أصداء

العُمر وبريق الغوايات

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

حينما بلغت السنة الأولى بعد الأربعين من عمري قبل أربعة أعوام، أحسستُ حينها بأن أربعةً من العقود قد مرّت وكأنها لحظة خاطفة انسلت سريعاً من أعطاف الذاكرة، ولا أدري لماذا شعرتُ فجأةً بأن مرحلة ما بعد الأربعين من العمر تختلف عن سابقاتها، ربما لأن العمر فيها يمضي ببريق الغوايات أكثر من أي شيء آخر..

وحينما يتقدم بنا العمر إلى مرحلة ما بعد الأربعين قد نشعر معه بالخسارات والفقد أكثرَ من الاحتفاء بزهو الانتصارات، ربما لأننا قد خسرنا أشياءً كنا نحتفي بها على طريقتنا الخاصة حينما كنا في مقتبل العمر وفي البواكير من الحلم والتطلعات، حيث منبع الدهشة في هذه المراحل يبقى دافعاً لنا للاحتفاء المبهر بها ونحن نستهل مشوار العمر بالخطوات البكر، الخالية من ثقل الحياة وأثقال الذاكرة وتزاحم المخزون المعرفي..

وعندما نشعر بأن العمرَ أصبح يمضي بنا بعيداً طاوياً معه السنين والأيام تباعاً، ترافقه في الآن نفسه خساراتنا الموجعة وانتصاراتنا الشهية، في خضم هذا الالتباس الشعوري بالتداخل التركيبي بين مراحل العمر، ربما نريد من العمر أن يتوقف عند لحظةٍ معينة هي اللحظة التي نحسُّ بأنها البداية والنهاية، وقد نمنّي النفسَ بذلك دوماً، ولكنه يمضي بنا إلى حيث نريد وإلى حيث لا نريد، ولذلك دائماً ما أعتقد بأن العمر مهما طالَ بالإنسان فليس هو المشكلة، إنما المشكلة حينما نحسُّ بهِ ونحس بأنه قد أخذنا بعيداً في دروبه العسيرة..

بالضبط حينما تسألكَ فتاة حسناء : كم عمرك ؟!

حينها تشعرُ بأن العمر أصبح مشكلة لأن عليكَ أن تتذكر عمرك جيداً، فترغمكَ بسؤالها المباغت على الإحساس به، شخصياً لا أتذكر عمري إلا حينما تُفاجئني زوجتي العزيزة بهدية جميلة في عيد ميلادي، ولكي أثبتُ لها بأني ما زلت شاباً في مقتبل العمر والسنوات الأربعون لم تستطع أن تنال مني شيئاً، أذكرها بقدرتي إلى الآن على انتزاع نظرة إعجابٍ من فتاة في العشرين من عمرها، وبدورها تذكرني بذلك اليوم الذي وقعتْ فيه أسيرةً لحبها لي ولم تكن حينها قد تجاوزت الثامنة عشرة من عمرها، ولكنها في الوقت نفسه تحذرني من مغبة الانسياق خلف أوهامي مُذكرةً إياي بلهيب الغيرة وبأن النار ستحرق من يلعب بها..

إن تقادم العمر مهما بلغ، يجب ألا يجعلكَ بأن تحس أنه قد أصبح يشكل عبئاً نفسياً أو جسدياً عليك، ولطالما كان العمر بالنسبة لي تجربة على إثر تجربة وخطوة تعقبها خطوة وفكرة تواصل اكتمالها من دون أن تتشرذم في حطام الذاكرة أو أن تصبح رماداً في هشيم السنين والأيام، ولطالما اعتبرته جسراً أعبره بكل التفاؤل الذي يحدوني، وهبةً منحتني إياها السماء وبدوري أمنحهُ بكل غواية الأمل والحلم الشهي لنفسي ولمن حولي ولكل من يحبني وأحبه، ومتى ما أحسسنا بأن علينا أن نقلق من تواتر الأيام وتقادم العمر سنصاب بعقدٍ عدة، تكبلنا عن مواصلة العمر بروح وثابة وإرادة خلاقة، وفي هذا المجال أتذكر صديقاً كانت تبدو عليه علامات القلق من تواتر الأيام وتصاريف العمر، فذكّرتهُ بعبارة كنت قد سمعتها ذات يوم ( اليوم هو الغد الذي كنت قلِقاً منه بالأمس فهل يستحق كل هذا القلق )، وهكذا ربما علينا أن نعيش يومنا بدون قلق والذي هو كان أمسنا فعلاً وكان في حساب العمر هو الغد..

ولكن دعونا من كل ما سبق، ربما علينا أن نذهب في اتجاه آخر حين الحديث عن العمر، ربما علينا أن نفلسف حيثيات العلاقة الخاصة بين الإنسان وعمره، وكيف يمضي العمر بالغوايات، ليصبح حينها شهياً وممتعاً للتواصل الحميمي معه..

هل جربَ أحدكم حينما يتسرب إليه اليأس والاحباط، كيف يصبح العمر بالنسبة له كئيباً ومملاً، ومفسداً عليه بالتالي متعة التعايش الجميل مع الحياة، في الحقيقة لا أعتقد أن الإنسان عموماً بطبعه يهوى الغرق في اليأس أو الاحباط أو الملل، بل لأنه أصبح لا يملكُ إجابات وافية ومنطقية وعقلانية على أسئلة العمر الحائرة والمستعصية الكثيرة، فيقف أمامها مستسلماً لا يملك الخروج من حصارها المحكم والمتكرر والضاغط حيناً بعد حين، فيقع في مستنقع اليأس والاحباط من العمر، فالإنسان عادةً ما تدفعه الرغبة دائماً لتفسير الأشياء والظواهر من حوله، ويفضّل بطبيعة الحال على المستوى العقلي والتفكيري أن يجد لها تفسيراً منطقياً وعقلانياً وواقعياً لكي يشعر بأهميتها أو بمستوياتها التأثيرية والتجاذبية على حياته ومراحل عمره، وربما من الضرورة أن يكون تفسيره للأشياء والظواهر ذاتياً وليسَ استيراداً أو تقيلداً، لأنه يحبذ أن يجد نفسه في المكان الذي يريد أن يكون فيه ( ثق بنفسك، فكر لنفسك، اعمل لنفسك، تكلم لنفسك، وكن نفسك، التقليد هو انتحار ) كما تقول المعلمة المبدعة مارفا كولينز، فحينما يعجز الإنسان عن موافاة تلك الأسئلة بإجابات ذاتية مقنعة قد يقع فريسة لليأس والاحباط والخيبة، ولكن هذا الأمر لا يعني أن الإنسان دائماً يجب أن يملك الإجابات الجاهزة والحاضرة لكل الأسئلة أو حتى لبعضها، تلك التي لا تلبث أن تحاصره أو تباغته أو تلاحقه، فالجهل بالأشياء في كثيرٍ من الأحيان، مصدر بحث وتحول وتغير للإنسان، من جهة أن ذلك يشكل له دافعاً حقيقياً لمعرفتها والتواصل معها، والإنسان عموماً أوجد الحضارة والعلوم والفنون وطرائق الحياة المختلفة انطلاقاً من الجهل بها ومنحها بعد ذلك أشكالاً حياتية وتفسيرية، وأنماطاً معيشية واتجاهات معرفية وفلسفات فكرية، ولذلك قد نفهم إصرار الإنسان على أن يعيش عمره مندفعاً دائماً بغواية الاستكشاف والبحث عن بعض الإجابات على أسئلة الحياة المستعصية، فذلك قد يمنحه بعضاً من الشعور بالارتواء النفسي وشيئاً من لذة الانتصار الذاتي وجزءاً من الاطمئنان الداخلي، لأنه أخذَ يواجه اليأس والاحباط والملل بعشقه الدائم لغواية البحث والاكتشاف واقتحام المجهول والمخفي والممنوع، وليس شرطاً بطبيعة الحال أن يحقق بتلك الغواية الاستكشافية المحفزة والمثيرة، ما يشبع بها شغفه المعرفي بقدر ما يمنحه ذلك متعة التواصل التفكيري والتأملي مع العالم المتحرك والمتغير من حوله..

وربما حينما نفقد بريق الحلم وغوايته المثيرة نقع سريعاً في مصائد الكآبة والملل، ونفقد معهما متعة الاحساس بروعة الحياة، لتمضي بنا أيام العمر رتيبة وقاسية وجامدة، فما يُبقي الإنسان على تواصله الحي والرائع والممتع والشهي مع الحياة وحركتها الدائمة، اشتعاله المتوهج بشهوة الحلم وغوايتها الحثيثة التي لا تنفك أن تراوده بين الحين والآخر دافعة به نحو صناعة الحلم والرغبة في تحقيقه والإيمان عميقاً بوجوده بين خافقيه ( لا يوجد شيء كما يوجد الشيء الذي آمنا بوجوده ) كما يقول الروائي المبدع إبراهيم الكوني..

وعادةً ما يردد الكثيرون منا، بأن العمر يمضي سريعاً من دون أن يترك لنا سبيلاً لترتيب حياتنا، أو من دون أن يدعنا نتريث في تأثيث حياتنا كما نشتهي ونريد، وانطلاقاً من تلك الهواجس التي قد تكون مشروعة للبعض منا، ربما علينا أن نتساءل بجدية : هل العمر يسرقُ منا من دون أن نشعر أو نحس حقنا الطبيعي في ترتيب حياتنا ؟! لا أدري بالضبط كيف يحدث ذلك، ولكن ماذا لو أعطانا العمر فرصة كاملة للعودة مجدداً إلى مرحلة ما من حياتنا لمعادوة ترتيبها كما نشتهي ونريد، فهل سنعمل على اقتناص تلك الفرصة أم نبقى نتحجج بقسوة العمر في عدم مبالاته بنا وعدم التفاته إلينا، يقيناً فإن العمر لا يتوقف لأيِّ كان ويتركه لكي يحل مشاكله وبعدها يستأنف مواصلة حياته، وحينما نغرق في معاقرة الحياة بطريقة جامدة وسطحية ورتيبة وروتينية واعتيادية فجأةً نصحو على حقيقة فادحة الألم، كيف أخذَ العمر يتسرب من بين أيدينا يصحبُ معه الخسارات والخيبات والانكسارات والأوجاع، ولم تعد لها ذات معنى في نظرنا وتصبح بالتالي بالنسبة لنا عديمة الفائدة والجدوى، لأننا لم نقترفها مسكونينَ بالغوايات المثيرة، غواية الاستكشاف والبحث والمجازفة ( وحدهم الذين يقومون بالمجازفة يمكن أن يكتشفوا إلى أي مدى يمكنهم البلوغ ) كما يقول الشاعر الانجليزي إليوت، ولم نقترفها بالخيالات الشهية المحفزة ( الخيال أهم من المعرفة ) كما يخبرنا عن ذلك انشتاين، وربما حتى لم نحاول أن نقترفها بالأحلام الممكنة فضلاً عن الرغبة في التشبث بالمستحيلة منها، ولماذا نعمد دائماً إلى تشويه أجمل ما في العمر بغبائنا، أوليست بعض أخطاء العمر الفادحة سلسلة من تراكم خطواتنا الغبية، ومتى ما منحنا العمر ما يليق به من اهتمامنا وأضفينا عليه لوناً خاصاً يعكس متعتنا الذاتية في التواصل الخلاق والجمالي مع مراحله وغواياته وتحولاته وحتى مع أشيائه الصغيرة، ربما حينها لن نطلب من العمر أن يمنحنا في مقابل ذلك حقاً لا نستحقه بالعودة بنا الى الوراء، وربما نخلص بعدها إلى نتيجة مؤكدة : أنه من العبث أن ننفق العمر في التفاهات والمتاهات والانكسارات والتأوهات والخيبات..

محمود كرم

كاتب كويتي

tloo1@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف