الوطن الضائع!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
لم أزر في حياتي دولة أوروبية رغم أنني تعديت الخمسين في العمر الذي أوشك أن يهد حيلي..
لا بل أنني لم أخرج من بلدي إلا مرتين وهما هربا من ملاحقة قوات النظام الدكتاتوري، الأولى عام 1974 بعد فشل مفاوضات السلام بين حكومة البعث وقيادة ثورة أيلول التحررية الكردية، والثانية أثناء قدوم قوات حرس الجمهوري الى مدينتي عقب إنتفاضة عام 1991، وفي المرتين لجأت الى إيران وتشرفت هناك برؤية ذقون الملالي من ذوي العمامات السوداء.. ولكني أؤكد أنني رغم بقائي لعدة أشهر في هذه الدولة المجاورة لكنها لم تحاول أن تكسبني الى جانبها وتجعلني عميلا مستقبليا لها كما فعلت مع معظم اللاجئين إليها من أفراد المعارضة العراقية الذين يحكمون بلادي الان ويعجزون عن الخروج من تحت عباءة إيران رغم كونهم حكام بلد إسمه العراق.وقد يكون السبب في تجاهلي هو أنني لم أطول العشرة معهم، لأنني بطبيعتي أنفر من أصحاب اللحى الطويلة والدشاديش القصيرة.
لم أر أي من بلدان العالم لكي أعرف كيف يعيش ناسها، فقد عشت سنواتي الما فوق الخمسين وسط أتربة الشوارع وحفريات البلديات والمجاري!. تنشقت أطنانا من الأدخنة الخارجة من عوادم السيارات!. شربت مليون ليتر مكعب من المياه الوسخة جراء إختلاط مياه المجاري الصدئة مع مياه الشرب المنقولة الى المنازل!. غرقت في أوحال شوارع المدينة جراء طفح المجاري أثناء هطول الأمطار!. دفعت آلاف الدنانير رشاوى لموظفي الدولة لتمشية معاملاتي في الرسمية في دوائرهم!. سكبت ماء وجهي أمام اللي يسوه والي ما يسواش لتعييني في وظيفة أستطيع بها إطعام أولادي!. قبلت أيادي حثالات المجتمع من عرفاء الأمن والمخابرات لكي لا يكتبوا عني تقريرا كيديا ينزلني في السجون المظلمة والمعتقلات الرهيبة!.
أمضيت 35 سنة من زهرة شبابي في ظل نظام دكتاتوري سوداوي، ويا لها من فترة طويلة حالكة السواد جثم فيها الدكتاتور على صدور العراقيين، قمع إنسانيتهم، وسلب إرادتهم، وتمادى حتى عين على كل أسرة عراقية جاسوسا لدائرة الأمن يحصى أنفاسهم ويرقب حركاتهم ويترصد نشاطاتهم!.
كنت أظن أن الدنيا هي هكذا، وأن الناس يعيشون هكذا، لا فرق بين المواطن العراقي، والمواطن السلفادوري، ولا بين الدانماركي والمدغشقري.. لم أكن قد رأيت بلدا آخر لكي أقارن أوضاعها بأوضاع بلدي حتى غزت الفضائيات سماوات العالم فأصبحنا نشاهد الواقع في بعض البلدان، ومن دون أن نرغب أخذنا نقارنه بالواقع المرير الذي نعيشه في بلدنا..
لي صديقة عزيزة على قلبي تعيش في هولندا، تحدثني في كثير من الآحيان عن هذا البلد الذي تعيش فيه فتصفه بجنة الله على الأرض..
شوارع نظيفة تلمع صباحا مساء، لا قصاصة ورق ولا عقب سيكارة،ولا حتى حصى صغيرة مرمية على الأرض..الخضرة تملأ أرجاء الأرض في هذا البلد. أشجار باسقات، حدائق واسعة ومتنزهات تخلب الألباب، وبساتين تجد فيها ما تشتهيه الأعين والأنفس..أناس مسالمون ودودون يرحبون بك حتى لو كنت غريبا عن تقاليدهم وعاداتهم..تقديس القانون في الشارع والبيت..
وكانت لنا جنتنا على الأرض في العراق، هي كردستان.
ولكن صداما حولها الى خراب ودمار بالغازات الكيمياوية السامة، إقتلع أشجارها لتعبيد الطرق أمام المدرعات والدبابات العسكرية!. ردم عيون المباه العذبة التي كانت زلالا!. أحرق البساتين بحجة إستخدامها من قبل المعارضين للتخفي!. جفف الأهوار، قتل أسماكها وطيورها!. إقتلع مليون نخلة في الجنوب أثناء قادسية العار والشنار!. طمس معالم الحضارات البابلية والآشورية والسومرية وهي حضارات أعطت العالم القلم والقرطاس!.
هكذا كان رئيس الدولة، وهذا كان حبه للوطن الذي يحكمه!!!.. فكيف لا يعذر العراقي الذي أصبح القتل اليوم عنده حرفة يكتسب من ورائها المال والجاه والسلطان؟؟!..ترى معظم شباب الوطن بدل أن ينصرفوا الى مقاهي الأنترنيت ليتعرفوا على تجارب العالم، وبدل أن يأخذوا بأيدي حبيباتهم للتنزه في الحدائق والكازينوهات، ينضمون الى الميليشيات التي تمارس القتل والخطف والسرقة والإغتصاب، يحملون البندقية في اليد لتنتزع أرواح الناس الأبرياء، أو تزرع عبوة ناسفة تقتل الشيخ المسن والمرأة الحامل،وتغتال براءة الأطفال.
حتى دمى العرائس تفتقت أذهان العراقيين على تلغيمها لتقتل ثلاثة أطفال أبرياء كل فرحتهم في صباح جديد هي الخروج الى أمام الدار للعب واللهو؟!.
فجروا بيوت الله الآمنة، مساجد وحسينيات وكنائس ومعابد كانت آمنة مطمئنة لقرون طويلة..هزوا مراقد الأئمة وعواميد الإسلام بالديناميت والمتفجرات.. خطفوا الحرائر وهتكوا الأعراض!!..
عصابات الإجرام ترفع السلاح بوجه الدولة ويتمادى قادتها في القتل والإجرام وكلهم من موروثات الدكتاتورية التي كرهت الوطن..
لماذا يكره هؤلاء الوطن،وقد قال خير الأنام أن ( حب الوطن من الإيمان)؟!.
نحن لا نحب وطننا إذن نحن لا إيمان لنا..
ومن يكون بلا إيمان لا يكون وطنه إلا هكذا..
الناس يزرعون الورود في حدائقهم ونحن نزرع الأشواك
الناس يبنون مدنهم وأوطانهم ونحن ندمر مدننا وأوطاننا
الموظف عندنا يرتشي لأن مديره مرتشي.. المدير يرتشي لأن وزيره مرتشي يبلع ملايين الدولارات بصفقة واحدة ثم يهرب من وطنه بلمحة بصر.
السياسة عندنا صفقات.. محاصصات..تقسيمات.. نصف خيرات البلد لي والنصف الآخر لك.. إجمع إكتنز ثم إهرب أو تقاعد فالفرص قليلة والعمر محدود، و لابد من إرث وفير للأولاد والأحفاد..
إجمع ما تيسر لك حتى ولو على حساب رقاب الشعب
فاليوم الوطن
مستباح أمام الهمج والبرابرة
هكذا يروي التاريخ حكاية وطني
يمضي التتار
يأتي المغول
يذهب المستعمر
يأتي المستغل!!..
الوطن؟؟!!..
نحن للوطن كارهون
لأن لا إيمان لنا
و..
إذا الإيمان ضاع فلا أمان
و لا دنيا لمن لم يحي دينا
و من رضى الحياة بغير دين
فقد جعل الفناء لها قرينا
وقال الرسول ( حب الوطن من الإيمان).
شيرزاد شيخاني