في العلاقة ما بين الأفكار والوقت
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
كم من الوقت نحتاج لكي نبرهن لأنفسنا إننا قادرون على الإمساك بأفكارنا التي ما تنفك أن تهرب منا في لحظة ضجر أو ضعف أو اهتزاز أو تراجع، وهل مساحة رحبة من الوقت تصبح ضرورية لكي تمنحنا تواصلاً خلاقاً وعميقاً مع أفكارنا التي نشتهي أن تكون عاكسة للحظات التجلي حينما تنتابنا على حين غرة بين الفينة والأخرى.؟
في الحقيقة لا أعرف ما علاقة الأفكار بالوقت تحديداً، وأعترف أني في سبيل أن أجد مخرجاً من ورطتي هذه التي بالتأكيد قد علقت فيها، ولكن في كافة الأحوال، ربما تناول فكرة جديدة بمثابة مغامرة لا تخلو من متعة اجتراحها مدفوعين بغواية التفكير والبحث والتأمل..
ما أعرفه أن هناك أفكاراً لا تتنفس وجودها الطبيعي في حيز الواقع التداولي، إلا حينما نمنحها وقتاً كافياً بالاصطراع فيما بينها في دواخلنا، فلربما في هذه الحالة تخرج الأفكار منا معلنةً تصالحاً مريحاً مع ذواتنا، ولربما في حالة أخرى قد يقع التصدام والتنافر بين ذات الفرد وأفكاره حتى لو كان الوقت الكافي لتهيئتها وولادتها قد استوفى شروطه كاملاً، فهناك في النهاية شيءٌ في داخلنا يخبرنا بأننا دائماً سنكون على موعدٍ مع حالة من هذه أو تلك..
ويقيناً أن الأفكار عموماً لا تتنزل على الإنسان من فوق، ولا تتقاطر عليه من السماء، بل يبحث عنها طويلاً في محاولة منه لإثبات حقيقة تخصه أولاً وأخيراً، مفادها أنه قادرٌ على تلبية احتياجاته الذاتية والنفسية والشعورية والعملية من خلال اجتراحه المتواصل للأفكار والتصورات، وأيضاً لكي يُثبت أن الأفكار إنما تتوالد عبر علاقة حميمة مع خاصية التفكير الخلاق فيه، وبغير قدرته على امتصاص جنوحه المغامر وربما المضطرب في أحيان أخرى إلى عالم الأفكار الكثيرة التي تحتدم في داخله من خلال فسحة عميقة من الوقت يمنحها لنفسه ولأفكاره قد لا يصل ربما إلى حالة الحياد في علاقته التداولية مع الأفكار، ومن هنا ربما علينا أن نتأكد إننا نقف على الحياد حينما نخوض غمار الأفكار في محاولة للتماهي معها أو في محاولة للتماثل العملي معها، سواء أكانت أفكاراً ذاتية أم أفكاراً تسبح في الفضاء المزدحم، ففي كلتا الحالتين ربما يصبح الحياد ضرورياً في تناولنا للأفكار إلى أن يصل الوقت بنا إلى تيقن الذات من معرفة ما يلائمها أو ما يتوافق معها أو ما تنشد إليه أو ما بصدد الوصول إليه..
ولذلك ربما حينما نكون على خط التماس الفعلي مع أفكارنا أو أفكار الآخرين، علينا أن نجيد فن الإصغاء بعمق لذواتنا حينما تستنطق فينا أصواتها الخفيضة واحتياجاتها المشروعة ومتطلباتها العملية وما يلهم فيها التفكير والشك، وما يُشبع فيها أيضاً بدرجة أساسية نهم الارتواء المعرفي، وفي بعض الأحيان تهوى الذات المنتجة للأفكار أن تجد نفسها بين تموجات الأصوات المختلفة والكثيرة التي تنشأ هنا وهناك، لا لشيء سوى لأنها تريد أن تتأكد من مدى قدرتها على اجتراح صوت مميز من بين تلك الأصوات من دون أن تصاب بالتفكك أو الاهتزاز أو التراجع، أو أن تتأكد أيضاً من مدى استعدادها الطبيعي للتعايش مع ما حولها من أصوات مغايرة من دون أن تصاب بهوس التوجس أو بهواجس الذوبان والتلاشي، ولكن في أغلب الأحيان تبقى الذات المنتجة لأفكارها الخاصة تميل بقوة إلى الاصغاء لنداءاتها وأعماقها الداخلية، لأن ذلك يمنحها القدرة على اختيار ما هو أفضل لها، وقد نتفق تماماً في هذا الصدد مع ( وديع سعادة ) حينما قال: أريد أن أتكلم، أن أصنع جسراً من الأصوات يوصلني لنفسي..
ورغم ما تمر به الذات المفكرة في بعض الأحيان من رتابة الأشياء فيها أو من حولها وافتقاد تلك الأشياء تالياً لبريق الغوايات المثيرة والجاذبة، إلا إنها أي الذات تعرف جيداً أن هناك دائماً في الأفق شيء يستحق البحث عنه أو يستحق العناء من أجله، وربما في هذه الحالة من نزوع الذات نحو تجلي الأفكار الجديدة والمثيرة في الأفق الأبعد وفي أعماقها يتدخل الوقت كعامل مُلهم ليمنح الذات قدراً كافياً للتعايش معها في محاولةٍ للتأكد من صلابة تلك الأفكار، أو ربما على العكس من ذلك تماماً للتأكد من هشاشتها أوضبابيتها..
وإذا ما عرفنا بأن الأفكار في واحدةٍ من أكثر مهماتها ديناميكية وحيوية هي العمل على تفكيك المعاني والمفاهيم، وسعيها الحثيث لفهم الألغاز الكثيرة وقراءة رمزيات الأشياء المتنوعة، تصبح الأفكار في هذه الحالة معنية بتكوين علاقة متينة ووثيقة مع الوقت، لأنها بحاجة كبيرة إلى فسحة من الوقت لكي يمنحها هدوءاً عميقاً لاستيعاب وهضم تحولات المعاني والمفاهيم، ويمنحها في مقابل ذلك أيضاً استعداداً زمنياً مقبولاً يؤهلها للدخول إلى عالم الرمزيات والألغاز، ولذلك أجد أن الإنسان إنما يتلمس طريقه نحو التحولات الفكرية والمعرفية التي عادةً ما تتأسس على التفكيك والفهم والبحث والنقد والقراءة العميقة، عندما يعي أهمية أن يكون الوقت عاملاً مهماً وربما ملهماً لبناء تحولاته الفكرية الواعية..
وكما أن الإنسان عندما يجترح أوقاتاً استثنائية على الصعيد الذاتي في التفكير والتأمل وخلق الفكرة وقولبتها ومعايشتها بعمق، فأنه بالتأكيد يكون قد ذهبَ بعيداً إلى الحدود القصوى لتلك المدارات الفكرية والفلسفية محلقاً وباحثاً وربما مزهواً بانتصار ما، ومَن يغرمُ بمعايشة هذه اللحظات الاستثنائية ويهواها ويهيم بها تعلقاً وعلى هذا النحو من التحليق البعيد والعميق، فأنه ربما يفكر بشكل مغاير عن الآخرين، وينصهر توحداً مع تخلقاته الإبداعية والفكرية، ويجد ذاته معجونة بتلك اللحظات مستحضراً بمزاجية رائقة أبعاد كينونته الإنسانية، وربما يصبح الوقت الذي يلتحم تلقائياً بتلك اللحظات الباهرة، وقتاً استثنائياً هو الآخر، لأنه الوقت الذي لا يجد متعته الحقيقية في الالتحام إلا حينما ترافقه طقوس معينة، شديدة الخصوصية وشديدة التفرد..
وإذا ما اتفقنا مع الفيلسوف البريطاني ( برتراند راسل ) في قوله حينما أكّد على أنه ليس لديه أي استعداد للموت من أجل أفكاره، لأنه يعتقد أنه ربما قد يكون مخطئاً، نستطيع أن نقول أنه في هذه الحالة من اشتغال الذات على انتاج ما تتوصل إليه من أفكار معينة، إنما تفعل ذلك لأنها في سعي دائم نحو تحقيق نوعٍ من المقاربة الموضوعية مع حقيقة الأشياء في داخله أو من حوله، وربما ذلك يجعل الذات المفكرة المنتجة لأفكارها تهوى دائماً أن تبقى متحفزة لكي تجد نفسها في حدود متاخمة للحقيقة ولكن من دون أن تقع أسيرةً لفكرة ما، أو من دون أن تتلبسها يقينية المطلق من صحةِ أو حقيقة أية فكرة تنتجها أو تتماهى معها، وتكون الذات في كل تلك المراحل مسكونة بهواجس البحث والشك والتفكير، وعليه ربما يكون محقاً ( راسل ) حينما يقول: مشكلة العالم، أن الأغبياء متيقنون، والأذكياء متشككون..!! وما التحام الذات بتفاصيل اللحظات الوقتية التي ترافق تلك المراحل الفكرية في رحلة البحث عن تخوم المقاربة مع الحقيقة إلا استحضاراً شهياً لغواية الوقت حينما يجيد لعبة المراوغات الممتعة في أدق تفاصيله الزمنية الحاسمة، ليتسع الوقت أكثر أمام توهجات الأفكار، ومحتضناً في الآن نفسه كثافة التركيز الذهني على فكرةٍ ما قد تبرق في لحظةٍ خاطفة..
قد أصل هنا إلى نتيجة مفادها، أن الذات حينما تكون مسكونة دائماً بتأسيس صداقة تتفرد بالاحساس الحميمي والمترف والعميق مع الوقت، فإن الصداقة تلك تتمخض عن أفكار خلابة وصانعة للحياة، وحينما تهوى الأفكار أن تخامر لحظاتها الوقتية بعشق وانصهار وتلذذ، تصبح الأفكار في هذه الحالة عاكسة فعلية لذاكرة الإنسان المتحركة والمستنطقة، تلك الذاكرة التي تتخلق في كثافة الوقت الفعلي وربما في الوقت التخيلي أيضاً في أحيان أخرى، وتنغمس تلقائياً في تفاصيله وتسير به ومعه..
محمود كرم
كاتب كويتي
tloo1@hotmail.com