أصداء

الحياة أصغر بكثير

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

الحياة أصغر بكثير من أن تتسع لقلبين عاشقين، قد تكون هذه الفكرة غارقة في اللاواقعية أو ربما قد تكون واقعية حد اليقين، ولكن في نهاية الأمر هناك حقيقة قد تتجلى وسط تجارب البشر وحركة الحياة وتعاقب الأزمنة، فالحقيقة في أغلب الأحيان ابنة شرعية لتجربة الإنسان في فصولها الحياتية والوجودية والظرفية متأرجحةً بين البهجة والكآبة، بين الأفراح والأوجاع، بين الأمل واليأس وفي أحيان كثيرة بين لذة الحلم وقسوة الواقع، ولذلك أجد أنه ليس من قبيل العبث أن نبقى نتساءل مع كل العشاق الموجوعين والمتوجعين وحتى مع الواهمين منهم والحالمين عن مدى واقعية، أن الحياة أصغر بكثيرٍ من الحب، بحيث إنها لا تتسع لقلبين عاشقين..

فماذا كان يضير الحياة على سبيل المثال وليس الحصر، لو إنها اتسعت لتضم قلبين متحابين عاشقين متحدين تحت سقف واحد، كقيس بن الملوح وليلى العامرية.؟ ألم يكونا في الحب أروع عاشقين، ولكنهما تعذبا وغص بهما العشق ولم يصلا لمبتغاهما وحلمهما، بينما نحن بقينا نردد قصائد قيس، تلك التي تفيض حباً وعاطفةً نبيلة وألماً ومرارة، وجاءت لنا على حساب عذاباته ومعاناته وأرقه وأوجاعه، ولم يكن في الحب عابراً أو عابثاً، بل كان في أعقل حالاته مجنوناً به وبها، ألم يعبر عن جنونه العاقل لحبيبته:

لقد رسخت في القلبِ منك مودةٌ
كما رسخت في الراحتين الاصابعُ

أما قيس بن ذريح، فهو الآخر لم تتسع الحياة للحب العميق الذي جمعه بحبيبته لبنى، فكانَ أن تمنى الموت على العيش، لأن الموت في نظره أكثر رحمةً من فراق حبيبته:

فأن الموت أروح من حياةٍ
تدوم على التباعد والشتات

وفي قصة جميل بثينة ما يدعونا إلى أن طرح السؤال مجدداً، ماذا كان يضير الحياة لو إنها اتسعت لحبه قليلاً ومنحته فرصة إضافية للقاء معشوقته بثينة، التي بقيَ مخلصاً لها، فحينما أزمع على السفر إلى مصر ينشد ثروةً يعود بها الى حبيبته، وفي طريق عودته إلى دياره حيث كانت تسبقه لهفة عارمة للقاء حبيبته، كان الموت له بالمرصاد، فتنهّد بالشعر وبعدها فارق الحياة، وكأنه كان يتنبأ بموته قبلها:

يهواكِ ما عشتُ الفؤادَ وإن أمتْ
يتبع صدايَ صداكِ بين الأقبرِ

وربما في قصة علي بن زريق، شيئٌ من تلك الحقيقة المؤلمة، حيث كانت له ابنة عم وقد هامَ بها غراماً وحباً لا يوصفان، فهاجر من بغداد إلى الأندلس لفقر أصابه، وهناك ظلّ يتذكر حبيبته وما بينهما من وطأة المسافات القاتلة، فأصيبَ بمرض الغم ومات حزيناً لفراق حبيبته، وحينما تفقدوه وجدوا عند رأسه رقعةً فيها أبيات من الشعر، كان قد دونها بدموعه ووجعه، واشياقه لحبيبته، هذه بعضها:

يكفيه من لوعة التفنيد أن له
من النوى كل يوم ما يروعهُ

ما آب من سفرٍ إلا وأزعجه
رأي إلى سفر بالرغم يتبعه

عسى الليالي التي أضنت بفرقتنا
جسمي لتجمعني يوماً وتجمعه

لا أدري، هل كان قدر أولئك وغيرهم ممن تعثر بهم الحب في منتصف الطريق لأيّ سببٍ كان، ولم يصلوا به أو لم يصل بهم إلى اللحظة التي يجب أن يتوجوا بها حلمهم، أن يكونوا الوجه الأكثر تمثلاً في تجربة الحب الإنساني النبيل، الوجه الموجع والمؤلم من الحب، وهل يكون الحب قاسياً هكذا مع ممارسيه ومحبيه والواقعين فيه والمفتونين به، ألا يجدر به أن يكون رحيماً بهم وعليهم، لأنهم المخلصون الحقيقيون له، ولأنهم العشاق العذريون في مملكته التي تكتظ بالزائفين والمزيفين والعابثين..

وماذا يضير الحياة مثلاً لو إنها تقف على الحياد من دون أن تكون سبباً في تعاسة مَن يريدان أن يصلا بحبهما إلى اللحظة الحلم، فهل من عادة الحياة أن تقذفَ بالعاشقين دوماً في الزاويا الحادة المُهلكة لتكشف لهم عن مدى قدرتها الاحترافية على تعميق جراحاتهم وأوجاعهم.؟ وهل من عادة الحياة أيضاً أن تخبرهم بأن الحب لا يجلب لهم سوى العذابات والأوجاع دليلاً على الإخلاص والتفاني له..؟؟

وهل يستطيع العشاق والمتيّمون أن يتركوا جزءاً من ذاكرتهم برغبةٍ منهم في الفضاء البعيد لتعبث بها رياح النسيان، في محاولة منهم ربما قد تكون يائسة للتخلص من أوجاع الذاكرة وجراحاتها السابقة، لا أدري، ما أعرفه أن الحب يكتفي بذاته لذاته، ولكنه لا ينكفيء على لحظته الآنية، بل يتمدد في الذاكرة ويبعث بالعذابات المنسيّة ويمتص رحيقه من زوايا الذكريات البعيدة، لأنه لا يغادر عذابه الخاص والمتأصل فيه، وكل ذلك ربما لأن الحب يريد أن يعود مجدداً وفي كل مرة إلى ما كان عليه في الجنون الأول من دهشة الاشتعال، وفي هذه الحالة هل تتسع الحياة للحب وتمنحه فرصة الانتعاش من دهشته الأولى ليبقى على قيد الوجود يتنفس حقيقته الصادقة، أم تسرق منه ضوء الدهشة في داخله وتحيله إلى جثة هامدة.؟ لستُ على يقين تام، من هذا أو ذاك، ولكن في معظم الأحوال تبقى الحياة عاجزة من أن تقدح في العشاق شرارة الدهشة الأبدية بحكم طبيعتها الساذجة والمستبدة والاعتيادية..

وحينما تنمو للحب أجنحة، تحلّق بالعشاق مدارات النشوة اللانهائية وتهيم بهم لحظات السعادة الفائقة، هل من حق الحياة في هذه الحالة أن تطلب من العشاق أن يحققوا توازناً في طقسهم الداخلي، أو أن تطلب منهم أيضاً أن يضبطوا ايقاع معادلتهم النفسية، بحيث أن لا تأخذهم نشوتهم وسعادتهم بحبهم إلى مستويات الجنون به، فيحلقوا عالياً في الفضاء الأبعد من شدة الاحتفاء المتفرد به، بل عليهم أن يتوقفوا عن التحليق عالياً، لأن السقوط المريع في الواقع الأصم للحياة يتربص بهم عند كل شاهقٍ من الحب اعتلوه جنوناً وحلماً شهياً، بل واحتراقاً أيضاً..

وحتى لو اتسعت الحياة وضمت بين أعطافها وفي ثناياها أيّ قلبين عاشقين وجمعتهما تحت سقف واحد، قد يحق لنا أن نتساءل هنا، هل ستتسع الحياة في هذه الحالة لكل أمانيهما وأمنياتهما ورغباتهما وأحلامهما وجنونهما أيضاً.؟ أشك في ذلك..!!

محمود كرم
كاتب كويتي
tloo1@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف