الحرب على العراق: رؤية دينية أم تباين سياسي؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
لم تكن الحرب الأخيرة على العراق حرباً عادية كسائر الحروب الإقليمية الصغيرة والكثيرة المتناثرة في كل بقاع الأرض. فهي تأتي في المرتبة الرابعة من الأهمية، في نواحي كثيرة، بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية والحرب الباردة، في تاريخ البشرية الحديث من حيث انعكاساتها وتأثيراتها الموجاتية ـ الارتدادية التي مازالت تتفاعل حتى اليوم داخل المجتمع الدولي برمته. وما أحداث الحادي عشر من أيلول 2001، على أهميتها ومأساويتها وتفردها، سوى ذريعة أهدتها " السماء" لفريق جورج بوش اليمني المحافظ الجديد، لتمهد الأرضية، معنوياً ونفسياً وسياسياً وعسكرياً، لتحقيق الحدث الأهم والأكثر خطورة وتراجيدية، والمخطط له منذ أمد بعيد، كخطوة أولى، لإعادة ترتيب أوراق العالم والشرق الأوسط خاصة استراتيجياً واقتصادياً وعسكرياً وسياسياً، أي خطوة شن الحرب على العراق، وتدمير قدراته الكامنة والظاهرة، وتحطيم نفسية ومعنويات شعبه، وتخريب بناه التحتية والفوقية، وإعادته إلى مرحلة ما قبل نشوء الدولة العراقية الحديثة في بدايات القرن المنصرم، حتى غدا العراق مجتمعاً بلا ضوابط ولا هوية ولا انتماء، وأرضاً بلا حدود تحترم، ولم
يعد أكثر من حيز مكاني يخضع لشريعة الغاب والبقاء للأقوى.
لقد أحدثت حرب العراق شرخاً عميقاً في بنية العلاقات الدولية وقسٌمت الغرب إلى غربين، غرب أمريكي وغرب أوروبي، متصارعين بعد أن كانا متحالفين، وعمٌقت الهوة القائمة بين مفهومين للعدالة والقانون الدوليين، وأسست لسابقة خطيرة سيترتب عليها تداعيات وتبعات وعواقب وخيمة إذا ما كررتها دول وقوى أخرى ألا وهي منح أنفسهم حق المبادرة والبدء في توجيه الضربة الأولى بحجة منع وقوع عدوان متوقع أو وشيك بحرب وقائية أو إستباقية كما سبق لإسرائيل أن فعلت ذلك في حرب الأيام الستة سنة 1967، ولم يتحرك المجتمع الدولي آنذاك لإدانتها أو معاقبة إسرائيل عليها، فكان أن شجع ذلك على تكرار المحاولة ولكن هذه المرة من قبل أقوى وأعتى دولة في العالم الا وهي الولايات المتحدة الأمريكية ضد أقدم وأعرق وأعقد دولة في العالم وهي العراق وهذا أول الغيث.
لقد تعرض العراق لكثير من الحروب في تاريخه المديد. ولكن الأكثر دموية وتدميراً تلك التي وقعت في الحقبة المعاصرة كالحرب العراقية ـ الإيرانية التي دامت ثماني سنوات وراح فيها مئات الآلاف من القتلى والجرحى والمعوقين واستنزفت البلاد مادياً واقتصادياً ومعنوياً. وبعدها بعام واحد خاض نظام صدام الدموي حربه العبثية الثانية في غزوه للكويت وما تلاها من تطورات دراماتيكية أدت إلى هزيمة العراق عسكريا وتم تركيعه ومحاصرته ومقاطعته اقتصادياً وتجارياً لأكثر من عقدين من الزمن غدا فيها خائر القوى منبوذاً من جانب محيطه العربي والإقليمي، ناهيك عن المحيط العالمي ووضع تحت الوصاية الدولية بفضل نظام العقوبات الدولية الصارمة وتطبيق قانون النفط مقابل الغذاء. لكن ذلك كله لم يمس النظام وآلته القمعية، بل مسٌ الشعب في الصميم وحوله إلى قطيع من الجياع والفقراء والمحتاجين بعد أن سحقت الطبقة الوسطى فيه وغادرته كوادره الكفوءة إلى بلاد الله الواسعة بحثاً عن آمان ومصدر رزق كريم. وأخيراً وضع العراق في مرمى الإصابة الأمريكية مرة أخرى وتعرض إلى حربين في آن واحد، الأولى عسكرية، والثانية إعلامية شنتهما الولايات
المتحدة الأمريكية عليه، كما كان الحال سنة 1991. ولم تتوان واشنطن عن تكرار التجربة سنة 2003 مع فارق بسيط، هو أنها تركت النظام في مكانه يواصل سحق شعبه وإبادته بالحديد والنار سنة 1991 وصممت على إطاحته سنة 2003 ولكن بأي ثمن؟ توجب على الولايات المتحدة أن تستعد هذه المرة وتحسب حساباً لكل شيء قبل نشوب الحرب. لذلك أدركت أن القوة العسكرية لم تعد وحدها هي التي تتصدر الترسانة العسكرية. فالأداة الأولى اليوم هي مناورة وسائل الإعلام. فإفساد الرأي العام عبر وسائل الإعلام بات مظهراً أساسياً في فن الحروب الحديثة، وكل الجيوش في العالم تجهز نفسها بوحدات متخصصة في الحرب النفسية والدعائية، مهمتها اتهام العدو بارتكاب جرائم خسيسة او استعداده لاستخدام أسلحة فتاكة بغية تحريك الرأي العام العالمي ضده، أو تبليغ الشعوب بإخفاقات أو خيانات قادتهم من أجل كسر معنوياتهم. فالبنتاغون يرصد وحده ميزانية بقيمة 655 مليون دولار لإذاعة معلومات خاطئة أو كاذبة ومزورة وخادعة أو براهين ملفقة للتأثيرعلى الرأي العام، لاسيما في البلدان غير المستعدة لاتباع أو تاييد سياسة الحرب الوقائية، هذا عدا ميزانية وكالة
الاستخبارات المركزية الأمريكية السي آي أ، كما يسمح الكونغرس الأمريكي بكل شيء وبكل النشاطات بما فيها تلك الممنوعة واللاأخلاقية، كالأعمال الإرهابية والاغتيالات السياسية للتأثيرعلى الرأي العام العالمي والتأثير على الشعوب، إلى جانب شراء الذمم وتقديم الرشاوي للصحف والصحافيين ودور النشر ووكالات الأنباء والقنوات التلفزيونية الوطنية والفضائية، المستقلة والتابعة للدول والمنظمات والمؤسسات الدوليية، كما نقل الصحافي والمحلل الفرنسي المعروف تييري ميسان في كتبه ومداخلاته الإعلامية الكثيرة وعبر شبكة فولتير التي يرأسها.
ركز الإعلام الأمريكي، وتبعه في ذلك الإعلام العالمي والعربي، على بعض الجوانب التي قدمت، وكأنها مسلمات رسخت في أذهان المتلقي بفعل التكرار والتركيز عليها، وعلى راسها، أن صدام حسين لم يكن ديكتاتوراً عادياً كغيره ممن عرفتهم الشعوب المبتلاة، بل هو من طراز الديكتاتوريين "العمالقة" الاستثنائيين في التاريخ من أمثال "هتلر وستالين وبول بوت" ممن مارسوا الاضطهاد والقمع الشرس، وبوحشية تفوق التصور، ليس فقط ضد معارضيهم السياسيين فحسب، بل مارسوا أقسى أعمال العنف وارتكبوا أفظع الجرائم على نطاق واسع وضد شعوب بأكملها، لاسيما ضد المدنيين الأبرياء من أبناء شعبهم أو الشعوب الأخرى بسبب انتماءاتهم الدينية والعرقية والقومية والمذهبية والإثنية، والتي اعتبروها خائنة أو مشكوك بولاءاتها. وتفوق صدام على غيره من الديكتاتوريين في أنه الوحيد الذي استخدم السلاح الكيمياوي المحرم دولياً ضد شعبه، وبذلك استحق تسميته بمجرم حرب ومجرم ضد الإنسانية، ومجرم ضد السلام.
الملفت للنظر في الحرب الأخيرة على العراق، أنها اثارت حتى قبل اندلاعها رفضاً ومعارضة لم يسبق لها مثيل في العالم سوى إبان حرب فيتنام. وقد تجسد ذلك الرفض والاعتراض عبر تظاهرات مليونية ضخمة نظمتها قوى وأحزاب ودول مناوئة للولايات المتحدة الأمريكية في أغلب عواصم العالم. وكانت أغلبها تندد بالحرب، لكنها لم تذكر ولا بحرف واحد بجرائم الطاغية المعدوم التي لاتعد ولا تحصى، ولم تأخذ بعين الاعتبار معاناة الشعب العراقي ورغباته أو تمنياته بالخلاص من قبضة البطش والطغيان والاستبداد التي التي كان خاضعاً له لأربعة عقود خلت. بيد أن أخطر ما أفرزته تلك الحرب، بعد هذا العرض الصحافي العاجل، هو مناخ "المواجهة"، وهي ليست بالضرورة مواجهة عسكرية بين خصمين أو معسكرين أو عدوين واضحي المعالم، بل هي مواجهة بين الأوروبيين والأمريكيين، اللذين انقسما وتفرقا عن بعضهما بسبب هذه الحرب بعد أن كانا حليفين استراتيجيين، كما ابتعدا عن بعضهما بسبب فهمهما المتباين وتفسيرهما المتناقض لمفهوم "الخير والشر" الذي توسل به جورج بوش لتبرير مشروعه الحربي الطويل الأمد بدءاً بأفغانستان والعراق وانتهاءاً ربما بالصين
وروسيا، مروراً بإيران وكوريا الشمالية، وسورية وبعض دول الخليج المتشددة دينياً. معضلة الخير والشر ومن يمثلهما:
بين السخرية والاستهزاء، والاستياء، والامتعاض تناولت وسائل الإعلام تصريحات جورج بوش حول الله ومحور الشر والحرب الصليبية، ولقيت إدانة واستنكار من جانب السياسيين والصحافيين والمواطنين في بعض الدول الأوروبية، لاسيما فرنسا سواء بين أوساط اليمين أو اليسار، وبين المؤمنين المطبقين وغير المؤمنين، حتى بات الاختلاف بصدد هذه الأمور الحساسة بين الأوروبيين والأمريكيين أعمق مما تبدو في الظاهر واستحقت أن تعرض في إطار مقاربة ثيولوجية.
فالتركيز على المصطلحات "الدينية" التي استخدمها جورج بوش أفرز أول التناقضات. فمن جهة أتهمت الولايات المتحدة الأمريكية بأنها شنت "حربها القذرة" من أجل السيطرة على البترول، أي أنها حرب ذات منافع ومصالح اقتصادية، ومن جهة ثانية، وفي نفس الوقت أتهمت واشنطن من قبل الكثير من الأوساط الدينية، لاسيما الإسلاموية، بأنها تشن حرباً مقدسة، وهو التعبير التوراتي اليهودي ـ مسيحي الذي يقابل مصطلح الجهاد في الإسلام. وبين الاقتصاد والدين لم تقنع المبررات السياسية التي قدمت لتسويق صلاحية ومصداقية وصواب هذه الخطوة مما أغلق الطريق أمام أي نقاش أو جدال للأفكار.
استهجن الكثير من المسيحيين السلوك الديني الذي استند إليه جورج بوش، وأقحم إسم الله في ميوله العدوانية، وكأنه مخول من الله في ذلك. فحتى البروتيستانت الأوروبيين شهروا به خوفاً من وضعهم في خانة واحدة مع الإنجيليين الأمريكيين المعروفين بقراءتهم الأصولية المتشددة للتوراة والإنجيل. ولم تقتصر الإدانة على الاستخدام السياسي للتعابير الدينية، بل تعدتها إلى المعايير الأخلاقية المترتبة على تنصيب جورج بوش نفسه حكماً بين من وضعهم في خانة "محور الشر" مقابل من اعتبرهم يمثلون "محور الخير"، أي أمريكا وحلفاؤها، حيث قرر أن يحارب دول "محور الشر" بأي ثمن. والحال أنه لا يحق لأي ديموقراطية في العالم، مهما كانت قوتها وتفوقها الأخلاقي على الديكتاتوريات، أن تمنح لنفسها الحق باحتكار تجسيد "الخير" واعتبار الآخرين هم التجسيد الحقيقي "للشر"
علماً بأنه ليس هناك ما يشين أو يصدم النفس اعتبار نظام صدام حسين الدموي والسعي لامتلاك أسلحة التدمير الشامل والبطش والاستبداد ضد الشعوب كما في كوريا الشمالية، من الذين يمكن وضعهم في خانة "الشر" ولكن إذا استدعى الأمر محاربة "الشر" في عقر دار، فهذا لا يعطي من يدعي أنه يمثل "الخير" الحق في تصدير رؤيته للآخرين. وبعبارة أخرى لايمكن فرض أو تصدير الديموقراطية أو نقلها من الخارج وتطبيقها على الآخرين قسراً.
ليس غريباً أو جديداً على الأمريكيين الموسومين بالإيمان المسيحي، الخلط بين الله والخير والشر، والشيطان، كلازمة حاضرة في سلوكهم وتصرفاتهم ولغتهم اليومية. فالرؤوساء السابقون للولايات المتحدة الأمريكية كانوا يرددون دائماً في خطاباتهم وصلواتهم إسم الرب والعناية الإلهية. فالرئيس الديموقراطي فرانكلين روزفلت كان يتحدث سنة 1941 عن "الحملة الصليبية من أجل الديموقراطية". وعنوان مذكرات الجنرال الرئيس دوايت آيزنهاور هو "الكروزيد أي الحرب الصليبية" ويطلب بيل كلينتون من الرب أن يبارك جهود بلده الحبيب. ويردد دائما: " أدعو الله دوماً أن يسدد خطاي ويقودني ويكون دليلي وأتمنى أن تفعلوا نفس الشيء"، وأن يتاح لهذا البلد الكبير الذي اختاره الله ليقود العالم نحو السلام والرخاء، أن ينجح في مساعيه " حسب دعاء الرئيس هاري ترومان. وحتى على العملة الأمريكية الدولار طبعت عبارة "في الله نثق" وليحمي الله أمريكا. إن هذا الاستشهاد بالدين عن الأمريكيين يثير في الأوروبيين ذكريات أليمة عن أيام الصراع الحامي بين الكنيسة والدولة في سياق الرؤية المانوية أو الثنوية للعالم وتقسيمه بين الخير والشر، والله
والشيطان، والفضيلة والرذيلة والحقيقة والخطأ، والصدق والكذب، والتوبة والخطيئة الخ.... وبإسم السلطة الإلهية التي ادعتها الكنيسة الكاثوليكية، مورست أبشع أنواع التعذيب والعنف ومحاكم التفتيش ومطاردة الساحرات والعلماء والهراطقة والزنادقة في نظر الكنيسة بحجة محاربة غوايات الشيطان وإنقاذ الأرواح المنحرفة عن طريق حرق الأجساد وهي حية لتطهيرها من الذنوب، وبإسم الحقيقة التي تحتكرها الكنيسة وحدها، شنت الحروب الصليبية وانتشرت النزعة المعادية لليهودية بسب اعتقاد الكنيسة بخيانة اليهود في قتل المسيح. ومن هنا، وبعد صراع دام قرون، انتصرت الدولة الدنيوية الكدنية وصيغتها العلمانية على سلطة الكنيسة وفتحت المجال لنقد الدين واعتبر بعض الفلاسفة الدين بمثابة أفيون للشعوب والمتواطيء مع الأنظمة والقوى المهيمنة. ومع الوقت استوعبت الكاثوليكية النقد والابحاث النقدية والعلمية وقامت بمراجعة ماضيها واعترفت بأخطائها وطبقت مقولة المسبح ذاته إعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله واعتبرت الإيمان شأن شخصي بين الله والإنسان، وتقبلت الأمر الواقع واستسلمت له وفقدت الكنيسة تأثيرها على المجتمع، مما وفر فسحة كبيرة من
الحربات الشخصية والاعتقادية، وتعلمت العيش المشترك مع ديانات وثقافات أخرى متعددة بعد هيمنة دامت قرون عديدة. وسادت في المجتمع نزعة الشك الديكارتية التي سادت في قرن الأنوار وعصر النهضة وبالذات خلال القرن العشرين، مما جعل المجتمعات الأوروبية تتوجس من مقولات الخير والشر والإيمان والكفر واعتبرت الجمع بين السياسة والدين مصدراً خطراً للمشاكل والصراعات الدامية.
وهكذا نظرالأمريكيون في بادىء الأمر للحرب بأنها ضرورة دينية لمكافحة الشر المتمثل بالقوى الإرهابية الإسلاموية، بينما نظر إليها الأوروربيون بأنها شرمطلق، وهي أسوء الحلول، في حين اعتبرها البعض بأنها شر لابد منه.
الأمريكيون يعتبرون أن أعدائهم الإرهابيون المتطرفون يستخدمون الدين في مشروعهم التدميري، وإن الحادي عشر من ايلول هو إعلان حرب صريح ويتطلب الرد بالمثل وبأقوى ما يمكن من القسوة والحزم والصرامة. أما الأوروبيون، وبعد امتصاص الصدمة صاروا يرددون الفكرة التوراتية القديمة التي تقول: إذا كان لدينا أعداء، فهذا يعني أننا نستحق ذلك ولو كنُا هادئين ومستقيمين لما صار لنا أعداء. المهم ألا نناطح التاريخ المقرون بالحروب والمواجهات المسلحة والدامية، بل أنسنة العولمة في إطار احترام الاختلافات الثقافية فأعداءنا الحقيقيون ليسوا من يريدون بنا السوء، بل هم من يثابرون عل استفزاز الآخرين والتنديد بهم كأعداء كامنين يضمرون النوايا السيئة تجاهنا ". وبذلك تكون أوروبا من حيث تدري أو لاتدري، قد اعتبرت أمريكا هي العدو الذي يصنع الأعداء لها وللآخرين من حولها تلبية للروح الصليبية الانتقامية والتعطش للبترول وإشباع الأطماع الإمبريالية. وغالبا ما وصف الأوروبيون المعادون لأمريكا ذلك التعالي الأمريكي والنصر الموهوم بأنه نزعة إنقاذية أو خلاصية ثيولوجية ـ سياسية تنحو نحو تأصيل التعصب الديني ووضعه في مصاف
التطرف والتعصب الإسلاموي وأصبح جورج بوش صنو بن لادن.
ولكن ماهي هذه النزعة الميسيانية أو الخلاصية؟
ينبغي أولاً أن نحدد قصدنا بهذا التعبير، وهو أنه ذو بعدين سياسي ـ ثيولوجي إذا ما استخدمناه بمعناه المعاصر كما ورد على أفواه القادة الأمريكيين ويأخذ معنى اتهامي على أفواه مناوئيهم العلمانيين وغير المتدينين. لو عدنا إلى الجذر التوراتي في العهد القديم لوجدنا أنه ينطبق على أي مخلص سواء أكان راهب أو مبشر أو رسول أو نبي أو ملك اختاره الله لهذه المهمة الخلاصية أو الإنقاذية لما يتمتع به من مزايا وهبها له الله مسبقاً والأنموذج الأنصع لهذا المخلص تجسدت بالنبي والملك داود أو دافيد كما يسميه الغربيون والذي نجح في مهمة توحيد القبائل العبرية الإثني عشر التي كانت تقطن في مملكتي إسرائيل ويهوذا حوالي العام الألف قبل الميلاد. وبعد المجد والازدهار الذي شهدته مملكة إسرائيل في عهد الملك سليمان خليفة داود، حصل انشقاق وتشرذم بعد وفاة الملك سليمان، ودخلت المملكة في مرحلة الانحطاط وتمخضت عن انهيار مملكة إسرائيل ويهوذا على يد الآشوريين والبابليين وتدمير هيكل سليمان أو المعبد المقدس في القدس سنة 587 قبل الميلاد، وتعرض السكان للتهجير القسري والأسر الطويل الأمد في المنفى. ومنذ تلك الفترة،
تبلورت فكرة الخلاص وانتظار المنقذ أو المخلص، وترددت في كل كلام وأدعية ووعظ وخطب رجال الدين والأدبيات التنبؤية التي اتخذت صيغة الترجي المزدوج:الترجي والأمل السياسي أي الأمل في إعادة بناء مملكة إسرائيل، والأمل أو الترجي الآخروي، وانتظار عالم أكثر عدالة وحرية وسلام، حيث تجد كل آلام الأرض ومشاكل البشرية حلولاً وتعويضاً أبدياً. وكما سبق لله أن أنقذ شعب إسرائيل من العبودية سوف يعيده من الشتات والمنفى ويعيده إلى أرض صهيون وسوف تعترف كل شعوب الأرض بقانون الله وشريعته. هذا هو ملخص الأسطورة الميسيانية حسب جذرها الديني. وفي حقبة سيطرة الإمبراطورية الرومانية أصبح يسوع الناصري كما اعترف به أتباعه من المسيحيين أو النصارى بأنه المسيح المخلص. بيد أن يسوع رفض تحمل مسؤولية الزعيم والقائد السياسي لحركة الثورة ضد المحتل الروماني، وبالتالي اكتفى المسيحيون بفكرة الخلاص الآخروي، وتوجهت أنظار المؤمنين بالمسيح إلى يوم الرب الذي سيعود فيه يسوع المسيح كمنقذ ومخلص للبشرية في آخر الزمان قبل يوم البعث. وفي العصر الحديث تبنى جزء من الإصلاحيين البروتستانت القراءة الحرفية للعهد القديم وللصيغة
الخلاصية للتاريخ ومعهم بعض الطهرانيين، لاسيما ممن غادر العالم القديم في أوروبا واتجه إلى العالم الجديد المكتشف حديثاً أي أمريك،ا وشبهوا أنفسهم بالعبرانيين وأرضهم بأرض كنعان التوراتية وسموها كنعان الجديدة. وعلى نسق هذا التاريخ المختلط نسجت أمريكا تاريخها باعتبارها إسرائيل الجديدة التي باركها الرب وكلفها بمهمة إنقاذ البشرية، وهو الأمر الذي عرف في وسائل الإعلام بالدين المدني الأمريكي كما يفهمه ويطبقه الأمريكيون شعباً وقيادة ويتلخص بالعبارة التالية: إذا كان الله مع أمريكا فلا يمكن لأمريكا أن تهزم أو تقهر" واقترن ذلك بطرح نظري عرف بإسم فقه الترجي المتجه نحو المستقبل، والذي غدا الأيديولوجية الرسمية للولايات المتحدة الأمريكية. وهكذا، في الوقت الذي كان الرئيس الأمريكي يصلي فيه علناً من أجل جنوده المزجين في حرب خطيرة في العراق، ويستند في دعائه وصلواته إلى قيم يهودية ـ مسيحية توراتية وإنجيلية، رفضت فرنسا وبعض الدول الأوروبية العلمانية الأصول المسيحية للقارة العجوزة ورفضت ورود تلك الإشارات الدينية في ديباجة الدستور الأوروبي. وبذلك تعمقت الهوة وسوء الفهم والتفهم والشعور
بالاغتراب بين سكان شاطئي الأطلسي. ويعتقد الأوربيون بخلاف الأمريكيين أن حرب العراق ليست حرباً ومواجهة بين دينين وعقيدتين ولا بين حضارتين. ففي العراق يقتل المسلمون أبناء دينهم ويقتل العراقيون على يد قادتهم السابقين من عصابات البعث ألصدامي. وبالرغم من ذلك كشفت هذه الحرب شرخاً وتمزقاً عميقاً في النسيج الغربي يتجاوز الخلاف الظاهر بين حكومتي فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية ويغور هذا الجرح في ثنايا الشعبين الأوروبي والأمريكي.
د. جواد بشارة
باريس
Jawad_bashara@yahoo.com