أصداء

أمريكا والبحث عن استراتيجية للخروج من بلد الـ كلشي ماكو

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

أمريكا والبحث عن استراتيجية للخروج من بلد الـ " كلشي ماكو"

الحلقة الأولى
ماذا جرى ويجري في العراق اليوم؟ وما سر التناقض في المواقف الأمريكية في هذه البقة المنكوبة من العالم؟ فمن جهة، يشتد الصراع بين القوى الحاكمة والمعارضة في واشنطن حول سبل وجدولة ومواقيت الخروج أو الانسحاب من هناك وفي أسرع وقت وبأقل الخسائر الممكنة، ومن جهة أخرى، تعلن مصادر موثوقة في الجيش الأمريكي أن هذا الأخير ربما سيحتاج للبقاء في العراق عشر سنوات إضافية قبل أن تهدأ الأوضاع وتغدو طبيعية؟ ماذا قدمت أمريكا للعراق عدا إطاحة نظام القهر والاستبداد واستبداله بنظام الفوضى والخراب؟ وأين هي الحرية والديمقراطية والسيادة والرفاهية والازدهار والتقدم كما سبق أن وعدت هذا الشعب المظلوم قبل غزو البلاد بقوة السلاح؟ لو سألنا أبناء العراق في كل مكان، كما رأينا ذلك عبر ريبورتاجات وتحقيقات تلفزيونية حديثة لسمعنا جواباً واحداً على كل الشفاه وهو " كلشي ماكو" أي لايوجد شيء. فكل شيء مفقود " لا أمن ولا استقرار ولاعمل ولا انتاج ولا ماء ولا دواء ولا غذاء ولا إعادة إعمار وبناء ولا خدمات. لا كهرباء ولا وقود ولا حياة طبيعية ولو استبدلت كلمة " لا " العربية بمعادلها في اللهجة العراقية لسمعت
كلمة " ماكو" أمام أية جملة أو مفردة، تتردد كلازمة موسيقية حزينة تجسد يأس المواطنين وغضبهم المكبوت. فهل من المعقول أن بلداً كأمريكا، ذلك المارد العملاق، الأغنى والأقوى والأكثر تطوراً في العالم، عاجزة عن توفير ولو الحد الأدنى من مقومات الحياة الكريمة؟ الجواب هو قطعاً بالنفي وبالتالي فإن ذلك يعني بديهة أن أمريكا متعمدة وقاصدة إذلال هذا الشعب وتركيع هذا الوطن المثخن بالجراح حتى بعد اختفاء جلاده تحت تراب العار لأنه السبب في كال ما حل بالعراق من دمار. لماذا إذن هذا السيناريو الكارثي المرسوم لأرض سومر وبابل؟ هنا تبرز للسطح ملامح وتأويلات "نظرية المؤامرة". ففي كل الأوقات والمناسبات كانت نظرية المؤامرة التي تدغدغ العقل العربي وتدفعه للسبات واللجوء إلى الحلول والتفسيرات التبسيطية السهلة وإلقاء التبعية والمسؤولية على عاتق "الآخرين" لاسيما" الصهاينة والإمبرياليين والإستعمار القديم والجديد والمخابرات الأجنبية واللوبيات وقوى النفوذ وأصحاب رؤوس الأموال والشركات العالمية المتعددة الجنسيات الخ..."وذلك كلما وقعت مصيبة أو حدثت نكسة أو إنكسار داخل مجتمعاتنا العربية والإسلامية،
أو هو القدر الإلهي الذي قدره الله علينا ولا راد لقدره، وما علينا سوى الاستكانة والقبول بالقضاء والقدر الإلهي كآخر ملاذ. وكلما وقعت مأساة أو أحداث تراجيدية، تتوجه الأنظار إلى "الأيدي الخفية" التي تتلاعب بنا، فهي التي تقف وراء أحداث لبنان القديمة والحديثة بما فيها حروبها الأهلية واغتيال قادتها وكوادرها ومثقفيها ووجوهها البارزة. ونفس الشيء فيما يتعلق بفلسطين والأراضي المحتلة والاقتتال الداخلي والانزلاق في أتون حرب أهلية دامية. وفي العراق نسمع نفس النغمة تتردد على الأفواه "هذه مؤامرة يحيكها الأعداء لتدمير العراق" وكأن العراقيين أبرياء مما يحدث لهم من كوارث ومآسي ودمار. وحتى في دول الغرب المتطورة لايخلو الأمر من وجود من يحمل هذا التفكير ويعتقد به بقوة ويرى أمريكا وأصابع الصهيونية في كل مكان وهي التي تقف وراء خراب الشرق الأوسط. ففي فرنسا صدر في الآونة الأخيرة كتابين في هذا الاتجاه هما كتاب الصحافي والمحقق الإعلامي والكاتب الفرنسي الشهير تيير ميسان بعنوان "الخدعة الرهيبة 2" والثاني يحمل عنوان "هاملت في العراق" للباحثة في مركز البحوث القومية الفرنسي والمدرسة في معهد الدراسات
السياسية في باريس الكسندرا دو هوب شيفر التي حاولت أن تأخذنا إلى قلب الحدث السياسي الشرق أوسطي وسبر أغور التناقضات الأيديولوجية والاستراتجية في ملف إدارة الأزمة العراقية في الجانب الأمريكي بعد مرور أربعة أعوام على إطاحة نظام الطاغية صدام ومحاكمته وإعدامه وسعت إلى إلقاء الضوء عبر تحليلها الجوهري لأهم وأعقد الرهانات المتعلقة بالسياسة الخارجية الأمريكية. العلة في مثل هذه الدراسات أنها متخمة بالوثائق والوقائع والأحداث والتواريخ، لكنها تفتقد للدقة العلمية والمعرفية لاسيما بالشخصيات الأجنبية وأدوارها الحقيقية، وثقلها ومدى تأثيرها على عجلة الواقع العراقي، ومدى نفوذها في الساحة العراقية..فالباحثة الكسندرا دي هوب شيفر لاتعرف بالضبط من هو مقتدى الصدر، وماهي درجته العلمية ومكانته الدينية والفقهية في سلم المراتبية الشيعية في المرجعية، ولا تعرف من هو أبوه، وكيف قتل. فتذكر وبتسرع أن أبوه هو الشهيد محمد باقر الصدر الذي أعدمه صدام حسين في سنة 1980. فهي لم تسمع بالشهيد محمد محمد صادق الصدر والد السيد مقتدى الصدر ولاتعرف عن المرجعية سوى إسم السيد السيستاني، نقلا عما ذكره عنه بول
بريمر في كتابه عامي في العراق. ومع ذلك اعتبر كتابها أحد المراجع الرصينة لمعرفة وفهم الاستراتيجية الأمريكية في العراق. وملخص الأطروحة التآمرية يقول أن أمريكا وربيبتها إسرائيل تقفان وراء كل تعقيدات وتفاقمات وتصعيدات المسألة العراقية من ألفها إلى يائها، لأن أمريكا تتلاعب بكل الفعاليات العراقية بصورة مباشرة أو غير مباشرة وتسييرها وفق ما تخطط له لتأمين مستقبل ملائم لمصالحها الحيوية في المنطقة، وبالتالي فإن كل الخطوات والإجراءات التي تقوم بها في العراق هي انجازات شكلية مفرغة من محتواها، وتفتقد للسلطة والسيادة والشرعية الحقيقية. واليوم عادت المخاوف مرة أخرى وهي لم تختف أصلاً، من اندلاع موجة جديدة من العنف الطائفي في العراق في أعقاب التفجير الجديد الذي تعرضت له مئذنتي المسجد الذهبي بسامراء يوم 13 يونيو الجاري بعد أن تعرضت مساجد سنية للحرق في البصرة و جنوبي بغداد.
هل صحيح أن إسقاط نظام صدّام في أبريل عام 2003 تم ونُـفِّـذ بدون برنامج سياسي واضح، عدا ما تم الاتفاق عليه في مؤتمر لندن، الذي عُـقد منتصف شهر ديسمبر 2002 والذي تنكرت واشنطن لنتائجه وتوصياته بمجرد دخول قواتها أرض العراق؟.
في تلك الأيام، كان كلا من رايان كروكر، السفير الأمريكي الحالي في بغداد، وسلفه زلماي خليل زاده في طليعة الأمريكيين العاملين على تنظيم اصطفافات المعارضين العراقيين، ومن بينهم مجموعة كانت إلى فترة قريبة مصطفة إلى جانب سلطة النظام الصدامي، لكنها انقلبت لأسباب انتهازية ومصلحية، ووقفت إلى جانب المشروع الأمريكي، وهو إسقاط نظام صدّام كمُـقدمة إلى إيجاد شرق أوسط كبير أو جديد.
وقد تمكن زلماي، الذي عيّـنه الرئيس الأمريكي جورج بوش سفيرا مفوّضا في القضية العراقية، من فرض رؤيته في المحاصصة الطائفية، والتي صارت فيما بعد هي السياسة المتبعة من قبل الحكم في العراق الجديد.
تتطلب تعقيدات الملف العراقي في نظر واشنطن إجراء مقاربة إجتماعية ـ سياسية ـ عسكرية في آن واحد لفهم واستيعاب واحتواء العنف السائد والمهيمن على المجتمع العراقي منذ سقوط نظام الطاغية صدام حسين إلى يوم الناس هذا.
فدعاة وأقطاب العنف المسلح يهدفون إلى استغلال " الفراغ الاسترايجي" وغياب "سلطة الردع" وانعدام" العقاب الفوري والقاسي "وهي الأساليب التي كان يلجأ إليها ويمارسها النظام المخلوع للمحافظة على سطوته وهيبته وخوف المجتمع منه. وقد اعترف البنتاغون بأنه باحتلاله للعراق قد ساعد على حدوث مثل هذا " الفراغ" الخطير، وهو يعرف ذلك سلفاً من خلال التقارير والدراسات التحليلية على الصعيد النظري على الأقل، بيد أن اعترافه بهذه الحقيقة جاء متأخراً وذلك في صيف 2005، أي بعدعامين من قيامه بغزو واحتلال العراق، وتجربته الفاشلة في الإدارة المباشرة له عبر الحاكم العسكري المتقاعد جي غارنر ومن بعده الحاكم المدني بول بريمر. وللتغطية على هذه المسؤولية الجسيمة عمد البنتاغون إلى نزع المصداقية والتقليل من شأن الحكومات العراقية المتعاقبة على السلطة والتشكيك بصدقيتها وإخلاصها ووطنيتها وقدراتها، والتي وصمت بأنها "حكومات المتعاونين مع قوات الاحتلال أي أنها "حكومات عميلة" من وجهة نظر المناوئين لها من يقايا النظام الصدامي البائد والجماعات السلفية والتكفيرية المتشددة. وفي نفس الوقت اتهمت الولايات المتحدة الأمريكية
حلفاؤها المحليين بأن الحكومات العراقية الجديدة التي ألفوها وقادوها خلال السنوات الأربع المنصرمة لم تفلح في تنفيذ وتطبيق سياسة الولايات المتحدة الأمريكية وتجسيد نواياها الإيجابية تجاه العراق بعد التخلص من عقبة النظام القائم قبل الغزو. وكانت الولايات المتحدة الأمريكية تتعامل بتعالي وغرور وبنوع من الاحتقار والاستهانة مع مختلف الحكومات التي تتالت على السلطة قبل وبعد الانتخابات، وذلك من خلال التصريحات والتقويمات والإملاءات والأوامر والإنذارات والجداول الزمنية المفروضة قسراً لتحقيق خطوات معينة تتماشى مع الأجندة الأمريكية لتلبي متطلبات السياسة الداخلية الأمريكية.
والحال، أن سوء التخطيط والخطأ في التقدير والحسابات لمرحلة ما بعد الحرب، واتباع استراتيجية " تدخل الحد الأدنى" والاكتفاء بالتواجد العسكري الرمزي في بعض المناطق، هو الذي دفع وشجع عناصر كثيرة من أتباع النظام السابق والمخلصين لنهجه من المجرمين العتاة ممن يؤمنون بتسليم العراق أرضاً محروقة وبلا شعب إذا ما خسروا السلطة وجلهم من عناصر المخابرات الصدامية السابقين وباقي الأجهزة الأمنية القمعية والمدربين على العنف والتعذيب وقطع الرؤوس والألسن والأذنين بوحشية، وأعضاء في المؤسسة العسكرية التي كانت مكلفة بحماية النظام كالحرس الجمهوري والحرس الخاص والأمن الخاص والقوات الخاصة وفدائيي صدام والجناح الصدامي المتشدد داخل حزب البعث المنحل، سمح لهم بإعادة تنظيم صفوفهم وتجميع قواهم واستثمار ما تركه لهم نظام الاستبداد من أسلحة كثيرة ومتنوعة وأموال لاتعد ولاتحصى بغية خلق وإثارة الفوضى في المجتمع وبث الرعب بين أبنائه وإعاقة العملية السياسة القائمة، وتخريب عملية إعادة البناء وعرقلتها، وفرض أنفسهم كلاعب أساسي وحاسم في اللعبة السياسية التي طفت على السطح كبديل عن الوضع السابق الذي كان بين أيديهم
