سلام طائفي صباح جديد!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
الحروب الطائفية عادة ما توصف من خلال عمق تاريخي بعيد ينادي بأسماء أفراد خلدهم التاريخ وأحداث انتهت وانقضت ، ولكنها في ضمير الأحياء ذاكرة قريبة تطوي مئات السنين وكأن صراعاتها وحروبها حدثت بالأمس القريب أو أن أبطالها اليوم ماتوا أو غدا سيدفنون. القتل على الهوية والاستهداف الطائفي يسمم البيئة ويفضي إلى الآلام. ربما كان الدين هو الدين ، يوحدهم إله واحد وعقيدة خالصة وعبادة باقية ، ولكن تفرقهم مذاهب متصارعة وطقوس متباينة وشعارات غاضبة. السنين تجر وراءها السنين وإن لم يكن الصراع قاتلا والغضب دمويا فيبقى الألم متأججا والضغينة حية تعيش تحت السطح تنتظر شرارة الطائفية لتلتهم حسن النية واللمسات الإنسانية.
وصفي للصراع الطائفي ليس إنشائيا فقط فالأطفال يتيتمون والنساء تترملن والرجال يتألمون. الخوف من الغد وجبة مسائية فربما تجلب معها آلاما جديد. خوف وألم لمن يعيش داخل دوامة الصراع ، وللعالم الخارجي حسرة على انحدار الإنسانية. فهل هناك أمل؟ الأمل موجود وصراع السنين حول الهوية الدينية ربما ينتهي. نعم ينتهي! لقد حدث ذلك بالفعل الأسبوع الماضي! فبعد مئات السنين من الصراع الطائفي وثلاثين عاما من المصالحة ، حدث الاتفاق أخيرا الأسبوع الماضي ... بين البروتستانت والكاثوليك في أيرلندا الشمالية! ، نعم ، أنا أتحدث عن أيرلندا الشمالية وليس عن العراق مباشرة ، إنني أتحدث عنها من خلال أيرلندا ... اسمحوا لي أن أتابع ... أعدكم بأن أكون مقتضبا.
لقد حكم الإنجليز أيرلندا لعدة قرون وفي بعض الحقب استخدموا العنف لإخماد الثورات والقلاقل. في القرن السابع عشر أتى الإنجليز بآلاف البروتستنتيين من اسكتلندا وإنجلترا للاستيطان في أيرلندا حيث كان معظم سكانها من الكاثوليك. أختصر عليكم الزمن إلى التاريخ المعاصر وتحديدا إلى النصف الأول من القرن العشرين المنصرم حين بدأت المقاطعات الأيرلندية الغربية والجنوبية الست والعشرين بالاستقلال عن التاج البريطاني الواحدة تلو الأخرى لتتحد وتكون ما أصبح معروفا اليوم باسم جمهورية أيرلندا. بقي الصراع محتدما في الشمال الشرقي للجزيرة الأيرلندية - التابع للمملكة المتحدة - بين بروتستانت مؤيدون لاستمرار الوحدة مع بريطانيا وكاثوليك يصرون على الانضمام إلى جمهورية أيرلندا. لقد لجأ الكاثوليك إلى العنف من خلال تنظيم سمي بـ "الجيش الجمهوري الأيرلندي" والذي بدأ بتنفيذ عمليات إرهابية ضد الحكومة البريطانية. لقد كانت نهاية ذلك الإرهاب بعيدة المنال واستمرت كذلك لسنين عديدة.
الأسبوع الماضي ، ظهر "إيان بريسلي" زعيم حزب الإتحاد الديمقراطي (الحزب البروتستنتي المؤيد للوحدة البريطانية) بجانب زعيم "الشين فين" "مارتين ماجينيس" (الانفصالي الكاثوليكي المؤيد للانضمام للجمهورية الأيرلندية) على مسرح واحد ليعلنا اتفاق السلام لشمال أيرلندا بتقليد "بريسلي" منصب الوزير الأول (رئيس الوزراء) و"ماجينيس" منصب نائب الوزير الأول (نائب رئيس الوزراء). وقد ذكر الصحفي "بيتر زيمونيك" في مقالة صحفية أن اتفاق السلام هذا "حقا معجزة".
إذا اعتبرنا ما حدث معجزة فما هي العظة والدروس. الدرس الذي يتعلمه المرء من هذا الاتفاق هو أن الصراع الطائفي لا ينتهي بمنتصر ومهزوم. ففي ظل عدم وجود حل عسكري للصراع فسينتهي الأمر إلى حالة من الفوضى الدموية تقذف بالدولة إلى دوامة العنف. الدرس الآخر هو أن الاتفاق لا يأتي من الخارج وإنما يصنع من قبل قادة ذوي بصيرة وحكمة قادرين على اتخاذ قرارات حازمة من أجل السلام بنفس الحزم الذي أخذوا به قراراتهم للإبقاء على العنف. المستغرب في حالة هذين الزعيمين أن الثقة بينهما كانت معدومة. سوف يضيف إلى مخزوننا المعرفي فهم تفاصيل التوصل إلى الاتفاق السلام هذا لمعرفة كيف تغلب الزعيمان على انعدام الثقة بينهما. بالطبع الثقة هي أساس مثل ذلك النوع من الاتفاقات بل إنها جزء أساسي في تحديد طبيعة العلاقات بين الناس على مستوى شخصي وبين الدول على مستوى العلاقات الدولية.
هناك عاملان أعانا الطرفين على تحقيق ما كان يبدو مستحيلا. العامل الأول هو ترك خيار الوساطة مفتوحا. وقد وظف رئيس الوزراء "توني بلير" ذلك الخيار جيدا بالعمل على التقريب بين الطرفين وتذليل العقبات التي وقفت في طريق التفاهم والنقاش بين الاثنين ، مع أنه يمثل أحد الطرفين وله موقف واضح بعدم السماح لأيرلندا الشمالية بالانفصال عن التاج البريطاني. ومع ذلك فقد تعامل "الشين فين" مع "بلير" وأعطوه فرصه صنع السلام. أما العامل الثاني فهو تقديم حسن النية قولا وفعلا. أعتقد أن ذلك من أصعب الأمور على المستوى الشخصي ، وهي أكثر صعوبة عندما تناط بك مسؤولية مجموعة من الناس يعولون عليك خيرا. تقديم حسن النية لطرف غير جدير بالثقة ربما يكون آخر خطأ يقوم به زعيم ما لأنه سيفقد ثقة من يقود على أقل تقدير. الوسيط عادة ما يساعد على تمهيد الطريق من أجل تكوين بيئة تساعد على بناء الثقة. هذا الاتفاق بين الطرفين يذكرني بالمثل القائل: "أنت كريم وإحنا بنستاهل".
أكاد أجزم هنا أن العامل الأساسي والأهم من بين جميع العوامل هو إدراك الطرفين بأن السلام هو الخيار الحقيقي أمامهما وأن الصراع لن يفضي إلى نتيجة إيجابية. فلم تكن هناك فرصة للبروتستانت في الانتصار على الكاثوليك ولا العكس وذلك ما أدركه الطرفان بعد صراع طويل استمر لمئات السنين ... الحكيم من اتعظ بغيره.
وليد جواد