الوضعية القانونية للوحدات غير المنظمة لأقليم
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
شكلت موضوعة الشكل الجديد للدولة العراقية، اي الانتقال من شكلها البسيط وشديد المركزية الى الشكل الفيدرالي، واحدة من المسائل الاكثر اثارة وجدلا في الحياة السياسية العراقية، الى الدرجة التي باتت تشكل فيه هذه الموضوعة معضلة ربما يتطلب حسمها الكثير من الجهد والوقت في ظرف يتسابق فيه العر اق مع الزمن لانجاز مهمات اعادة بناء الدولة العراقية التي شهدنا جميعا سقوطها التراجيدي. من هنا الضرورة الملحة لتأجيل الكثير من الملفات المثيرة للجدل والتركيز على الموضوعات الاكثر اهمية والحاحا في الوقت الراهن، ألأ وهو بث الروح (في الرجل المريض) ومعالجة جروحه الاكثر ايلاما، وذلك سوف لن يتم من دون التسامي على الذات والتجرد من روحية استثمار الفرصة للحصول على المكاسب الضيقة (والتي هي آنية وقصيرة الاجل في اغلب الاحيان). واذا كان ما يمر به العراق يبدو حالة طبيعية ومرافقة للهزات الاجتماعية العنيفة، فان التأريخ يعرف الكثير من التجارب التي انتقلت فيها الشعوب من شكل للدولة الى شكل اخر، مغاير تماما، ليس باقل الخسائر فحسب، وانما اصبح ذلك (الانتقال) حافزا لتقوية الدولة وضمان مستقبل مواطنيها ايضا.
ان الموضوعة التالية تسلط الضوء على واحد من الجوانب الاكثر حساسية في ترتيب الشكل (المساحاتي) للدولة وبالشكل الذي ينظم العلاقة بين مكوّنات الدولة الواحدة، مع اختلاف الوضعية القانونية لتلك المكونات.
يجمع علماء القانون الدستوري على ان الدولة الفيدرالية تتميّز عن مثيلتها البسيطة كونها اكثر تعقيدا سواءا من ناحية التركيبة الجغرافية (المساحاتية) او من حيث بناء اجهزة السلطة فيها، المركزية منها والدنيا، ومع ان اغلب دساتير الدول الفيدرالية وتشريعاتها الاخرى ذهبت الى تثبيت مبدأ المساواة بين الوحدات التي تكوّن مساحة الدولة الفيدرالية، الأ ان اغلب القواعد المتضمة لمبدأ المساواة كثيرا ما تندرج ضمن ما يمكن ان نطلق عليه القواعد - الاهداف، بمعنى القواعد التي يؤجل تفعيلها الى زمن لاحق غير معلوم. فعوامل كثيرة على شاكلة القوة الاقتصادية لتلك الوحدات وحجم الثروات فيها (بما في ذلك ثروتها البشرية) ومقدار اسهامها برفد الميزانية الفيدرالية بالاضافة الى موقعها الاستراتيجي المؤثر في تحديد موقع الدولة على الخارطة الجيو - سياسية والعسكرية سواءا في محيطها الجغرافي او الاقليمي والدولي، هذه العوامل تجعل من امكانية التمييز بين مقاطعات الدولة الفيدرالية واقاليمها امرا جائزا، ان لم يكن حتميا، فتعامل دوائر القرار في الدولة الفيدرالية مع اطرافها التي تتمتع بموقع جغرافي يؤهلها لأن تكون منفذا للدولة الى الدول الاخرى (امتلاكها لموانئ او مناطق لاقامة التجارة الحرة على سبيل المثال)، سوف لن يكون باي حال مثل تعاملها واهتمامها بمقاطعات تفتقر الى تلك الميزات، وربما جعلها وضعها الاقتصادي الضعبف تشكل عبئا على ميزانية الدولة الاتحادية.
نظريا تشكل اراضي الاقاليم مساحة الدولة الفيدرالية، وهذه المقولة تتجلى بشكل واضح في الدول الفيدرالية التي ظهرت الى الوجود نتيجة اتحاد دوّل (او اقاليم) قررت الاندماج لتكوين اتحاد فيدرالي. فيما يذهب عقد الاندماج (او دستور الدولة الوليدة بالنسبة للدول التي يمثل الدستور اساسها القانوني - العراق مثالا) الى اعتماد مبدأ مساواة الاطراف، كما اوضحنا قبل قليل، لكن ثمة استثناءا لهذه المقولة يمكن ملاحظته في بعض الدول التي اتخذت من الفيدرالية شكلا للدولة. ففي تنزانيا، على سبيل المثال، ذهب التشريع التنزاني الى التمييز في نسبة ممثلي اقليمي الدولة في البرلمان الفيدرالي على الرغم من عدم وجود مجلس خاص لتمثيل الاقليمين، كما هو متعارف في الدوّل الفيدرالية المعروفة.
ان وجود وحدات ادارية غير منظمة لأي من اقاليم الدولة الفيدرالية لا يعني بأي حال ان تلك الوحدات (الدوائر، المحافظات، الاقاليم، المناطق...الخ)، خارج اطار الدولة، فليس من المعقول، على سبيل المثال، القول بان دائرة كولومبيا (الدائرة غير المنظمة لاي من الولايات)، وحيث عاصمة الولايات المتحدة الامريكية واشنطن، لا تعتبر جزءا من دولة الولايات المتحدة. وهذا ما ينطبق ايضا على بعض المقاطعات الهندية ومنها العاصمة دلهي، وكذلك شريط القبائل في باكستان الفيدرالية وبعض الوحدات في جمهورية فنزويلا...وغيرها.
من هنا ثمة تناقض يبدو واضحا، فمن ناحية تتألف مساحة الدولة الفيدرالية من اراضي مكوناتها ( اقاليمها ومحافظاتها وولاياتها..الخ)، ومن ناحية اخرى توجد وحدات لا تنتمي الى اي من اقاليم الدولة الاتحادية. غير ان البحث في نظرية القانون الدستوري، وخصوصا المتعلقة منها بدراسة الشأن الفيدرالي وتتبع صيرورة تكوّن الدول الفيدرالية والظروف التاريخية التي رافقت ذلك التكوّن سيساعد على ايجاد تفسير لهذا التناقض النظري. فالوحدات الغير منظمة لاقليم تعتبر من الناحية القانونية تابعة للمركز الفيدرالي وتدار مباشرة من قبله، غيران ما يميز ممثلي تلك الوحدات عن نظرائهم من ممثلي الاقاليم التي تتمتع بصفة الطرف الفيدرالي هي انهم لا يمتلكون صوتا مقررا حينما يتعلق الامر بالاقضايا العامة، فيما يمتلكون صلاحيات محدودة حتى فيما يخص الامور التنظيمية المحلية، وهذا ما سنتطرق اليه لاحقا.
ففي الولايات المتحدة الامريكية، على سبيل المثال، تمتلك الدوائر (الوحدات) غير المنظمة لولاية فيدرالية ممثلا واحدا فقط في مجلس النواب، يعتبر صوته استشاريا في الامور العامة وحاسما في اللجان المختصة التي يعمل فيها. حتى ان هذا العضو لا يدخل ضمن ال (435) وهو مجموع اعضاء مجلس النواب الامريكي. وربما كان حرمان الوحدات (غير الاطراف الفيدرالية) من حق الصوت المقرر في البرلمان او حرمانها من التمثيل في مجالس الدولة العيا ومؤسساتها التمثيلية هي من بقايا الثقافة الاستعمارية، حيث كانت تلك الوحدات مجرد مقاطعات ثانوية تابعة لمستعمرات الدولة. من هنا توق دساتير الجيل الثاني للبلدان الفيدرالية تأكيد الصفة التمثيلية لتلك الوحدات في مجالس الشيوخ او امثالها من مجالس القوميات ومجالس الاتحاد او القوميات (دساتير البرازيل والمكسيك ونيجيريا وروسيا... وغيرها)، مع ان تشريعات البعض من تلك الدول منحت مقاطعاتها الغير منتظمة باقليم عددا اقل من الممثلين في مجلس الشيوخ قياسا بزملائهم ممثلي الاقاليم الفيدرالية. ففي باكستان مثلا منح الدستور الفيدرالي خمسة مقاعد لشريط القبائل مقابل اربعة عشر مقعدا للولايات (الاطراف الفيدرالية). وربما كانت البرازيل الاكثر انفتاحا حيث اعتبرت الوحدات البلدية الصغيرة جدا (البلديات) مساوية لتلك التي تتمتع بصفة الاقليم الفيدرالي وهي سابقة فريدة في تأريخ القانون الدستوري. فقد نصت المادة الاولى من من دستور البرازيل لعام 1988 على ان البرازيل " اتحاد غير قابل للانفصام للولايات والبلديات والدائرة الفيدرالية".
ان دور الوحدات المكوّنة للدولة الفيدرالية يكمن في اساس تقسيمها الى اطراف فيدرالية واخرى غير منظمة لاي طرف فيدرالي. فالكثير من الوحدات غير المنظمة لاقليم تفتقر الى الدور السياسي المميز. حتى ان الكثير من تلك الوحدات مجرد مساحات مبعثرة هنا وهناك وغير مأهولة بالسكان. غير ان موقعها الستراتيجي جعل منها وحدات بالغة الاهمية بالنسبة للدولة (بعض الجزر في المحيط الهندي والتي تستخدم لاهداف عسكرية على سبيل المثال)، او جزر الهواي التي لم تكن حينها ضمن اي ولاية، غير ان اهميتها الاستثنائية جعل منها واحدة من اهم القواعد العسكرية للولايات المتحدة الامريكية في المحيط الهادئ وربما كان لاهمية تلك الوحدات الاقتصادية كوجود خزين من مصادر الطاقة اثر كبير في تحديد وضعها القانوني في الدولة. من هنا الاهتمام المتزايد الذي توليه الولايات المتحدة الامريكية لمقاطعة آلاسكا القطبية باعتبارها تمثل خزينا استراتيجيا للطاقة اضافة الى موقعها المهم جدا من الناحية العسكرية.
ان واحدة من اهم مميزات الدولة الفيدرالية هو محدودية عدد الوحدات غير المنتظمة باقليم قياسا بعدد اقاليم الدولة الفيدرالية (ولاياتها) المتمتعة بصفة الاقليم الفيدرالي. ففي الولايات المتحدة الامريكيية لا يزيد عدد تلك الوحدات عن خمس مقابل خمسين ولاية. اما في الهند فعدد الوحدات التي لا تتمتع بصفة الولاية الفيدرالية سبع وحدات مقابل خمس وعشرين ولاية فيدرالية، وفي كندا عشرة اقاليم مقابل وحدتين تفتقدان لصفة الطرف الفيدرالي، ومقاطعة واحدة تتمتع بالحكم الذاتي تقطنها اقلية المانية لا يتجاوز عدد سكانها المائة وخمس وستين الف نسمة تتعايش مع ثلاثة اقاليم تؤلف الفيدرالية البلجيكية. وربما شكلت جمهورية فنزويلا الفيدرالية شذوذا عن هذه القاعدة حيث تتوزع البحر الكاريبي سبعون وحدة صغيرة اغلبها خال من السكان.
ان التجربة التأريخية للبلدان التي اتخذت من الفيدرالية شكلا للدولة تثبت ان مكونات الدولة (وحداتها) يمكنها ان تكون فاعلة في الحياة السياسية للدولة ومؤثرة في صنع القرار وتحديد السياسة الداخلية والخارجية للدولة فقط عند اكتسابها صفة الطرف الفيدرالي، من هنا ازدياد عدد الولايت المتحدة الامريكية من ثلاث عشرة الى خمسين ولاية حيث اكتسبت المساحات المحررة الواحدة تلو الاخرى صفة الولاية الفيدرالية. ذات الشئ ممكن ملاحظته في تاريخ تطور البناء الفيدرالي لاستراليا وكندا والبرازيل. اما في المكسيك فأن اخر وحدتين اداريتين تمكنتا من اكتساب صفة الطرف الفيدرالي في عام 1974 بمناسبة الذكرى الخامسة عشرة لقيام دولة المكسيك. وفي البرازيل انجزت عملية عملية اعتبار الوحدات الادارية اقاليما فيدرالية فقط بعد اتخاذ الدستور الاخير للدولة في العام 1988. غير ان اكتساب صفة الطرف الفيدرالي تبدو صعبة المنال على الاقل في القريب المنظور بالنسبة لشريط القبائل في باكستان ربما بسبب تخلف تلك الوحدات وعدم توفر الامكانية لان ترقى القبائل القاطنة في تلك الوحدات الى مستوى الادارة الذاتية وانشاء اجهزة محلية للدولة فيها. وهذا ما ينطبق ايضا على الجزر الصغيرة المنتشرة بالقرب من الشواطئ الهندية والتي تتم ادارتها من قبل السلطات المركزية في الهند. فيما تفتقد الكثير من عواصم الدول الفيدرالية ليس للاسباب التي ذكرت بالنسبة لشريط قبائل باكستان او جزر الشواطئ الهندية، وانما لاعطاء العاصمة طابع الشمول وتأكيد عائديتها لجميع اطراف الدولة ومنحها وضعا قانونيا مميزا حيث يطلق على تلك الوحدات (العواصم السياسية منها والاقتصادية، وحتى الثقافية) بالمدن (الوحدات) الاتحادية ( دلهي في الهند وكولومبيا في الولايات المتحدة الامريكية ).
ونحن بصدد الحديث عن الاهمية الكبيرة لاكتساب وحدات الدولة صفة الطرف الفيدرالي لابد من التذكير بان تاريخ الدول الفيدرالية شهد تطورا معاكسا، حيث فقدت الكثير من الاطراف الفيدرالية (وحتى الجمهوريات) صفتها القانونية كطرف فيدرالي، ما ادى الى التقليل من اهميتها كاحد مكونات الدولة الفيدرالية. ويمكن ملاحظة ذلك في البلدان النامية التي شهدت تحولا جذريا في شكل الدولة (المساحاتي) اذ تحولت من الفيدرالية الى الشكل البسيط للدولة (كينيا واندونوسيا وليبيا...الخ). وكان لسلب جمهورية كوريليا ذات الحكم الذاتي ضمن جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق واعتبارها جمهورية ذات حكم ذاتي ضمن جمهورية روسيا السوفيتية اثره في التقليل من اهميتها كطرف فيدرالي في دولة عظمى. لكن تحوّل الوحدات الادارية او افتقارها الى صفة الطرف الفيدرالي يصب، في حالات كثيرة، في مصلحة مواطني تلك الوحدات، وخصوصا اذا ما كانت تلك الوحدات ضعيفة اقتصاديا حيث يزيد افتقارها لصفة الطرف الفيدرالي من التزام السلطات المركزية في الدولة تجاه مواطني تلك الوحدات وما يترتب على ذلك من الارتفاع بواقعها الاقتصادي وتامين اعمارها وتطوير البنية التحتية فيها على حساب الميزانية المركزية للدولة الفيدرالية وتخفيض الضرائب الاتحادية المترتبة على مواطنيها ومؤسساتها، وغيرها من الاجراءات التي من شأنها التخفيف من اعباء تلك الوحدات. وسواءا كان تغيير الصفة القانونية للاقاليم الفيدرالية وسلبه تلك الصفة يصب في مصلحة الوحدة او الوحدات الادارية المنبثقة عن ذلك الطرف (في حال تشظي الطرف الفيدرالي الى وحدات مختلفة على شاكلة المحافظات والاقضية والدوائر...الخ)، فان دراسة مستفيضة واجراءات تمهيدية ينبغي ان تسبق خطوّة التغيير تلك، بما في ذلك الاعداد النفسي لمواطني تلك الاطراف واقناعهم باهمية التغيير وفوائده ومبررات القيام به، ذلك ان الانتقال من شكل للطرف الفيدرالي الى شكل آخر، حتى وان بدى من حيث الجوهر مفيدا، فان افرازاته اللاحقة قد تشكل تهديدا لوحدة الدولة ذاتها، خصوصا اذا ما جوبه التغيير بمعارضة الدوائر المسؤولة في تلك الوحدات، والتي ترى في التغيير تهديدا لمصلحتها الذاتية.
ان تمتع المكونات الاساسية للدولة الفيدرالية من جمهوريات وولايات واقاليم ودوائر فيدرالية وغيرها بصفة الطرف الفيدرالي وافتقار غيرها لهذه الصفة لا تعني البته منح تلك الاطراف الصلاحية الكاملة بالتعامل مع الاقليات الاثنية والقومية الصغيرة القاطنة ضمن حدود تلك الاطراف. حتى ان الكثير من الدول الفيدرالية ذهبت الى تنظيم شؤون الكثير من تلك المجموعات بواسطة التشريعات المركزية (الفيدرالية) وذلك بهدف حمايتها من التعسف المحتمل من قبل سلطات الاقاليم. وهذا ما يمكن العثور عليه في التشريعات الخاصة بتنظيم حياة قبائل الهنود في كل من الولايات المتحدة الامريكية وكندا، وبقايا السكان الاصليين لاستراليا. اما في البرازيل والمكسيك وبعض دول امريكا اللاتينية فقد سنت تشريعات خاصة لحماية حقوق الهنود الحمر والحفاظ ورعاية نمط حياتهم التقليدي. فيما تساعد السلطات المركزية (الاتحادية) على رعاية مجالس القبائل ولجانها المختلفة كشكل من اشكال الادارة الذاتية لتلك المجاميع الاثنية والقبائلية، والتي تعتبر اعرافها مصدرا مهما من مصادر المنظومة القانونية لتلك المكونات وخصوصا في مجال الاحوال الشخصية.
انني ارى ان المرحلة الراهنة التي يمر بها العراق تتطلب، بالدرجة الاولى وقبل كل شئ، انجاز مهمات بناء الدولة المركزية وتعزيز مؤسساتها التي بامكانها التغلب على اشكالات المرحلة الانتقالية واعتماد تشريعات تتناسب مع حالة الطوارئ التي تمر بها البلاد حاليا، واحالة المسائل الاكثر حساسية الى المؤسسات التشريعية اللاحقة والتي سيكون الطعن بمقرراتها امرا اكثر صعوبة وغير مبرر ايضا.
د. فــلاح اســـماعـيل حــاجــم
*- استاذ جامعي متخصص بالقانون الدستوري