الهجرة إلى الخارج بين إستراتيجية الصمود وآليات المواجهة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
لقد أصدرت رابطة علماء فلسطين بتاريخ 30 إبريل 2007م فتوى شرعية تؤكد حرمة هجرة المواطنين لاسيما الشباب منهم لوطنهم فلسطين. وقد جاءت هذه الفتوى لمواجهة ظاهرة الهجرة التي تشهدتها الأراضي الفلسطينية والتي تفاقمت بشكل كبير في الشهور السابقة. وتعد هذه الفتوى على قدر كبير من الأهمية بالرغم من تأخر صدورها.
وقد أدركنا أهمية هذا الموضوع وخطورته على مستقبل الوطن والقضية لذلك قمنا في شهر مارس بالدعوة لعقد ندوة للحديث عن هذا الموضوع. وقد استجاب الأستاذ والمفكر الفلسطيني عبد الله الحوراني _ الرئيس السابق للدائرة الثقافية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ورئيس التجمع الشعبي للدفاع عن حق العودة لهذه الدعوة. وتم عقد ندوة في قاعة المركز القومي للدراسات والتوثيق في الأول من إبريل 2007م تحت عنوان "تأثيرات الواقع الفلسطيني الراهن على هجرة الشباب والكفاءات" في الذكرى الحادية والثلاثين ليوم الأرض الخالد. وقد قدمت في الندوة ورقة بحثية ننشرها هنا دعماً لقضية وطننا، وتعزيزاً لروح الصمود على أرضه.
إن ظاهرة الهجرة أي انتقال الإنسان من مكان لأخر هي ظاهرة إنسانية عامة رافقت الوجود البشري منذ نشأته الأولى. حيث كان تنقل الإنسان وراء الصيد ولاحقاً بحثاً عن الكلأ. ولذلك ارتبطت الهجرة بعوامل اقتصادية، إضافة إلى البحث عن الأمن. وبالرغم من كون ظاهرة الهجرة ظاهرة اجتماعية ترتبط بجميع المجتمعات الإنسانية إلا أنها تتميز في فلسطين بخصوصية كبيرة، ولها تداعيات سياسية خطيرة. فجوهر الفكر الصهيوني يقوم على أساس استيطان الأرض وإحلال شعب محل شعب. ومن هنا فإن الصراع القائم يتخذ أبعاداً ديموغرافية.
ومن هنا فإن ظاهرة الهجرة إلى الخارج أصبحت ظاهرة عامة تستدعى التوقف ملياً عندها في محاولة لإبراز أسبابها وأشكاله ونتائجها. حيث من الواضح أن نتائجها وخيمة على مستقبل وطننا ومستقبل قضيتنا العادلة. فالوطن الفلسطيني والقضية الفلسطينية لها خصوصية في هذا المجال لأن ما يواجهها هو خطاب صهيوني قائم على أن هذه الأرض هي للشعب اليهودي، و"أنها أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". فالوطن الفلسطيني لا يواجه استعمارً تقليدياً بل استعمارً استيطانياً يقوم على السيطرة على الأرض وتفريغها من سكانها وإحلال عناصر غريبة محل سكانها الأصليين. ولذلك فقد تكون تصطبغ ظاهرة الهجرة في أي بلد غير فلسطين بصبغة اجتماعية ولكنها في فلسطين ذات أبعاد سياسية في جوهرها ونتائجها. حيث أنها في النهاية تخدم المشروع الصهيوني وتساهم في نجاحه. ومن هنا فإن هذا الظاهرة تشكل تهديداً للأمن الفلسطيني، ومستقبل وجوده على هذه الأرض. ولذلك فإن ظاهرة الهجرة لاسيما هجرة الأكاديميين والكفاءات أي هجرة العقول التي تشكل قوى التغيير والتنمية في المجتمع في جميع مجالاته. تستدعى جهود الجميع من مسئولين حكوميين، وقيادات سياسية وفصائلية، ومؤسسات المجتمع المدني، هذا إضافة إلى الجامعات لمواجهتها والحد من نتائجها الكارثية. فقد كان يتوجب على السلطة الفلسطينية استقطاب الكفاءات الفلسطينية من الخارج وتوظيفها في بناء نواة الدولة الفلسطينية القادرة على مواجهة التحديات الذاتية والموضوعية، ولكن افتقار السلطة الفلسطينية إلى رؤية واستراتيجيه أدى إلى عدم توفير بيئة مناسبة. وبدل أن تكون السلطة الفلسطينية جهة جاذبة للكفاءات الفلسطينية اللاجئة والمشتتة في الخارج أصبح جهة طاردة للكفاءات مما يعني إفقاد السلطة الطاقات البشرية اللازمة لتطويرها خدمة للمشروع الوطني الفلسطيني الذي هو بحاجة لجميع أبناء الشعب الفلسطيني كل في مجاله. وبالطبع فشلت السلطة في ذلك لأسباب ذاتية وأسباب موضوعية خارجة عن إرادتها. وأخطر مظاهر الهجرة الآن هي تحولها إلى ثقافة وحديث يومي لا تنقطع عنه المجالس الخاصة أو العامة. ونحن نطمح من هذه الورقة البحثية تلمس بعض الآليات التي تساهم في مواجهة هذا الظاهرة وتعزيز إستراتيجية الصمود.
- إقامة مراكز بحثية تقوم بدراسة هذه الظاهرة دراسة علمية تحليلية، وتشخيص جوانبها المختلفة، وإقامة بنك معلومات يتناول أعداد المهاجرين، واتجاه هجرتهم. فالمعلومات المتوفرة قليلة وتعتمد على تصريحات صحفية أكثر منها إحصاءات علمية موثقة. حيث تشير التقارير الصحفية أن هناك ما بين 40 إلى 50 ألف طلب هجرة أمام الممثليات والقناصل الأجنبية قبل منها منذ حزيران 2006م عشرة آلاف طلب. وهنا لابد من الإشارة أنه يجب على وزارتي الداخلية والخارجية استحداث دوائر لديها لتوفير البيانات اللازمة حول أعداد المهاجرين بناء على سجلات المعابر، وسجلات الدول المضيفة لاسيما الدول الأوروبية. وأن تقوم السفارات والممثليات الفلسطينية بالخارج بدورها في هذا المجال الذي يعتبر جزءاً من الأمن القومي الفلسطيني.
- إقامة وزارة لشؤون اللاجئين والمغتربين، وقد اشتملت الحكومة السابقة على مثل هذه الوزارة، ولكن تم إلغاء هذه الوزارة في الحكومة الحالية. كذلك يمكن تفعيل دائرة شؤون اللاجئين في منظمة التحرير الفلسطينية، وأن تأخذ دورها كما ينبغي في هذا المجال. وتعمل على التواصل مع اللاجئين خارج الوطن وتساعد في عملية إعادتهم إلى فلسطين. ومحاولة الإبقاء على صلات مع الجاليات العربية في الدول الأوروبية والعمل على تشجيع زيارات أبناء الجاليات لفلسطين لتعميق الصلة وتعزيز الرابطة بينهم وبين وطنهم الأم.
- تعزيز الثقافة الوطنية من خلال برنامج وطني شامل يبدأ بالمراحل الدراسية الأولى، ويمتد حتى المرحلة الجامعية. حيث تشارك المؤسسات الحكومية وغير الحكومية في هذا البرنامج في عملية تعبئة وطنية عامة يعزز من خلالها مفاهيم الانتماء للأرض والقضية على الصعيد الوطني والديني. حيث لابد أن تشارك المؤسسات الدينية في تبني خطاباً دينياً يقوم على غرس الانتماء والرباط في الوطن مستندين بذلك على النص الديني في القرآن والحديث. وتقوية المنظومة القيمية المجتمعية للتكافل والتضامن. وربما تأتي فتوى رابطة علماء الدين في هذا السياق حيث نصت الفتوى على " إن الحكم الشرعي في هذه الحالة أنه لا يجوز شرعاً لأي من أبناء شعبنا المرابط هجرة الوطن لدولة أجنبية، لأنه بمثابة التولي يوم الزحف إلا لمبرر شرعي كالتعليم والعلاج وغيره وبنية العودة للوطن والأهل".
- مواجهة المشكلات القائمة في المجتمع مثل مشكلة الانفلات الأمني. حيث نعتقد أن الانفلات الأمني يعد من الأسباب الرئيسة لارتفاع وتيرة الهجرة للخارج. فالموطن الفلسطيني قد واجه سابقاً الإجراءات الإسرائيلية القمعية، وتحمل الاحتلال ولكن الأكثر إيلاماً للمواطن الفلسطيني هو انعدام أمنه الشخصي من الداخل حيث أصبح الموطن يخشى الخروج من منزله بسبب الصراع الداخلي الذي يشكل استنزافاً داخلياً للمجتمع الفلسطيني. ولذلك فإن إنهاء حالة الفلتان الأمني يعد من أهم الإجراءات لمواجهة التدهور الأمني الداخلي، ويعزز مقومات الصمود. ولا بد من الحديث هنا عن مبدأ سيادة القانون، حيث لا يكون ذلك إلا باحترام القانون، وأن يكون الجميع متساوين أمامه. ويكون ذلك بإقامة جهاز قضائي قوي. فالقضية هنا ليس تعدد وكثرة الأجهزة والقوى الأمنية، بل في السهر على تطبيق القانون.
- إيجاد الحلول المناسبة للمشاكل الاقتصادية القائمة حيث أن الأوضاع الاقتصادية التي شهدتها الأراضي الفلسطينية في السنوات السابقة قد ساهمت في ارتفاع وتيرة الهجرة التي ازدادت بالطبع في السنة الماضية بحثاً عن الأمن المعيشي، واعتقد أنها قد وصلت إلى معدلات غير مسبوقة بسبب حالة الحصار التي واجهة شعبنا الفلسطيني بعد الانتخابات التشريعية الثانية. حيث أن عدم انتظام الراتب ساهم في الإجهاز على مدخرات الأسر الفلسطينية وجعل نحو 70% يعيشون تحت خط الفقر، ودفع نحو 83% من الأسر الفلسطينية إلى تقليص. وأدى ذلك إلى هجرة الكفاءات إلى الخارج بعد انخفاض مستوى المعيشة إلى أدنى حد له منذ سنوات. وكذلك وجه الحصار ضربة كبيرة للقطاع الخاص الفلسطيني حيث ساهم في فشل الكثير من المشاريع الصغيرة، وبالتالي هروب رؤوس الأموال إلى الخارج حيث أن من المعروف أن "رأس المال جبان". ولذلك فلا بد أن تقوم الحكومة الجديدة بخطة طموحة لفك الحصار القائم، وتعزيز الاستثمار في الأراضي الفلسطيني. حيث يمكن القيام بمشاريع مدعومة من قبل الاتحاد الأوروبي لتشغيل الأيدي العاملة، وجلب رؤوس أموال عربية وفلسطينية. فقطاع غزة مكتظ بالأيدي العاملة ويمكن أيجاد نماذج دولية في كيفية استثمار القوى البشرية. فيمكن القول إنه في حالة عدم إحراز أي تقدم سياسي فإن الأولوية يجب أن تتجه نحو تعزيز الصمود. حيث بعد تعزيز صمود شعبنا في أرضه أهم الانجازات الوطنية السياسية في المرحلة الراهنة. وعلى الصعيد الاقتصادي يمكن تطبيق نظام الإعارة إلى الدول العربية حيث يتم من خلال ذلك خلق فرص جديدة للخريجين الجدد. أو تخفيض سن التقاعد إلى سن 58 سنة بحيث يتيح ذلك فرص عمل جديدة للشباب.
- يعد واضحاً أن أبرز فئة تقدم على الهجرة هي فئة الشباب ولذلك لابد تضافر مؤسسات المجتمع الفلسطيني حكومية أو غير حكومية في تعزيز صمود الشباب الفلسطيني من خلال تخفيف حدة مشكلة البطالة وتوفير فرص عمل للخريجين الجامعيين بالرغم من إدراكنا بمحدودية الفرص في قطاع غزة، والإشكالية الكبيرة في سوق العمل. حيث يجب أن نوفر للشباب فرص العمل وخلق الأمل في نفوسهم. حيث أن شعور الشباب بالإحباط والتهميش واليأس من دوافع هجرته للخارج.
- يمكن هنا أن تقوم السلطة مستقبلاً بعملية نقل سكاني للضفة الغربية من أجل تعزيز الصمود هناك، وكذلك مواجهة النشاط الاستيطاني هناك، ونقل المقاومة من غزة إلى الضفة لاستكمال المشروع التحرري هناك. حيث أن قطاع عزة مكتظ على صعيد ديموغرافي وتصل الكثافة السكانية إلى أعلى نسبة في العالم.
- يمكن أن يتم تشجيع الشباب من قطاع غزة والضفة الغربية على الزواج من فتيات من فلسطيني 1948م حيث يساهم ذلك في زيادة الترابط بين أطراف الوطن. ويساعد ذلك على تعزيز حق العودة، ومحاولة إفشال المخطط الإسرائيلي القائم على يهودية الدولة، والتخلص من الأقلية العربية فيها. وقد أشارت إحصاءات إسرائيلية في العام المنصرم أن هناك نحو عشرة آلاف فلسطيني قد تزوجوا من فتيات من فلسطيني 1948م منذ سنة 1989م (أي بعد تطبيق سياسة البطاقات الممغنطة)
- دمقرطة المجتمع الفلسطيني، حيث أن النمط السلطوي الذي يسود البنية الاجتماعية ابتدأ من الأسرة حتى الجامعة يساهم في تراجع هامش الحرية الشخصية ويدفع العديدين إلى الهجرة بحثاً عن نمط ديمقراطي اجتماعي وسياسي يعيش في كنفه. وهنا لا بد من الإشارة أن كثيراً من الطلبة الذين يدرسون في دول أجنبية لا يعودون إلى وطنهم بعد الدراسة بعد أن عاشوا في مجتمع ديمقراطي يعطي هامش كبير للحرية الشخصية والإبداع في مقابل مجتمع مغلق محافظ سلطوي. فنحن في مجتمع نعيش من أجل الغير في كل سلوك أو تصرف. وتسود علاقاتنا المثل الشعبي القائل "شو يقول عنا الناس". ولذلك أرى أن اتجاه المجتمع نحو الأصولية لن يساهم في عملية الصمود على العكس سوف يؤدي إلى مزيد من الهجرة. فالتعصب الفئوي والانقسام الثنائي الحاد في المجتمع سوف يضعف من بنية المجتمع. ومن هنا فإن تعزيز مفهوم المواطنة يمكن أن يساهم في تقديم حلول للمشكلة.
- استعادة الثقة بين المواطن وقيادته فما يحدث الآن هو أزمة ثقة عميقة بين المواطن وقيادته السياسية، وفقدانه الثقة في إمكانية تحقيق هذه القيادة إي إنجاز على الصعيد السياسي والمقاوم. حيث أن هناك حالة من الشعور والإحباط تسود أوساط الشباب من انحراف المشروع الوطني عن مساره، وان أحد مظاهر ذلك هو الصراع الداخلي. ولذلك هناك شعور متنامي نحو تأزم الأفق السياسي وفي الوقت نفسه تأزم المشروع المقاوم.
- استعادة المنظومة القيمة للمجتمع، فما نحن بصدده هنا هو مجتمع فقد منظومته القيمية. فهناك ازدواجية بل تناقض على مستوى القول والفعل. فبينما نحن نقدم أنفسنا كمجتمع وطني ومسلم نرى أن هناك فساد كبير في المجتمع، فهناك الرشوة والمحسوبية، ونفاق مجتمعي وديني.
وأخيراً وليس أخراً فإن ظاهرة الهجرة يجب أن تعالج بشكل عملي بعيداً عن الخطب الرنانة والفتاوى الدينية فقط حيث يجب أن يشترك الجميع في تشخيص أسبابها والبحث في كيفية مواجهتها من خلال القضاء على هذه الأسباب وتجفيف مواطن الضعف والقصور في مجتمعنا.
د. خالد محمد صافي