أصداء

من يشتري الهوية العربية؟

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

يتفاخر الإعلام التعبوي الدعوي الدجال، بمصطلح الهوية العربية الفضفاض، ويتغنى بها، ويقدمها باعتبارها هبة السماء لهذا الإنسان الغاطس في وحول التخلف والمجاعات والنزاعات من رأسه إلى أخمص قدميه. وفي الحقيقة، حاولت كثيراً، وأعياني التعب، وأضناني السهر، وأنا أحاول أن أحدد الملامح الأساسية لهذه الهوية التي يتشدق بها العروبيون، والقومجيون، والمتأسلمون، علني أجد سبباً أو تفسيراً واحداً مقنعاً بتفرد هذا العطاء الذي منـّـت به الطبيعة، ويتغزلون بها آناء الليل وأطراف النهار. أو أن أعثر على مكسب واحد فقط أستطيع من خلاله أن أقدم برهاناً واحداً على لغز مؤامرات الصهيونية والاستعمار وبورما وبنغلادش والنيبال، على هذه الهوية لإخفائها عن الوجود، وأنا أرى كيف تحاول هذه الشعوب فرادى، ومثنى، وجماعات الفرار الجماعي للتخلص من روع وهول هذه الهوية نظراً لما لها من سمعة وموروث مخجل، لم يكن، وعلى مر تاريخه الطويل، على ما يرام. ولم أجد سبباً مقنعاً لدعوة الناس للتمسك بهذه الهوية، إلا لرغبة غامضة وشريرة، ولا تخلو من سوء نية، للتشفي بهم، والنصب عليهم، وإبقائهم على ما هم عليه من بؤس، وترد، وتواضع في الحال.

فلقد أصبحت هذه الهوية، تعني فيما تعنيه، الظلم، والاستبداد، والقهر، والقمع، والسجون، والمقابر الجماعية، والمطاردات الأمنية، والاستغلال والاضطهاد، والنهب المنظم للثروات الوطنية، والتمييز العنصري البغيض ضد الأقليات والنساء، واحتقار الفكر والمواهب والإبداع، والتنكيل بالأحرار، وتنطوي على كثير من العلامات الفارقة، كالفساد، والتفكك، والحروب، والنزاعات القبلية، والعشائرية، والثارات، والعداوات المتأصلة التي لا يعرف لها أساس من رأس. هذه الهوية التي لم تعد تعني أكثر من بؤر مستعرة بشتى أنواع الحروب والصراعات، ومناطق منكوبة بالدجل والأباطيل والخزعبلات والخرافات، وجغرافيا هشة ومفككة يتطاحن أهلوها من مئات السنين حول قضايا خلافية وجدلية مزمنة ولا تنتهي بانتهاء الزمان، ويسود فيها البسطار العسكري، والمهاترات الإعلامية الرخيصة، وقصر النظر السياسي، وضمور العقل الجمعي، والإعاقة الدماغية والفكرية السارية، والزعيق والبعيق، والتعصب والتشنج في المواقف، والرفض الفارغ، والديكتاتورية، والديماغوجية، والغوغائية، والانقلابات العسكرية، وتأليه الزعماء، وبدون هذه السمات الفريدة تفقد الهوية العربية سماتها وبريقها ورونقها المألوف والمعتاد.

ويشعر العربي الذي يغضب الله عليه، ويزور أي بلد عربي آخر، بأنه منبوذ، وملاحق، وعيون "الأشقاء"، وأجهزته تلاحقه في كل مكان، وأنه موضع شك وارتياب. . ولن أنسى تلك المعاملة القاسية والمهينة للهوية العربية في المنافذ الحدودية العربية والتقديس والتأليه الذي تحظى به الهوية والجواز الأجنبي، بنفس الوقت، في ذات المكان. وفي نفس الوقت حين يسافر إلى عواصم النور والألق والضياء، يشعر بعقدة النقص وبالفارق الحضاري الذي يفصله عن بقية خلق الله، ولا يفارقه ذاك الإحساس المريب، والعيون تتابعه بسبب تلك الهوية العظيمة التي اقترنت بالإرهاب، والسواد، والضحالة والتهافت العام. ويشعر المرء، في تلك الحالة، بأن الأرض تضيق، ويتمنى لو تخسف به خسفاً، وتمحقه محقاً لتخلصه من هذا الورطة التي تلازمه بفعل الهوية إياها. ويتعرض للتوقيف والمساءلة والتمحيص والتفتيش أكثر من سكان الأدغال، فقط بسبب ذاك الكنز النادر الذي يسمونه الهوية العربية.

ألا يهرع العرب بقضهم وقضيضهم، بشيبهم وشبابهم، ورعاعهم وأشرافهم، لكسب أية جنسية غربية، ويضعون كل ما نهبت يمينهم وشمالهم في البنوك الأجنبية؟ ويتدافع كثير منهم حالياً، وبالقوارب الخشبية، ويقطعون المحيطات ويتحدون الأعاصير والأخطار، باتجاه الدول الاسكندينافية، وأمريكا، وكندا، وأوروبا، لاكتساب شرف تلك الهويات التي تعني أنهم أصبحوا، فعلاً، من الفرقة الناجية من جحيم القهر والاستبداد، رامين بهويتهم العربية على أقرب مزبلة متوفرة، ومتخلين بذلك عن أوطانهم وهوية آبائهم وأجدادهم التي لم تجلب لهم سوى المهانة، والذل الأبدي، والجوع، والإملاق، والعار. ويدفع البعض ما تحته وما فوقه للحصول على فيزا والسفر إلى أي مكان للتخلص من شرور وعواقب هذه المصيبة النكداء. فيما لا نرى أياً من شعوب العالم لا المتحضر، ولا حتى البربري والهمجي يسعى لنيل لهوية العربية لأنها ستضعه في أسفل الترتيب الإنساني، وستأتي على ما تبقى لديه من أحلام ورصيد إنساني، ومشاعر بالعز والافتخار. هل رأى أي منكم نرويجياً، أو سويسرياً، مثلاً، أو حتى بورمياً وبنغالياً، يحاول جاهداً، ويتوسل لاكتساب الهوية العربية كما يتوسل أبناؤنا التعساء على أبواب جميع السفارات بما فيها سفارة منغوليا، والتيبيت، ومنشوريا، وتركمانستان؟

والآن وفي ظل هذه المعطيات المؤلمة والقاهرة، لو عرضنا هذه الهوية، التي أصبحت مع صاحبها أرخص من التراب، للبيع على سكان الأدغال، وأكلة لحوم البشر في الغابات، والمنبوذين، والمشردين، والغجر والنور، فهل يقبل أي منهم على شرائها؟ وهل لأحد مصلحة، بعد الآن، في اقتناء هذا الشرف الرفيع؟ والجواب عندكم بطبيعة الحال.

نضال نعيسة
sami3x2000@yahoo.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف