـل إلي، وفي أحايين كثيرة، أن لا أحد سيفهم على أحد، ولا أحد يريد أن يستمع لأحد.
ولو أن الله، سبحانه وتعالى، وهذا لحكمة كبيرة منه، كان قد رزقنا بأسلحة دمار شامل، لأبدنا بعضنا البعض عن بكرة أبينا وأمنا وأخوالنا وأعمامنا. وارتحنا، وأرحنا البشرية المعذبة من مشاكلنا وحواراتنا، وأحاديثنا الطويلة المليلة. ويا ليت استمرت حواراتنا وبقيت على ما هي عليه في الاتجاه المعاكس من "شوية" صراخ، وشتائم، ومباكسات ولم تتحول إلى جحيم قاتل، ونزف دموي هائل، وموت دائم، ويومياً، على الهواء.
وفي البداية أود أن أشكر وبصدق كل المتشاركين، والمتداخلين في هذا البرنامج، لأنهم يعبـّرون، وبشكل عفوي وصادق عن طبيعة مجتمعاتنا وما في دواخلنا، ، وبعيداً عن أية رتوش، من عادات وقيم وتراث أصيل وعظيم لا نتخلى عنه أبداً. ويجسدون تلك التقاليد الحوارية العريقة التي عرفناها في تاريخنا التليد والفريد ويبشرنا الفقهاء بالعودة الميمونة لها. هؤلاء هم ناسنا وشعوبنا، وهكذا نحن، وهذه هي بضاعتنا فهل نحضر لكم، يا "إخوان"، بشراً ومتحاورين ومواطنين من النرويج، والسويد والدانمارك؟
ولو ألقينا نظرة سريعة، على طول هذه المنطقة الذين يطلقون عليها، افتراضياً، بالوطن العربي، لاعترانا العجب والذهول والوجل. ولاكتشفنا أن البرنامج المذكور ليس إلا مزحاً، ولعب عيال ودردشات غرام، أمام الحوارات الدموية العامة الأخرى، وطريقة التعامل فيما بين الأفراد، والجماعات، والأقوام. وأن من يظهرون في البرنامج المذكور، ومقارنة بالواقع، وبرغم الكم الهائل من الاحتقان، والعصبية، والتحريض والنرفزة، والجيشان وشد الشعر، ونتف اللحى والشوارب، والمباكسات وشق الأثواب، وشد "الكرافيتات"، هم مجموعة من القديسين، ورسل المحبة وملائكة الرحمة الطيبين المسالمين الودعاء.
فماذا نسمي، مثلاً، الحوار بين هذه الشعوب وأنظمة الاستبداد الغاشمة، الذي لا يكون عادة إلا بالجلد، والرفس، ورفع الفلقات؟ وماذا عن حوارات العرب في قممهم والتي تجاوزت الاتجاه المعاكس بمرات وشطحات لما فيها من اشتباكات ساخنة تجاوزت التصورات واستمتع بها المواطن الغلبان على الهواء بأكثر مما استمتع بمسلسلات غوار ومسرحيات عادل إمام؟
وماذا نسمي حوارات الطرشان والصراخ القائم بين مختلف التيارات الفكرية والسياسية على الساحة العربية، وحملات التخوين والتكفير والتأثيم المتبادلة بين هؤلاء قائمة على قدم وساق، ومن يطـّلع على أدبيات أي منهم، ويتشرف بزيارة مواقعهم يعتقد أن الحرب العالمية السادسة على وشك القيام الاندلاع؟ فهل هي حوارات في ذات الاتجاه؟ وماذا نسمي الحوار بين المعارضات العربية فيما بينها، وليس بينها وبين أنظمة البغي والاستبداد والطغيان، فتلك قصص ونوادر ونفائس ودرر أخرى تخر لها الرواسي والجبال؟ وهل لأحد أن يدلنا، مثلاً، على نوع الحوار الدائر بين حكومة الإنقاذ ذات المنشأ الترابي، والدارفوريين المساكين الفقراء؟ وحوارات جيش قوات الأمن المركزي اليمني مع الحوثيين في أعالي جبال صعدة القفراء؟ وماذا عن خطاب السلفيين الأصوليين ضد غيرهم من الطوائف، والإثنيات والأعراق ودعواتهم المعلنة لإبادة أجناس بشرية من الوجود والبقاء، وعلى رؤوس الأشهاد؟ وهل حوار الأصوليين في الجزائر مع جبهة التحرير الوطني الجزائري هو في نفس الاتجاه أم يشكل تقاطعات خطرة ومسالك وعرة جداً تكاد تذهب بوحدة البلاد والعباد؟ وأما حوارات الفرقاء اللبنانيين "الديمقراطيين" جداً، فلا يمكن أن تؤدي إذا استمرت في هذه الاتجاهات العبثة المتضاربة والمسارات المليئة بالألغام، إلاّ إلى الهاوية والقاع والهلاك؟ بل حتى ماذا نسمي معظم الحوارات التي تدور بين معظم الأزواج والزوجات في طول العالم العربي وعرضه؟ وماذا عن حوار الأغلبيات مع الأقليات؟ وحوار الطرشان الكبير، وفي الهواء الطلق، وصراع الديوك الأصولية في العراق، والذين لا يتكلمون مع الآخرين، إلا بلغة التفخيخ، والأحزمة الناسفة والمتفجرات؟ هل هو حوار باتجاه واحد، أم حوار فقد البوصلة وكل اتجاه وتندى له الهامات والجباه؟ أليس حوارات الاتجاه المتعاكس على الشاشة بأرحم منه آلاف المرات؟
الجزيرة، لها ما لها، وعليها ما عليها، ولاسيما لجهة هيمنة تيار الإخوان المسلمين الواضح عليها من الباب للمحراب، وهذه قصة أخرى يبدو أنها ستكرر هنا، وقد خاضتها، سابقاً، إحدى الدول المجاورة بتحالفها مع الإخوان وتقديم تسهيلات لهم، وخرجت منها بتجارب مرة وعداء مستحكم. وأما "همروجة" الرأي والرأي الآخر، التي تزغرد بها جزيرتنا العروبية الغرّاء، فلم تعد تنطلي حتى على البلهاء وسكان العصفورية الكرام. وقد أصبحت هي نفسها ذات اتجاه واحد، ولون سلفي فاقع. وصارت الأب والمرشد الروحي لقنوات من مثل إقرأ، والمجد، والفجر، والأنوار، ومرجعية فكرية لهم. وباتت هذه القنوات أمام قناة "الرأي ونفس الرأي"، قنوات لـ"الفرفشة" و"الفشخرة"، واللهو والتسلية والاستمتاع. لكن يبقى الاتجاه المعاكس هو الوحيد الذي يبرز، وحقيقة، كمغاير لسياسة القناة، وفي غير الاتجاه، بعد أن ارتدى الجميع أثواب الإحرام، والجلاليب والعمامات. وهو الذي يستمر بنقل حواراتنا متعاكسة، ومتضاربة الاتجاهات، والتي تعكس واقعاً مراً، لا يفهم فيه أحد على أحد، ولا يريد أن يستمع فيه أحد للآخر، برغم كل المحاولات اليائسة، والفاشلة لتهدئة الأوضاع التي يبدو أنها لن تهدأ على الإطلاق، وسنبقي على تقاليدنا العريقة في صراع الديكة، حوارات الطرشان.
نضال نعيسة
sami3x2000@yahoo.com