وعمدوا إلى تأمين مصالحهم واستغلال الثغرات والأخطاء الفادحة في إطار من عدم الاستقرار وانعدام الأمن الذي هيمن على البلاد. وعلى حد تعبير أحد الدبلوماسيين الأمريكيين في أيار2004:" إن العنف في العراق بات منظماً ومبرمجاً لاقتناصه لفرصة الفوضى السياسية التي عمت خلال المرحلة الانتقالية والتي كانت ستقود حتماً إلى حكومة يقودها تحالف بين الشيعة والأكراد الضحيتين الأساسيتين لنظام القمع الصدامي". من هنا وعند قراءة المشهد العراقي من هذه الزاوية، ندرك كيف تضاعفت أعمال العنف مستغلة الفراغ السياسي والأمني الذي خلقته فترة الأشهر الثلاثة التي أعقبت انتخابات 30 يناير ـ كانون الثاني 2005 والمماطلات والمساومات التي تخللتها من أجل تأليف الحكومة الانتقالية في 28 نيسان 2005 والتي تأجل إعلانها عدة مرات بسبب تأخر المفاوضات والمداولات، وما واجهته من صعوبات وتنافر في المصالح وسوء تفاهم بين القوى السياسية العراقية العربية والكردية، السنية والشيعية، المتفاوضة على تقاسم السلطة والنفوذ والصلاحيات. وقد تفاقمت أعمال العنف منذ مجيء "حومة الوحدة الوطنية" إلى السلطة في أيار 2006 والتي حدد فيها رئيس
الوزراء العراقي الحالي الأستاذ نوري المالكي هدفاً استراتيجياً واساسياً يحظى بالأولوية القصوى، ألا وهو إستتباب الأمن، ومنح القوات المسلحة العراقية فرصة مناسبة وإمكانيات لكي تكون جاهزة ومجهزة ومستقلة وغير معتمدة على القوات الأمريكية للقيام بمهمتها في تحقيق الهدف الاستراتيجي الذي حدده رئيس الحكومة. كما بات على القوات الأمريكية المحتلة التكيف والتأقلم مع تحولات وتطورات أساليب التمردات المسلحة وتصعيدها لوتيرة العنف ومتابعة ورصد تنوع تكتيكات العنف والتمرد المسلح وهي مهمة كلف بانجازها جيمس دوبان منذ صيف عام 2003. فالعنف " العفوي أو التعبيري أو التنفيسي" كما وصفته الإدارة الأمريكية ووسائل الإعلام الأمريكية والدولية، والذي انطلق منذ التاسع من نيسان وشهري آيار وحزيران من عام 2003 والذي سماه العراقيون بـ " الحواسم" تترجم على أرض الواقع على شكل تظاهرات سياسية جماهيرية عشوائية وما رافقها من أعمال نهب وسلب وسرقات وسطو وهجمات من جانب عصابات الجريمة المنظمة على البنوك والمتاحف والمباني والمؤسسات الحكومية والقصور الرئاسية وبيوت المسؤولين في النظام السابق وذلك منذ اليوم الأول لسقوط
بغداد بيد قوات الاحتلال، ثم تحول هذا العنف فيما بعد إلى أسلوب تمرد مسلح منظم ومؤسس ومبرمج وفق تخطيط مسبق ومتعمد ومقصود يرمي لتحقيق نتائج وانعكاسات مطلوبة كناية للتعبير عن مشاريع سياسية واستراتيجية مضمرة وتعبير عن معارضة واحتجاج سياسي بأسلوب القوة وتكتيك لعرقلة أو منع تحقيق المشروع السياسي والاقتصادي البديل لنظام صدام المقبور.
ضخٌم التمرد العسكري والمسلح الشعور بعدم الأمان والتعرض لخطر الموت والخطف والتعذيب لدى العراقيين وقظم حجم الثقة التي وضعها السكان في الحكومات العراقية السابقة منذ مجلس الحكم إلى اليوم، باعتبار أن الحكومة العراقية هي المصدر الاساس والرئيسي لتوفير وفرض الأمن والنظام وحماية المواطن، علاوة على عجز الحكومات العراقية المتلاحقة منذ اختفاء النظام السابق إلى اليوم، عن الاضطلاع بمسؤولياتها الأخلاقية والمادية والمعنوية والسياسية والاقتصادية والأمنية. فلم تنجح أي من الحكومات العراقية البديلة لحكومة الدكتاتور المخلوع، في توفير الحد الأدنى من الخدمات الضرورية والأساسية للسكان في كافة المجالات، لاسيما، الطبابة والدواء الصالح للاستعمال والكهرباء والماء الصالح للشرب والوقود المنزلي والبنزين والنقل والحصص التموينية وغير ذلك. مما جعل المواطن العراقي يشكو باستمرار بأن أحواله ساءت وهي تسوء أكثر فأكثر يوماً بعد يوم خاصة في مجال الأمن الذي دفع بملايين العوائل للنزوح الجماعي والهجرة إلى المنافي في ظروف بالغة القسوة.
أمريكا والبحث عن استراتيجية للخروج من بلد الـ " كلشي ماكو"

د. جواد بشارة
Jawad_bashara@yahoo.com

لقراءة مقالات اخرى في ايلاف

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف