مٌذكرات رجل محكوم عليه بالإعدام 3
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
هذه هي كل الأسباب التي تنتحلونها لعقوبة الإعدام قد تحطمت إذن، وهذا هو منطق ممثلي الإتهام بأسره قد أصبح عدماً، وهذه كل مرافعات النيابة قد فندت فصارت رماداً. أن أقل لمسة من المنطق لابد أن تذيب كل تفكير معوج.
فيكتور هوجو
إيماءاً إلى التعليقات التى وردت إلينا فى المقال السابق - والتى كانت فى حقيقة الأمر مُتوقعة ومُلأئمة لمسار طرح موضوعنا هذا إذ ان منطقها الأقناعى فى بقاء عقوبة الإعدام هو ذات المنطق الأقناعى الذى يضع العراقيل أمام إلغاء هذا القانون الجائر وبقاءه كضرورة مُلازمة لبقاء الإنسانية.. !!
وهى لا تختلف كثيراً فى إطارها عن النظريات المُتداولة فى شأن هذه العقوبة والتى سنعرضها لكم فى عجالة غير وافية ( قبل ان نتحفكم جميعاً بختام مُرافعة فيكتورهوجو المُذهلة وهى بمثابة لمسة المنطق التى ستزيل كل تفكير معوج )
النظرية الأولى : العقوبة كأستحقاق Retributive Theory
مبررات العقوبة في هذه النظرية هي الانتقام المطلق Lex taiois المُستخلص من مبدأ " العين بالعين والسن بالسن ".. و العقوبة هنا "استحقاق" تبررها مبادئ العدالة، مما يستوجب ان تكون مماثلة للفعل المرتكب، وتشبه العقوبة هنا بحالة الدفاع الشرعي. فكلاهما فعل قتل للفاعل، وبما ان الدفاع الشرعي هو فعل مباح فان عقوبة الأعدام بنفس المنزلة
وقد تبنى هذه النظرية الفيلسوف الألماني " كانت " Immanuel. Kant وقد نظر إلى الجريمة المُرتكبة باعتبارها عملاً لا أخلاقياً يستحق الشجب Emplatic Denuciation، فمن يلحق الألم بالآخرين، يستحق الألم، وان العقوبة "كاستحقاق" ضرورية وكافية ولا عبرة بنتائجها. ويرى "كانت"ان عقوبة الأعدام يجب ان تنفذ بحق القاتل حتى لو بقي لوحده على قيد الحياة في جزيرة قد تناثر أهلها بسبب غرقها أو تعرضها لأي كارثة أخرى.
النظرية الثانية : العقوبة كمنفعة Utilitarian Theory
وترى النظرية النفعية بان عقوبة الإعدام تؤدى إلى نتائج إيجابية فحواها :
أولا- الردع: وهو الحد من ارتكاب الجريمة من قبل المُدان ويدعى "بالردع الخاص" من جهة، وجعل المدان كمثال Example للأخرين لمنعهم من ارتكاب الجريمة ويدعى "بالردع العام ".
ثانيا- الإصلاح: بإعادة تأهيل المُدان إلى وضعه الطبيعي ومنسجما مع المجتمع من خلال البرامج والتعاليم الدينية والأخلاقية وتعليم الحرف المفيدة داخل السجن.
القاعدة الرئيسية التي ترتكز عليها هذه النظرية، هي حق المجتمع بحماية نفسه ومنع الجريمة عن طريق فرض العقوبة المناسبة بحق المُدان، لأن وجوده خارج السجن يشكل خطرا على المجتمع. وبنفس الوقت يقتضي ان لا تكون العقوبة قاسيه بحيث تؤثر على مشاعر المجتمع وعملية إصلاح المحكوم
النظرية الثالثة : نظرية الحل الوسط Compromise Theory
ومن أهم رواد هذه النظرية هو الفيلسوف البريطاني "هارت" H. Hart ولقد طرح الرجل ثلاثة اسئلة لغرض توضيح فكرته هي:
1- ما هي مبررات العقوبة؟
2- من يستحق العقوبة؟
3- كيف تحدد مقدار العقوبة؟
وأجاب "هارت" على أسئلته كما يلي:
1- مبررات العقوبة هي تحقيق المنفعة باحتواء الجريمة عن طريق الردع العام والخاص وإصلاح المحكوم.
2- استحقاق العقوبة أمر لابد منه لتحقيق العدالة. فالمسؤولية الجنائية للفاعل يقتضي ان تكون عن جريمة وقعت بمحض إرادته وتحقق القصد الجنائي. وهنا يتمتع البعض بمانع من موانع المسؤولية الجنائية، كالعاهة العقلية، الإكراه، حالة الضرورة، تنفيذ أوامر الرؤساء الواجب طاعتهم.
3- وبخصوص مقدار العقوبة، يقتضي الموازنة بين الاستحقاق والمنفعة في تحديد العقوبة المناسبة. أي ان الألم الذي يلحق بالمُدان يقتضي ان لا يكون قاسيا عليه بحيث يؤثر على عملية إصلاحه وردعه وردع الآخرين ومشاعر المجتمع. وفي جميع الأحوال يلزم ان لا يتم التضحية بحياة وحريات الأفراد بشكل مطلق لغرض تحقيق المنفعة.
عموماً لخص لنا ( فيكتور هوجو ) اراء السادة المعلقين ( والتى لم تختلف كثيراً عن أراء أهل زمانه فى شأن الأبقاء على عقوبة الأعدام ) إلى
1- من الضروري أن نبتر من المجتمع عضوا قد أساء اليه من قبل وقد يسئ اليه بعد ذلك
2- ان المجتمع يجب أن يثأر لنفسه وأن يعاقب
3- يجب أن يضرب المثل الرادع!.. يجب الإرهاب بمنظر المصير الذي ينتظر المجرمين، نلقي به الخوف في قلوب الذين يميلون إلى محاكاتهم!
دعونا نستمع ونستمتع الأن إلى مرافعة ( فيكتور هوجو ) الختامية والتى فند فيها اراء اهل زمانه واراء اهل زماننا مما يريدون الأبقاء على هذه العقوبة الشنعاء
" اننا لا نتوجه بالحديث إلى هؤلاء الناس، وإنما إلى رجال القانون بمعنى الكلمة، وإلى المفكرين وذوي المنطق السليم، إلى أولئك الذين يحبون عقوبة الإعدام لأنها عقوبة الإعدام، يحبونها لجمالها وطيبتها وحسنها !
هيا اذن.. فليدلوا بدلوهم، وليقدموا لنا حججهم.
يقول الذين يحاكمون غيرهم ويصدرون عليهم الأحكام أن عقوبة الإعدام أمر ضروري،
أولاً: " لأن من الضروري أن نبتر من المجتمع عضوا قد أساء اليه من قبل وقد يسئ اليه بعد ذلك.. فإذا كان الأمر مقصوراً على ذلك فالسجن المؤبد يكفي.
فلماذا الموت اذن؟
أتفترضون أنه يمكن الفرار من السجن؟
حسناً.. فلتشددوا الحراسة. فإن كنتم لا تثقون من متانة القضبان الحديدية، فكيف تتجرءون على أن تحبسوا وراءها الوحوش الضارية؟
ليس ثمة ما يدعو إلى وجود الجلاد مادام السجان يكفي
ولكنهم يستطردون فيقولون: " ان المجتمع يجب أن يثأر لنفسه وأن يعاقب".
"كلا، لا هذا ولا ذاك، فالثأر شئ فردي، أما العقاب فبيد الله".
والمجتمع بين اثنين : العقاب فوق المجتمع، والإنتقام أقل منه. الأول كبير للغاية، والثاني صغير للغاية، وكلاهما لا يلائمة. ومن واجب المجتمع ألا " يعاقب لينتقم "، بل أن" يصلح ليصل إلى ما هو أحسن"..فغيروا اذن صيغة علماء الاجرام على هذا النحو، فنحن نفهمها ونقلبها على هذا التعديل.
يبقى السبب الثالث والأخير، وهو نظرية ضرب المثل:
"يجب أن يضرب المثل الرادع!.. يجب الإرهاب بمنظر المصير الذي ينتظر المجرمين، نلقي به الخوف في قلوب الذين يميلون إلى محاكاتهم! "..
ان هذه العبارة تكاد تكون بالحرف الواحد تلك الجملة الخالدة التي يرددها ممثلو الإتهام في " النيابات " الخمسمائة الموجودة في أنحاء فرنسا مع تغيير طفيف رنــــان!
حسناً.. أننا ننكر أولاً أن هناك مثلاً وعبرة، ننكر أن منظر التعذيب يأتي بالنتيجة المرجوة منه، فهو بدلاً من أ يهذب الشعب،يضعف من روحه المعنوية ويقتل لديه كل شعور، وبالتالي كل فضيلة. والأدلة على هذا كثيرة، يزدحم بها استدلالنا لو أردنا أن نذكرها. ومع ذلك فسوف نسوق واقعة من بين ألف واقعة،
فقد حدث في مدينة " سان بول "، عقب اعدام رجل يدعى " لويس كامي " مباشرة، وكان قد ارتكب جريمة حريق، حدث أن جاء نفر من الملثمين ليرقصوا حول المشنقة وهي لا تزال ساخنة،
فأضربوا المثل اذن التماساً للعبرة!
نعم، نعم.. انكم تستمسكون بنظريتكم الروتينية في المثل رغم التجربة. فلنعد اذن إلى القرن السادس عشر، وعليكم أن تكونوا مرعبين حقاً! أعيدوا مختلف أنواع التعذيب..
أعيدوا الينا " فاريناشي " والأشخاص الذين كانوا يكلفون رسمياً بالتعذيب..
أعيدوا لنا الصلب والحرق وتمزيق الأوصال واقتلاع الأظافر وقطع الأذن ودفن المرء حياً وغلي أعضاء الجسم والمرء حي يعيش!!
أعيدوا لنا عند كل ناصية في شوارع باريس، منظر الجلاد البشع كأنه حانوت جديد مفتوح كبقية الحوانيت، ومزود بصفة مستمرة باللحم الآدمي الطازج!
أعيدوا الينا ساحة الإعدام التي كانت مهيأه في " مونفوكون " بقواعدها احجرية الست عشرة، وجلاديها الجالسين و" بدروماتها " المملوءة بالعظام، وألواح التعذيب الخشبية، و" كلابانها " وسلاسلها، وخوازيقها، وغربانها التي تنهش جثثها العفنة !!
نعم، أعيدوا ساحة الإعدام هذه مع المشانق الملحقة بها ورائحة الجثث النتنة التي كانت رياح الشمال الغربي تنقلها وتحملها معها على طول حي " التامبل " في ضواحي باريس!!
أعيدوا الينا صبي جلاد باريس العظيم في قوته وسطوته واستمراره وجبروته!.. حسناً!.. هذا هو مثلكم بصورة مكبرة !! هذه هي عقوبة الإعدام مفهومة فهماً جيداً. انها طريقة للتعذيب على نطاق واسع وهذا هو الشئ الشنيع المروع!
أوه! فعلوا ما يفعلونه في انجلترا ففي انجلترا - وهي بلاد التجاة - يأخذون مهرباً إلى ساحل" دوفر " حيث يشنقونه ضرباً للمثل، ولضرب المثل أيضاً يتركونه معلقاً في حبل المشنقة! ولكن، نظراً الى أن تقلبات الجو قد تتلف الجثة، فإنهم يغلفونها في عناية بقماش مدهون بالقطران، وذلك حتى لا يضطرهم الأمر إلى تجديد هذا الغلاف إلا أقل عدد ممكن من المرات.. فياله من بلد يتوخى الإقتصاد ! بلد يطلون فيه المشنوقين بالقطران!
ومع هذا، فإن ذلك فيه شئ من المنطق، فهو أكثر الطرق انسانية لفهم نظرية المثل.
ولكن أنتم.. أصحيح أنكم جادون حقاً، اذ تعتقدون أنكم تضربون مثلاً حين تقطعون رقبة انسان بائس، بطريقة تعسة في ركن قصي مهجور من مشارف العاصمة؟ قد يكون هذا مقبولاً لو انه تم في ساحة الإعدام، وفي وضح النهار! ولكن، أن يحدث ذلك في حقول ضاحية من ضواحي باريس.. في "سان جاك"؟.. وفي الثامنة صباحاً والنهار لم يكد يطلع بعد؟ من ذا الذي يمر من هناك؟ ومن ذا الذي يرى ذلك؟ ومن ذا الذي يعرف أنكم تقتلون رجلاً في ذلك المكان؟ ومن ذا الذي يشك في أنكم تضربون مثلاً هنالك؟ مثلاً لمن؟ لأشجار الطريق طبعا! ( على القياس نستطيع ان نقول ذات الأمر على تنفيذ احكام الإعدام فى الغرف المغلقة مثل ما هو حادث حالياً..)
أفلا ترون إذن أن تنفيذكم لحكم الإعدام علناً يتم خلسة؟ أفلا ترون اذن أنكم تختبئون؟ وأنكم تخافون وتخجلون من فعلتكم؟ وأنكم تتمتمون على نحو يدعو إلى السخرية قائلين أن هذه هي العدالة؟ أنكم في الواقع خجلون وجلون أيها السادة، ومزعزعون قلقون، وغير واثقين من أنكم على حق، وأن الشك الذي لدي الجميع قد تسرب إلى نفوسكم، وأنكم تقطعون الرءوس على سبيل " الروتين " دون أن تعرفوا تماماً ما تفعلون ! أفلا تشعرون في قرارة أنفسكم أنكم قد فقدتم على الأقل الشعور الأخلاقي والإجتماعي برسالة الدم التي كان أسلافكم القضاة العتاة يؤدونها بضمير مطمئن للغاية؟ وفي الليل؟ أفلا تنقلبون على وسائدكم أكثر مما كانوا ينقلبون؟ ان آخرين من قبلكم قد أمروا بتنفيذ العقوبة القصوى، عقوبة الإعدام، غير أنهم كانوا يعتقدون أنهم على حق، وأنهم عدول وأنهم يحسنون صنعاً. ان "جوفينيل ديزرسان" كان يعتقد أنه قاض، و" أيلي دي توريت " كان يعتقد أنه قاض، و" لوباردومون " و "لارينيي" و "لافوماس" كانوا يعتقودن أنهم قضاة.. أما أنتم.. أما أنتم فلستم موقنين تماماً في قرارة أنفسكم أنكم لستم قتلة!
انكم تتركون ساحة الإعدام الى ضاحية "سان جاك"، وتفرون من الجمهور الى العزلة، ومن النهار الى الغسق ولا تقومون بما تقومون به في ثقة وثبات. ولست أتردد في أن أقول لكم: أنكم تختبئون!
هذه هي كل الأسباب التي تنتحلونها لعقوبة الإعدام قد تحطمت اذن، وهذا هو منطق ممثلي الإتهام بأسره قد أصبح عدماً، وهذه كل مرافعات النيابة قد فندت فصارت رماداً. أن أقل لمسة من المنطق لابد أن تذيب كل تفكير معوج.
انه لا ينبغي اذن أن يأتينا رجال الملك بعد الآن يطالبوننا - نحن المحلفين - برءوس جديدة، نحن الرجال، وهم يرجوننا في صوت يداعبنا بإسم المجتمع الذي تجب حمايته وبإسم الثأر للشعب، أن نضمن لهم ضرب المثل الرادع، ان هذا كله ليس الا بلاغة وكلاماً أجوف، ليس إلا مجرد بالون منفوخ تكفي وخزة بسيطة من دبوس، كي تحيله إلى لا شئ، اذ ليس وراء هذه الثرثرة الحلوة غير قسوة القلب والشراسة والهجمية، والرغبة في إظهار التحمس للعمل وضرورة كسب العيش. اصمتوا أيها السادة، فإننا نحس بمخالب الجلاد تحت أنامل القاضي الحريرية !
انه ليشق علينا أن نفكر في برود في أمر مدع عام جرئ. انه رجل يكسب عيشه بإرسال الآخرين الى المشنقة، فهو المورد الرسمي لساحات الإعدام! ومن ناحية أخرى، فهو رجل يزعم لنفسه الاسلوب الأدبي الجميل، وهو ذلق اللسان، أو يحسب أنه كذلك، ويردد عند الحاجة بيتاً أو بيتين من الشعر اللاتيني قبل أن يسوق انساناً الى الموت، ويحاول جاهداً أن يحدث في مستمعيه التأثير الذي يريده، وهو شديد العناية بأمر كرامته - يا للشقاء! هذا في الوقت الذي تكون فيه حياة الآخرين في الميزان! ان لهذا المعي العام نماذج، نماذج خاصة يتعذر على المرء أن يبلغ مستواها، مثل "بلار"، و "مارشانجي" تماماً كما يكون للشعراء نماذج تحتذي مثل "راسين" أو "بوالو". وفي المناقشات التي تدور في المحكمة، تره يجنح دائماً الى ناحية المقصلة، ولا غرو فهي دوره، وهي شغله الشاغل. والإتهام الذي يوجهه انما هو عمله الأدبي الذي يزينه بالإستعارات، ويعطره بالنصوص، يستشهد بها كي يظفر بإستحسان الحاضرين في الجلسة، وينتزع اعجاب السيدات، ولديه ذخيرة من الأفكار الشائعة التي لا تزال جديدة تماماً على البيئات الريفية، وله بلاغته في التعبير، وأسلوبه الرقيق المصطنع الذي يشبه في رقته أساليب الكتاب.انه يكره الكلمة الخالية من الاستعارة، مقتا يداني المقت الذي يضمره لها شعراؤنا المنتمون الى مدرسة "دوليل" فلا تخشوا اذن أن يسمى الأشياء بأسمائها فذلك لن يحدث، اذ أن لديه قناعاً كاملاً من النعوت والصفات لكل فكرة يمكن أن تثيركم وهي مجردة عارية. ان في وسعه أن يجعل الأمر المفزع مقبولاً، ويخفف من حدة سكين المقصلة، ويوازن الميزان، ويغلف السلة الحمراء في غلالة رقيقة من الاستعارات. انه رقيق ومتحفظ، فهل تتصورونه بالليل في مكتبه، وهو يتأنق في اعداد هذه الخطبة التي ستنصب بسببها المشنقة بعد ستة أسابيع؟ هل ترونه وهو يعرق دماً وماء كي يحاصر رأس متهم في أسوأ بند من بنود القانون؟ وهل تبصرونه وهو "ينشر" رقبة انسان بائس بمنشار قانون أسئ صنعه؟ ألم تلاحظوا كيف ينقع ثلاثة نصوص أو أربعة سامة في فيض من العبارات البليغة،كي يعبر بها، ويستخرج منها بجهد جهيد موت انسان؟ أفلا يحتمل أن يكون الجلاد قاعداً القرفصاء عند قدميه في الظلام، تحت مكتبه وهو جالس يكتب، وأنه قد يكف عن الكتابة بين آن وآخر، ليقول له كما يقول السيد لكلبه: "اهدأ اهدأ، فسوف تنال عظمتك! ".
ومن ناحية أخرى، فقد يكون رجل الإدعاء هذا في حياته الخاصة رجلاً شريفاً، وأباً عطوفاً، وإبناً صالحاً، ووجاً مخلصاً، وصديقاً وفياً.. الى غير ذلك مما تذكره العبارات الطيبة المنقوشة على لوحات القبور في مدافن "لاشيز"..
فلنأمل اذن أن يأتي اليوم الذي يلغي فيه القانون هذه الوظائف المحزنة، وجو حضارتنا وحده هو المسئول عن القضاء على عقوبة الإعدام في فترة معينة من الزمن.
ويغلب على ظننا في بعض الأحيان أن الذين يدافعون عن عقوبة الإعدام لم يفكروا فيها فيحسنوا التفكير. ولكن، ضعوا اذن بعض الجرائم في الميزان، فهذا القانون العنيف يخول للمجتمع الحق في أن يسلب من الإنسان شيئاً لم يمنحه إياه، وهذه العقوبة انما هي أكثر العقوبات التي لا يمكن اصلاح نتائجها وأشدها استعصاء على الإصلاح!
ذلك أن أمامكم أمرين لا ثالث لهما :
فإما أن يكون الرجل الذي تقضون على حياته لا أسرة له ولا أهل ولا روابط في هذا العالم، وفي هذه حالة لا يكون قد تلقى تربية أو تعليماً أو عناية ما، بنفسه أو بقلبه.. فبأي حق اذن تقتلون هذا اليتيم البائس؟ أتعاقبونه لأنه كان يزحف في طفولته على أرض لا سند له فيها ولا مرشد ولا معين؟ انكم تعاقبونه اذن على العزلة التي تركتموه يهيم فيها على وجهه، وتجعلون من مصيبته هذه جريمة، وهو الذي لم يعلمه أحد ماذا كان عليه أن يفعل! أنه رجل جاهل، والخطأ ليس خطأه ولكنه خطأ القدر.. انكم تعاقبون بريئاً!
وإما أن هذا الرجل ذو أسرة. فهل تحسبون عندئذ أن الضربة التي تقطعون بها رقبته لا تصيب الا إياه؟ وأن أباه، وأمه، وأولاده لن يقطروا دماً كذلك؟ كلا، فأنتم بقتله انما تقطعون رقبات أسرة بأسرها. فأنتم هنا كذلك تعاقبون الأبرياء!
ان عقوبة الإعدام عقوبة شاذة عمياء، على أي وجه نقلبها نجدها تصيب البرئ!
اسجنوا هذا الرجل، هذا المذنب الذي له أسرة، فسوف يستطيع وهو في سجنه أن يتابع العمل من أجل ذويه، اذ كيف يكون في وسعه أن يعولهم وأن يجعلهم يعيشون وهو راقد في قاع قبره؟ ترى هل تفكرون دون أتن تأخذكم الرجفة فيما سيئول اليه أمر هؤلاء الأولاد الصغار، والبنات الصغيرات الذين تنتزعون منهم والدهم، أعني لقمة العيش! أم هل تعولون على هذه الأسرة لتزودوا بها الليمان بعد خمسة عشر عاماً؟..... آه ! يا للأبرياء المساكين!
عندما يصدر حكم بالإعدام على عبد رقيق في المستعمرات، فإنهم يدفعون لصاحبه ومالكه تعويضاً مقداره ألف فرنك ! ماذا أيها السادة؟ انكم تعوضون خسارة السيد ولا تعوضون الأسرة شيئاً! وهنا أيضاً بالله عليكم، ألا تنتزعون رجلاً من بين ذويه أصحاب الحق فيه؟ أو ليس هو ملكاً لوالده ولزوجته ولأبنائه الى حد يبلغ في القداسة أكبر كثيراً من درجة ملكية السيد لعبده؟
لقد سبق لنا أيها السادة أن اتهمنا قانونكم هذا بأنه اغتيال، وها نحن أولاء نتهمه الآن بأنه سرقة.
وثمة شئ آخر : فهل فكرتم في روح هذا الرجل؟ وهل تجرءون على ازهاقها بمثل هذه السرعة، وبمثل هذا الإستخفاف؟ فيما مضى، على الاقل، كان هناك شئ من الإيمان في قلوب الناس، وفي اللحظة الحاسمة كانت نفحة الدين المنبثة في الهواء تلين أكثر القلوب قسوة وصلابة، فكان المحكوم عليه في نفس الوقت تائباً يكفر عن ذنب قد ارتكبه، وكان الدين يفتح أمامه عالماً، في نفس اللحظة التي كان المجتمع فيها يغلق في وجهه عالماً آخر. كانت النفوس جميعاً تثق بالله، ولم تكن المشنقة الا حداً من حدود السماء، أما الآن، فما هو الأمل الذي تضعونه في مشنقة لا تؤمن بها الغالبية العظمى من الجماهير؟
ليست هذه من غير شك إلا "أسباباً عاطفية" كما يقول بعض الذين يزدرون العاطفة ولا يستمدون منطقهم إلا من رءوسهم، غير أنها في نظرنا هي أفضل الأسباب، ونحن غالباً ما نفضل الأسباب العاطفية على العقلية. ويجب علينا ألا ننسى من جهة أخرى أن النوعين يتساندان على الدوام، فكتاب "قانون الجرائم" مأخوذ من كتاب " روح القوانين " و " مونتسكيو " هو الذي أنجب " بيكاريا ".
ان المنطق معنا، والعاطفة معنا، والتجربة تؤكد وجهة نظرنا كذلك. ففي الدول النموذجية حيث ألغيت عقوبة الإعدام، أخذ مجموع الجرائم الكبرى يقل باطراد عاماً بعد عام، فأدخلوا هذا في حسابكم.
ومع ذلك، فإننا لا نطالب في الوقت الحاضر بإلغاء عقوبة الإعدام الغاء تاماً وبطريقة فجائية على النحو الطائش الذي اتبعه مجلس النواب، بل نريد، على العكس، أن نجرب كل المحاولات، وأن نتخذ كافة الاحتياطات، وأن نلزم في هذا الحذر كل الحذر. ومن جهة أخرى، فإننا لا نريد الغاء عقوبة الاعدام فحسب، وإنما نريد كذلك تعديلاً شاملاً لكل أنواع العقوبات من أولها الى آخرهاً، من الحبس البسيط الى المقصلة، مع ملاحظة أن الزمن يعتبر أحد العوامل التي تجب مراعاتها في عمل كهذا، حتى يتم على الوجه الأكمل. وفي نيتنا أن نكتب المزيد في هذا الموضوع شارحين الطرق والأفكار التي تبدو في نظرنا عملية ممكنة التطبيق. ولكن، اذا استثنينا الغاء حكم الاعدام جزئياً في حالات تزييف النقد، والحريق، والسرقة المصحوبة بظروف مشددة، الى غير ذلك، فإننا نطالب منذ الآن، وفي جميع القضايا الكبيرة، بأن يلتزم رئيس المحكمة بأن يسأل المحلفين هذا السؤال: هل ارتكب المذنب جريمته بدافع من العاطفة أو بدافع المنفعة؟ فإذا جاء رد المحلفين بأن" المتهم قد ارتكب ما ارتكب بدافع العاطفة" فيجب ألا يصدر عليه حكم الإعدام.. فهذا كفيل على الأقل بأن يبعد عنا بعض أحكام الإعدام التي تثير نفوسنا، وكان ذلك خليقاً بأن ينقذ حياة كل من " أولباخ " و " ديباكير " وهو خليق كذلك بأن ينقذ رقبة من يقف موقف " عطيل " في المستقبل.
ومن جهة أخرى، فإننا يجب ألا نُخدَع، فمسألة عقوبة الإعدام هذه تنضج يوماً بعد يوم، وسوف يحلها المجتمع بأسره، كما نفعل، قبل انقضاء وقت طويل. فليحذر علماء الجريمة المعاندون، فقد أخذت أحكام الإعدام تتناقص منذ قرن من الزمان، وأخذت تجنح تقريباً نحو شئ من اللين والحنان، وهذا نذير شيخوخة وإضمحلال. انه علامة من علامات الضعف، علامة موت قريب. لقد انتهى زمن تعذيب المتهمين وربطهم على العجلة، وولى عصر صلب المحكوم عليهم.. بل ان المقصلة ذاتها عبارة عن تقدم!.. ان هذا لشئ عجيب! لقد كان " السيد جيوتان " انساناً خيراً حقاً!
نعم.. ان هذه الآلة ذات الأسنان والتروس الرهيبة التي التهمت عدداً ضخماً من الرءوس - آلة "فارمناتشي" و "فوجلانس" و "دولانكر" و "ايزاك لوازيل" و "أوبيد" و "ماشوه" - هذه الآلة قد بدأت تضمحل.. بدأت تهزل.. بدأت تموت !!
ها هي ذي ساحة الإعدام لا تريدها، لأن هذه الساحة تريد ان ترد لنفسها اعتبارها.. ان شاربة الدماء العجوز قد سلكت في شهر يوليو سلوكاً حسناً، فهي تريد منذ الآن أن تحيا حياة أفضل، وأن تظل جديرة بصنيعها الأخير.. ان الحياء يعود اليها، وهي التي كانت قد حلت محل المشانق من ثلاثة قرون، فهي تخجل من مهنتها السابقة، وتود أن تفقد اسمها البشع. انها تطلق الجلاد.. وتغسل الدم من فوق "بلاطها ".
وفي هذه الساعة، تنفذ عقوبة الاعدام خارج باريس! فلنقلها هنا اذن بصراحة، فخروجها من باريس يعني خروجها من المدنية.
ان جميع الأعراض في صالحنا، ويبدو كذلك ان هذه الآلة البشعة، أو بالأحرى هذا الوحش المصنوع من الخشب والحديد، والذي هو تحفة الدكتور " جيوتان " يبدو أن هذه الآلة تغدر وتقاوم. اننا اذا نظرنا من زاوية معينة الى هذا العدد من أحكام الإعدام الرهيبة التي نفذت وسردنا تفاصيلها آنفاً، لوجدنا أنها تعتبر دلالات ممتازة، فالمقصلة تتردد وتحجم وتقصر في تأدية وظيفتها، وها هو ذا بناء عقوبة الإعدام العتيد العتيق بأسره قد أخذ يتفكك ويتداعى.
وسوف ترحل هذه الآلة البغيضة من فرنسا، فنحن نقدر ذلك تقديراً ونعول عليه، وهي سوف ترحل عرجاء، بإذن الله، لأننا سنحاول جاهدين أن نوجه اليها ضربات قاصمة.
فلتذهب اذن عند قوم آخرين، لتذهب عند شعب همجي يقبل أن يستضيفها.
لقد كان البناء الإجتماعي يرتكز فيما مضى على ثلاث قواعد هي : القسيس، والملك، والجلاد. ومنذ زمن بعيد، ارتفع صوت يقول : " لقد ذهب سلطان الأساقفة ! "..
وفي السنوات الأخيرة صاح صوت آخر يقول : " ان الملوك ذهبواً ".. والآن، حان الوقت ليرتفع صوت ثالث ويقول : "ان الجلاد راحل ً "
وهكذا، يكون المجتمع القديم قد انهار حجراً بعد حجر، وتكون العناية الآلهية قد قوضت أركان الماضي بأسره.
ان الذين ندموا على تقلص نفوذ الدين،استطعنا أن نقول لهم:ان الدين باقٍ،والذين يندمون على ذهاب الملوك نستطيع أن نقول لهم:ان الوطن باقٍ.أما الذين سيندمون على ذهاب الجلاد فليس لدينا ما نقوله لهم.
ولا يحسبن أحد أن النظام سوف يختفي بإختفاء الجلاد فسوف لا تتداعى عمد المجتمع الجديد لأن هذا المفتاح البشع المشئوم ينقصها، وليست المدنية الا سلسلة من التغييرات المتتابعة، فماذا أنتم واجدون عندئذ؟
انكم ستشهدون تغيير العقوبات، وسوف يدخل قانون المسيح الرحيم أخيراً في اللوائح المعمول بها في المحاكم ويشع من نوره عليها. اننا سننظر الى الجريمة على أنها مرض، وسوف يكون لهذا المرض أطباؤه الذين سيحتلون أماكن قضاتكم، ومستشفياته التي ستحتل أماكن ليماناتكم.. ان الحرية والصحة ستجتمعان معاً.
نعم، اننا سنصب البلسم والزيت حيث كان يطبق الحديد والنار. وسوف نعالج هذا المرض بالرحمة والإحسان بعد ان كان يعالج بالغضب والإنتقام.
وسوف يكون ذلك بسيطاً ورائعاً حقاً.
فالإحسان يحل مكان الإنتقام.
والرحمة تحل محل القتل.
وهذا كل ما نهدف اليه.
لا انا بل نعمة الله التى معى
جورج شكرى
George02002@gmail.com
LG1712006LG@yahoo.com