أصداء

انفلاش تضامني مع عزمي بشارة

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

تابعت الأسبوع الماضي على شاشة التلفزيون ندوة تم تنظيمها من قبل مركز فلسطين للبحوث و الدراسات في مدينة غزة للتضامن مع السياسي والمفكر الفلسطيني عزمي بشارة _عضو الكنيست ورئيس حزب التجمع الوطني الديمقراطي في فلسطين عام 1948م. وقد تناوب المشاركون في الندوة الكلمات التضامنية مع عزمي بشارة بسبب ما يتعرض له من مؤامرات يبدو أنها تحاك ضده من قبل أجهزة الأمن الإسرائيلية، وتتعلق باتصاله بجهات عربية تعتبرها الدولة العبرية المحتلة جهات معادية لها، هذا إضافة إلى اتهامات بقيامه بالتحريض... الخ. وهي الاتهامات التي تعيد لأذهاننا ما تعرض له الشيخ رائد صلاح رئيس الحركة الإسلامية في فلسطين 1948م، والتي جاءت على خلفية تصدي الشيخ صلاح للهجمة الإسرائيلية على الأقصى، ومحاولة تكريس نشاطه الديني والسياسي والإعلامي والجماهيري لقضية تستحق أن يكرس لها الكثير من الوقت والجهد ليس لفرد واحد بل لكل أفراد الأمة الإسلامية في ظل التهديدات والتحديات التي واجهت وتواجه القدس والتي تهدف إلى تهويدها، وتهديد تراثها الديني ومستقبلها السياسي. ومع ذلك فليس الحديث عن قضية عزمي بشارة هي بيت القصيد هنا بل نريد التركيز في مقالنا هذا حول النفاق الذي يتصف به قادتنا السياسيون الذين يقفون على رأس فصائلنا الوطنية والإسلامية حين تباروا في ظاهرة إعلامية بكائية عما يتعرض له عزمي بشارة، وتم الاستعراض الصوتي لكل واحد من الحضور حيث أن الندوة في رأينا لم تكن سوى مسرحية إعلامية يتجسد فيها الحضور الإعلامي للفصائل التي يريد قادتها أن يقولوا: "نحن هنا في كل موقف"، وتطبيقاً للأغنية الوطنية التي كان يتم ترديدها سابقاً والتي تشير إلى أن رجال المقاومة في "كل بيت وحارة وشارع". وهكذا أبرز كل فصيل حضوره في الندوة التي كما قلت كانت تسجيل حضور وموقف حرص فيها الممثلون عن الفصائل عن إلقاء العبارات الخطابية، والتنافس في ترديد الشعارات، والإشادة بالموقف. فكانت الندوة تظاهرة صوتية إعلامية تثير في النفس الاشمئزاز بسبب رائحة النفاق التي طفحت من الكلمات والشعارات التي تم ترديدها ببرود وبشكل ببغائي اعتدنا عليه.

ويأتي انتقادنا لما تم في الندوة ليس بسبب أن عزمي بشارة لا يستحق هذا التضامن بل لأن المتحدثين وهم ممثلو الفصائل الوطنية الفلسطينية قد تعاملوا مع عزمي بشارة كشخص ولم يتعاملوا معه كمثقف ومفكر يستحق كل الاحترام والتقدير. أي هل قام المتحدثون بقراءة ما يكتب بشارة من مقالات أسبوعية، ومتابعة المقابلات التي تجرى معه على الفضائيات أو في الصحف الورقية والإلكترونية، بمعنى هل وعي هؤلاء مغزى وحقيقة كلماته وعباراته وتصريحاته. فالمتابع لما يكتبه ويقوله عزمي بشارة يرى مدى براعة الرجل في تشخيص الواقع الفلسطيني والإسرائيلي والعربي وحتى الدولي، ومقدار العمق الذي يتسم به تحليله بحيث يتجاوز بشارة قراءة الواقع، إلى محاولة استشراف المستقبل. ففي كل لحظة نرى فيه رجل سياسة صلباً قوياً في تصديه لعنصرية السياسية الإسرائيلية، ومفكراً كرس حياته البحثية الأكاديمية في دراسة الفكر الماركسي نقداً وتحليلاً كما جاء في أطروحة الدكتوراه التي نالها من جامعة هامبولت في برلين الشرقية في ألمانيا (الشرقية سابقاً) في الفلسفة في منتصف الثمانينيات. وفرض حضوره الثقافي والفكري منذ اللحظات الأولى التي مارس بها حياته التدريسية في جامعة بيرزيت سنة 1986م، حيث كان يشار له بالبنان بين الطلبة، الذين كانوا يحرصون على الاستماع إلى محاضرته في مساق دراسات ثقافية الذي كان متطلباً جامعياً. وبعد تراجع وانهيار الاتحاد السوفييتي في أواخر الثمانينيات حاول بشارة أن ينظر لفكر ماركسي وطني، حيث بدا وأنه يبحث عن خلق تجربة وطنية ماركسية يتم فيها المزج بين خصوصية الواقع الفلسطيني والعربي وبين الفكر الاشتراكي الذي يواجه الانهيار والفشل في موطنه وبلده الأصلي. ثم انتقل عزمي بشارة في فكره نحو التنظير للقومية العربية محاولاً إبراز الانتماء القومي للوطن العربي الكبير، ومدافعاً عن قضايا الوطن الأمة. وكتب وأصدر العديد من الدراسات والكتب حول نشأة المجتمع المدني، والديمقراطية، وحقوق الإنسان. ودخل معترك السياسة في صفوف حزب التجمع الوطني الديمقراطي حتى وصل إلى مركز الصدارة فيه، وكرس نفسه للدفاع عن عدالة القضية الفلسطينية بعد أن تاه وسط التغييرات والتحديات الدولية الفكر الذي انتمي إليه معظم سنوات شبابه. وسعى جاهداً إلى ربط الأقلية العربية في فلسطين 1948م مع محيطها الوطني والقومي. وناضل بشكل شرس من أجل تحقيق المساواة والمواطنة في مجتمع إسرائيلي عنصري يقوم على مبدأ التمييز العرقي والديني، واليوتوبيا الصهيونية في تحقيق النقاء العنصري للدولة العبرية، والنظر إلى المواطنين العرب الذين يعدون السكان الأصليين للبلاد.

ويبدو أن قادة فصائلنا الذين يقضون وقتهم في العراك الفصائلي، وتسجيل المواقف هنا وهناك، واستعراض الشعارات على الفضائيات حيث تحولوا إلى نجوماً فيها لا يرتاح لهم بال أو ينام لهم جفن إلا إذا برزوا وتباروا على شاشات الفضائيات (على الفاضي والمليان). فهل فهم هؤلاء عزمي بشارة ثقافة وفكراً، وهل مارس هؤلاء السياسة كرسالة وواجب وطني بعيداً عن البحث عن المصالح والزعامة الشخصية، والمكاسب الفئوية الضيقة. فهل فهم وأدرك هؤلاء ما كتب وشخص وعالج بشارة في كتابته وحولوه من ثقافة إلى سلوك ممارس. فهل سمعوا وأصغوا إلى قراءته الاستشرافية، وتعاطوا مع السيناريوهات المنتظرة على الصعد المحلية والعربية والإقليمية والدولية، أم أن هؤلاء يشكلون استمرارية لحالة المثقف والسلطة في البلاد العربية ودول العالم الثالث ذات الأنظمة الديكتاتورية والسلطوية والقمعية التي ترى في المثقف خطراً عليها يجب احتواءه وشراءه إن أمكن، فإن لم يحدث يجب تطويقه وتهميشه وأزاحته عن الطريق وإن أمكن إخراجه من العالم. وهنا يبرز عدم مصداقية رجال السياسية عند اقترابهم من المثقف فهم لا يقتربون منه فكراً وممارسة بل محاولة توظيف المثقف في مشاريع الأنظمة التسويقية الإعلامية. فكم من نظام عربي تباكى على شعرائه ومثقفيه ومفكريه بعد أن ارتحلوا إلى الرفيق الأعلى.

ومع كل الاحترام لعزمي بشارة شخصاً فكراً وحضوراً إلا أن التساؤل يبقى قائماً ألا يستحق الواقع الفلسطيني المؤلم، والمواطن الفلسطيني المطحون تضامناً من قبل قادة فصائلنا. أليس هم السبب فيما وصلنا له من انفلات بل انفلاش أمني وسياسي وصحي وقيمي وتعليمي... الخ أغرق الوطن والموطن في متاهات لا حدود لها. وكيف تحول انحرف المشروع الوطني الفلسطيني بسبب سلوكهم الحزبي الضيق عن مساره وتاه وسط مواقف وشعارات وبرامج. وكيف تحول الوطن إلى إقطاعيات فصائلية وعشائرية وعائلية. وكيف تحولت وزارات سلطته إلى قلاع لتكريس الحشد الحزبي. فالوطن أصبح رقماً بل أرقام قابلة للضرب والقسمة والطرح والجمع... الخ. ومع ذلك يبرز ممثلو الفصائل للتباري في تسجيل الخطب ورفع الشعارات الجوفاء التي لم تعد صالحة للاستهلاك بعد أن انكشف زيف الثقافة والوطنية التي تحولها ألسنتهم إلى شعارات ويأبى وعيهم وإدراكهم أن يحولها إلى سلوك ممارس. حيث يبدو أن مصطلح التضامن أصبح يعاني هو الأخر من انفلاش وازدواجية بين الفكر والممارسة.

د. خالد محمد صافي

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف