أصداء

الفردية: أنانية أم فضيلة؟

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

ماذا يتبادر إلى ذهنك عندما تسمع أو تقرأ كلمة "فردية"؟ هل تتبادر إليك مرادفات مثل الأنانية أو الاستقلالية أو حتى العناد والتمرد؟ أم أن الفردية تجلب إلى الذهن مواقع جغرافية مثل الغرب،،، أوروبا أو الولايات المتحدة؟ أو أنها كلمة متعلقة بالاختراعات والتقدم التكنولوجي؟ ماذا عن الشهرة؟ هل تتبادر إلى ذهنك شخصيات خالدة أبت على نفسها أن تتبع أجدادها دون إعمال للعقل؟ ماذا عن مبادئ المسؤولية، الثواب والعقاب،،، (ولا تزر وازرة وزر أخرى)؟ هل الفردية وصف سلبي أم إيجابي؟ هل هو مبدأ فطري أم أنه تحدي للعادات والتقاليد؟

الكثيرون ينتقدون "الفردية" على أنها مبدأ غربي يؤدي إلى التفكك العائلي وضياع القيم وخراب المجتمع. يستشهد البعض بأن الولايات المتحدة هي خير دليل، تجعل رب العائلة يطرد أبناءه بمجرد بلوغهم سن الثامنة عشر أو حتى السادسة عشر،،، تسمح للوالدين بتجنب مسؤوليتهما تجاه أبنائهم،،، تعطي الأبناء عذرا في عقوق الوالدين،،، تسمح بالرذيلة من أجل المكاسب الدنيوية،،، تمنح أفرادها مبدأ أن الغاية تبرر الوسيلة. ولكن هذه الصورة التي يعتقد البعض أنها تمثل الولايات المتحدة ليست صحيحة. أنا أعترف هنا أن هناك تجاوزات وأخطاء واستثناءات في المجتمع الأمريكي كما في غيره من المجتمعات. لكن هذه السمعة السيئة تعتمد على خيال خصب قدمته أفلام هوليوود التي تعتمد على الإثارة من أجل تقديم مادة ترفيهية. فلو أن الأفلام تعرض حياتي أو حياة أي شخص عادي دون تلك المبالغات والإثارة لما ذهب المشاهدون إلى دور السينما.

أحد أكثر الانتقادات التي يستشهد بها في العالم العربي هي القول بأن الأبناء في أمريكا يعجلون في الزج بآبائهم في دور رعاية المسنين. عندما يأخذ الأبناء أباءَهم العجزة إلى دور الرعاية فإنهم لا يتخلصون منهم كما يعتقد البعض بل يضعون نصب أعينهم ما هو في مصلحة هؤلاء الآباء. وفي العادة لا يحتاج المسنون إلى دور الرعاية إلا إذا استدعتهم الحاجة الصحية لمتابعة مستمرة. الآباء العجزة لا يعارضون الذهاب إلى هذه الدور مقتنعين بأنهم سيكونون عبئا على أبنائهم في حال مكوثهم في بيوتهم وأن العائلة بأكملها ستعاني ماديا ونفسيا.

في يوم قبل عدة سنين دعتني جارة لي - تهتم بأبيها الذي يسكن معها - إلى احتفال وداع مصغر للأصدقاء والجيران حين قالت أن حالة أبيها الصحية تزداد سوءا وأنها بحثت عن وظيفة جديدة في ولاية أخرى كي تكون قريبة من أبيها الذي ستدخله دار رعاية للمسنين في تلك الولاية المجاورة. تذكرت حينها يوما قال لي فيه الأب أنه كان يخطط منذ فترة طويلة لمثل هذه الحالة وأن مدخوله من التقاعد يكفي للإيفاء بتكاليف دار الرعاية. ولكنه في ذلك اليوم كان محبطا وقال للجميع انه حزين لأن ابنته ستترك وظيفتها الواعدة وستذهب إلى عمل جديد بمرتب أقل لكي تكون بجانبه فهو لم يرغب يوما أن يكون عبئا عليها. ولكنه عبر عن امتنانه لابنته الوفية ذات الابتسامة العريضة التي يستمد منها قدرته على مكابدة المرض. كان ردها أنها لن تستطيع الحياة دون أن تراه وتقضي معه حصة من الوقت كل أسبوع كما جرت العادة منذ صغرها. تلك التجربة جعلتني اكتشفت أن تلك الحالة ليست استثنائية أو مثالا حكرا على جارتي وإنما هناك منظمات وحلقات دعم ومصادر اجتماعية مختلفة تساعد من هم في نفس الوضع، وهم كثر.

تلك كانت حادثة خاصة عكست حالة شريحة من الأبناء الذين يمرون بظروف جارتي السابقة ولكن ماذا عن الآباء؟ الآباء في عمومهم مذنبون في تهيئة أبنائهم لخوض غمار الحياة العملية. فنحن نعمل على تسليح أبنائنا بالمعرفة والعلوم وتغذية الخيال والإبداع. فنظامنا الاقتصادي الأمريكي يكافئ المبدعين ويقدر المواهب العملية والمتفانين في الوظيفة. هذه البيئة تشكلت كنتاج تطور طبيعي لتحول الإقتصاد الأمريكي عبر القرون القليلة الماضية من زراعي في أساسه إلى صناعي والآن أصبح إلكتروني أو رقمي. لقد تطلب النظام الزراعي هيكلا اجتماعيا هرميا على رأسه رب العائلة وهو في العادة الشخص الذي يملك الأرض التي تعود بالخير على الجميع. وكان له الأمر والنهي. كانت حينها العائلة كبيرة فكل ابن جديد سيشارك في الحرث والسقي والقطف، النقود لم تكن وحدة التعامل الأساسية، بل المأوى والمأكل والمشرب هي الأساس. كما أن الالتزامات العائلية وقلة الفرص البديلة منعت الأبناء من الاستقلال أو الخروج عن العائلة.

أما المجتمع الصناعي فقد أنقص من صلابة الهرم الإجتماعي وفتح الفرص أمام الفرد لتكوين حياته بالشكل الذي يبتغيه. كما أعطته حرية التنقل والعيش في أي مدينة يختارها. فهناك العديد من الوظائف الشاغرة التي يحتاج أصحاب المصانع لملئها بسواعد قوية. تلك الوظائف تكافئ أصحابها بالنقود، وبذلك يضمن الفرد الحصول على احتياجاته الأساسية من مأوى ومأكل ومشرب وكسوة. ورغم توفر الفرصة للفرد لأن يكون بمعزل عن الآخرين في حياته الخاصة إلا أنه مخلوق إجتماعي بطبعه. هذه الخاصية تحث بني البشر على الإبقاء على ارتباط عائلي وصداقات كما تجعله يشارك في نشاطات جماعية تشمل الطقوس الدينية والتجمعات الرياضية والاحتفالات الموسيقية وغيرها. فالفرد يبقى متصلا بالجماعة طالما أنه يعيش في دولة وله وطن. فالمجتمع له خواصه من نظم وقوانين تحدد مسؤوليات الفرد وحقوقه. فلا مفر من التواصل الاجتماعي.

هناك فكران أساسيان لتحديد علاقة الفرد بالمجتمع: الأول وهو التقليدي والذي يقول بأن الفرد هو جزء من المجتمع وعليه خدمته، والفكر الثاني يقول بأن المجتمع مسؤول عن الحفاظ على حقوق الفرد وهو المبدأ الذي تنتهجه أمريكا. فقد وضح نص وثيقة الاستقلال على أن "الناس خلقوا سواسية، وأن الخالق أعطاهم حقوقا لا يمكن حجبها ومن ضمنها الحياة، الحرية، والعمل من أجل تحقيق السعادة". ففي النظام الأمريكي يتمتع الفرد بحقوق لا يمكن نقضها أو منعها عنه وهي ملحقة بالدستور تفصيليا في عشر نقاط وتشمل حرية التعبير والصحافة وحق الملكية والآمان والحصانة من التفتيش العشوائي دون أمر محكمة، بالإضافة إلى الحق في محاكمة عادلة وعلنية، يحكم فيها محلفون من عامة الشعب، وحق عرض الأدلة بشرط السماح للمتهم بمعرفتها (ومجابهتها وتحديها) وبمواجهة الشهود وحق عدم الاعتراف بالذنب (لضمان عدم التعذيب).

تلك ضمانات أساسية للفرد تجنبه بطش الحكومة ولكن في مقابل كل حق واجب يقع على عاتق كل فرد. فهذه المعادلة بين الحقوق والواجبات ربما تكون الأهم في صياغة الضمير الأمريكي. فنحن نقول أن هذا البلد هو بلد الأحرار، وفي المقابل يمكن أن نقول أن هذا البلد هو بلد المسؤولين لأن الحرية مكفولة بقيام كل شخص بالالتزام بمسؤولياته تجاه المجتمع. أي أن الأفراد لا يحصلون على حقوقهم إلا إذا أدوا واجباتهم والتزموا بمسؤولياتهم تجاه المجتمع وبذلك يعمل المواطن الأمريكي على الإيفاء بمسؤولياته بشكل مستمر مدركا أنه سيحصل على حقوقه دون الحاجة إلى المطالبة بها. فالحقوق عادة ما تأتيه بشكل تلقائي وفي حال حدوث تجاوزات فلديه خيارات عدة لتصحيح الوضع ومنها الشرطة والقضاء والممثلين المنتخبين عن دائرته الانتخابية في الحكومة المحلية والكونغرس.

لهذه المعادلة - بين الحقوق والواجبات - دور آخر حيث أنها تخلق توازنا يحول دون تحول الحرية إلى فوضى، ويكبح إمكانية نموها إلى استبداد. يمكن أن نصف المعادلة بين الحقوق والواجبات بالمواجهة والتحدي. فالقضاء الأمريكي معني بتحديد حدود كل منهما. ورغم أن الأمور تسري بشكل طبيعي للمواطن الأمريكي إلا أن هناك مجموعات وأنظمة مختصة بالنظر في هذه المعادلة. الكونغرس الأمريكي يفرض القوانين، والقضاء يوازنها ويتحقق من شرعيتها، والمواطن المتضرر يرفع القضايا بمساندة المحامين وفي بعض الأحيان بمساعدة منظمات ضمان حقوق المواطن للتحقق من صحة تفسير النصوص القانونية وعدالة تطبيقها. فنحن أمة تحكمها القوانين والنظم ولسنا أمة تابعة لقادتها.

الفردية مرتبطة أكثر ما يكون بالمسؤوليات. مسؤولية الفرد في العمل،،، مسؤولية الفرد في العطاء للمجتمع وهي في العادة مسؤولية أخلاقية،،، مسؤولية الفرد في القيام بمسؤولياته القانونية،،، مسؤولية الفرد في تكبد تبعات أخطائه،،، مسؤولية الفرد في أن يكون من ضمن منظومة تساهم في تقدم البلد. الفردية ليست مبدأ سلبي بل هو حيادي، ويصبح إيجابيا إذا سانده نظام متكامل لا يشوبه الاستبداد ولا يخربه الفساد. عدو الفردية هو عدم المسؤولية فإذا لم يلتزم المواطن بمسؤولياته، كأن يستغل منصبه أو يعتمد على وساطة، فإن الفردية تكون عبئا على المجتمع ليتحول إلى مرتع للأنانية.

وليد جواد
فريق التواصل الإلكتروني
وزارة الخارجية الأمريكية
DigitalOutreach@state.gov
http://usinfo.state.gov/ar

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف