أصداء

ازمة العراق: توظيفات الواقع والمحيط

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

ان الوضع في العراق هو جزء من منظومة متكاملة، امتزج فيها الفكري بالسياسي، والواقعي بالنظري، والمحلي بالاقليمي، وربما بالعالمي ايضا، ومن ثم فهي منظومة تداخلت فيها الملامح، ليس من اجل تشكيل صورة ما، وانما من اجل تقديم الملامح الخام لاي صورة محتملة، وهذا امر اشبه بالسيف ذي الحدين، قابل للقطع باتجاهين متناقضين، فاذا ما حملناه على المحمل الحسن، ونظرنا اليه على انه حياد، فانه وبلا شك قابل بالفطرة، اذا صح التعبير، الى الانحياز ليس اي انحياز كان، وانما يجب ان لا يكون الا انحيازا الى الواقع، ان لم يكن انحيازا الى ما يصر على ان يصلح الواقع.


ولكن الطامة الكبرى ان المخاض، الذي يفترض به ان يترتب على هذا الانحياز المؤمل منه اصلاح الوقع، والتعبير في الوقت نفسه، عن كونه مخاض طبيعي لمنطق احداث، قد لا تقوم هي نفسها على اي منطق يراد له، ان يجانب المنطق، وهذه هي المفارقة الكبرى التي يقر الجميع بوجودها سرا، ولكن لا احد يقدر على الاعتراف علنا بذلك الوجود، فهي السر، وهي السر المذاع في الوقت نفسه.


وهنا لا بد لكل متتبع لاحداث العراق من ان ينتاول الوضع العراقي وفق مستويين، قضى القدر بان يكونا متلازمين، وقضى القدر ايضا بان يتنازعا دور ترتيب الاحداث، فكل مستوى يحاول اصحابه ان يظهروه على انه المستوى الاكثر فاعلية، وهذه المحاولات هي السبب الاول والاساس في عسر ولادة الم بهذا المخاض العراقي، الذي استحال الى مخاض دام، المستويان اللذان اتكلم عنهما هما:
اولا: المستوى الوطني، فالعراق على هذا المستوى بلد متعدد القوميات والاديان والمذاهب، ومن ثم فهو بلد يمكن له ان يشكل، وعلى مستوى ما، ملامح امة قائمة بذاتها، لها ان تصوغ هويتها الوطنية الخاصة، ويمكن له ان يشكل في الوقت نفسه ايضا، وعلى مستوى اخر قنوات التواصل مع المحيط، ضمن امة اسلامية كبرى، او تشكيل مجتمعي عربي كبير، ولكن ذلك ممكن في حال واحدة، هي عندما تختزل فروقات هذا التعدد عند نقطة تاريخية تجمع، و وفق المعطى الحضاري للعراق الضارب في اعماق التاريخ، بين الدين والدولة يركز بحثها في الموروث التاريخي عن تطور مسارات الادارة، ابتداءا وعلى سبيل المثال، من حمورابي باعتباره علامة فارقة على صعيد الدولة والادارة، وصولا الى الاسلام، باعتباره ذروة التطور الانساني المنشود، بكل تفصيلاته، من قادسية عمر بن الخطاب (رض) وصفين علي بن ابي طالب (ع)، وكربلاء الحسين (ع)، وثورة صاحب الزنج، وغير ذلك من الوقائع، مع الاعتراف بالخطر المترتب على ان تلك الوقائع وقائع قابلة للتاويل بجزأيه، الجزء الصادر عن الذين امنوا والجزء الصادر عن الذين في قلوبهم مرض، والعمل في الوقت نفسه على التقليل من اثار ذلك الخطر، وهي وقائع لا تعد ولا تحصى، وكما بدات حمورابي لتصل الى الاسلام فقد تبدا من حمورابي نفسه ايضا ولكنها تصل الى النقيض، كقادسية كسرى، وصفين معاوية بن ابي سفيان، كربلاء يزيد، وسياط المهدي العباسي، وهذا يعني ان هناك مرتكزا تاريخيا، يقر الجميع بالانتماء اليه، قد يصلح لان يمثل النقطة المحايدة، القابلة الى التشكل المنحاز باتجاه الحرية والاستبداد على حد سواء.


اعتقد ان العراقيين يشعرون على نحو الاجمال تارة، وعلى نحو التفصيل تارة اخرى، بالانتماء الى ذلك المرتكز التاريخي، و يشعرون في الوقت نفسه على النحويين المذكورين بعبء ذلك الانتماء، ولكن الذي يتحمل اثم التوظيف الخاطيء للانحياز، الواقع حتما، باعتباره نتيجة منطقية، هم اولئك الذين يشعرون بالانتماء على نحو التفصيل لانهم نخب المجتمع المشكلة لحركته، عندما يوظفون هذا التشكل لاهداف خاصة، بل ومتصادمه في معظم الاحوال مع المصالح والاهداف الوطنية، والى هذا المستوى يمكن للامور ان تسير باقل تضحيات ممكنة، وربما بقدر من التضحيات اللازمة، التي لا بد من القبول بها، باعتبارها الثمن المفروض دفعه في كل مسيرة، لا يمكن باي حال فصلها عن مرتكزاتها التايخية، ولكن الامر الاكثر الما هو المترتب على المستوى الثاني، الذي ساشرحه الآن.


ثانيا: المستوى الاقليمي، ان ما يربط العراق بمحيطه هو نسيج معقد تنعكس تعقيداته على الواقع المحلي، عندما تفرض منطقا، قد لا يخدم ذلك الواقع، بل قد يساهم في تدميره، وامثلة ذلك كثيرة، منها وعلى سبيل المثال لا الحصر، ان العرقيون يمتلكون تصور مفاده انهم قد لا يختلفون في الثناء على قادسية عمر بن الخطاب، باعتبارها واقعة عظيمة ترتب عليها انتصار كبير للاسلام، فهي اذا حَريّة بالفخر والثناء وهذا تصور قد لا يجد اصحابه العراقيون ضرورة لتسويقه، باعتباره اقرب الى المسلمة منه الى القضية المتطلبة الى البرهان، ومن ثم سيبقى هذا التصور تصورا مركونا في زاوية من زوايا الذاكرة، كمعرفة غير ذات علاقة بالممارسة، ومن ثم لا يمكن لها ان تكون فعلا ثقافيا اجتماعيا، ولكن للمحيط غير العراقي رايا آخر في هذه القادسية، يجد اصحابه ضرورة ملحة، ليس لتسويقه فحسب، وانما لتسويقه تحديدا على صعيد الواقع العراقي، ويمتلك اصحاب ذلك المحيط في الوقت نفسه الادوات اللازمة لذلك التسويق، ومن ثم فهم يمتلكون القدرة على تحويل ما يرون الى ثقافة عراقية اجتماعية، ومن تلك الامثلة ايضا، ان العرقيين قد لا يختلفون في الثناء على صفين علي بن ابي طالب ولكنهم يتصرفون معها بالاسلوب الذي تصرفو به مع قادسية عمر بن الخطاب، ويتصرف المحيط باسلوبه المعهود، مكرسا الثقافة نفسها التي اصلها على صعيد الواقع العراقي، وهكذا سيكون الامر مع كربلاء الحسين، وغير ذلك الوقائع القابلة لان تكون مرتكزا لثقافة اجتماعية وفي النتيجة نجد ان المحيط يفرض الثقافة التي يريدها على المجتمع العراقي، وهذا لا يعني ان المجتمع العراقي يجب ان يكون في قطيعة مع المحيط، ولكن يجب ان تكون اولوياته مستجيبة لمصالحه الوطنية دون اضرار بمصالح الاخرين، تماما مثل ما يرتب الاخرون اولوياتهم وفق مصالحهم الوطنية، وان كانوا لا يراعون مصالح العراقيين فعلاقة العراق مع محيطه لا يمكن ان تقوم على القطيعة، ذلك لانها قد انبنت على اسس تواصل متينة، منها ماهو عقدي، ومنها ما هو سياسي وان الحكمة تفرض فصل ما هو عقدي عما هو سياسي، ليس انسياقا وراء العلمانية، ولكن تحقيقا لتوازن مطلوب للخروج من ازمة خانقة كلما ضيقت الخناق على العراق حولته الى قنبلة موقوته، اذا ما انفجرت ستمتد اثارها المدمرة الى المحيط كله.


وما اراه ان العراقيين هم المعنيون، اولا وقبل اي طرف اخر، بحل ازمتهم، لانها ازمة واقعة في بلادهم، وازمة محتملة في محيطهم العربي والاسلامي، ولان ضررها ضرر مؤكد الوقوع في بلادهم ولكنه ضرر محتمل الوقوع في محيطهم، بل ان هناك، وعلى صعيد المحيط من يهدف الى توظيف هذا الضرر اللاحق بالعراقيين من اجل تحقيق مصالح وطنية خاصة به، وهذا فعل مدان على صعيد الاخلاق والدين، فتوظيف مصائب الناس في تحقيق فوائد مزعومة امر يرفضه الدين ولا تقره الاخلاق، الا ان اصحابه قد يجدون، وبكلمة ادق، قد يختلقون ما يسوغ افعالهم، ولكن لم ولن يكون هناك مسوغ للعراقي الذي ينجر الى هكذا ممارسة.


من اوضح امثلة الثقافة التي يفرضها المحيط على العراق، مثالان هما، فكر البعث وفكر القاعدة، قد لا يجد القاريء اي علاقة بين هذين الفكرين، ففكر البعث قومي علماني، وفكر القاعدة ديني راديكالي متطرف، والفكران بدون شك ولدا خارج رحم القومية العربية والدين الاسلامي، فالبعث نتاج الدولة القومية الاوربية، التي اصبحت من التاريخ، والقاعدة نتاج الصراع الايديولوجي الراسمالي الشيوعي، الذي حكم اصحابه بنهايته عندما اعلنوا موت الايديولوجيا ونهاية التاريخ على صعيد الغرب الراسمالي، والتخلص من الفكر الشمولي القائم على سياسة الحزب القائد، والالتحاق بركب الليبرالية على صعيد الشرق الشيوعي هذان الفكران اللذان اصبحا سقط متاع ساهمت الظروف في اعادة اعتبارهما في العراق بسبب الوجود الامريكي، واني لست على يقين من وجود الحرب الدائرة بين الامريكان من جهة، وتحالف القاعدة البعث من جهة اخرى، ولا ادري من هو العدو ومن هو الحليف في هذه الحرب الحداثوية ( فقد سمى الامريكان وقائعها عمليات ) الاصولية ( فقد سمت القاعدة وقائعها غزوات )، وبين العملية الرافلة بحلل الحداثة والغزوة الرافلة بحلل التاريخ، يمتد كرنفال القتل والتدمير.

حسن العاشور

العراق

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف