أصداء

مخاطر الحكم الذاتي من وجهة نظر مستقلة

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

بداية نقول ان { ارض ما بين النهرين } دولة العراق الحالية كان سكانها وقبل اكثر من سبعة آلاف سنة من اوائل المهتمين بالعلوم والثقافات، حيث اسسوا فيها حضارة عظيمة عرفت { بحضارة وادي الرافدين } ويذكر المؤرخون ان شعب "بابل وآشور" قوم حافظوا على لغتهم ودافعوا عن تأريخهم وعاداتهم قبل اعتناقهم المسيحية، واستمروا على نفس النهج بعد دخولهم المسيحية حتى يومنا هذا، وقد تعاقبت على سكن هذه الأرض اقوام اخرى متعددة الأعراق والأجناس والأديان جاءت من مختلف بقاع الأرض طمعا في خيرات ارضها ووداعة شعبها، لكن هذه الأقوام بكل تنوعاتها الدينية والقومية لم تشعر يوما بالإطمئنان والإستقرار بسبب الصراعات والحروب التي كانت دائرة بين انظمة الحكم آنذاك، الا ان شعوب هذه الأقوام بقيت محافظة على ثقافتها وعاداتها التي تدعو الى التعايش السلمي رغم اختلاف معتقداتها.

لقد تناوب على حكم العراق عبر انقلابات دموية اشكال متنوعة من الحكومات منها ملكية ثم اعقبها جمهورية شمولية وأنتهت بحكومة طائفية مزقت الشعب وارجعته الى عصر التخلف، لكن شعب العراق المتنوع الطوائف والأديان والقوميات بقي متمسكا بثقافته الإنسانية التي تدعو الى احترام الآخر مهما كان انتماءه ومعتقده كما ان الحروب الخارجية والصراعات الداخلية التي عصفت بالعراق كلها كانت بسبب سوء ادارة الحكومات ولم يكن للشعب اي يد فيها، ولذلك فمن الصعب اليوم في المجتمع العراقي ان ينفرد حاكم طائفي معين ليفرض ايدلوجية طائفته على الأخرين والحصول على مكاسب معينة.

واليوم وبعد ان قامت اميركا بغزو العراق وتعيينها حكومة محاصصة طائفية كلها عوامل ادت الى انتشار الكراهية والثأر المذهبي والفساد والفوضى، فتم استهداف العراقيين جميعا دون استثناء ومن ضمنهم المسيحيين الآمنين فطالهم القتل والتهجير القسري دون هوادة، حيث اجبر غالبيتهم للهروب والتوافد الى الشمال العراقي والذي يعتبر اليوم من المناطق الأكثر أمانا وازدهارا في العراق، وهنا لابد الإشادة بحكومة اقليم كردستان لما تقدمه من مساعدة في احتضان العراقيين وخاصة المسيحيين الهاربين من جحيم الطائفية والإرهاب ونخص بالذكر الأستاذ سركيس اغاجان الذي يبذل مع اخوانه الأخرين الجهود الحثيثة لتقديم كل المساعدة وافضل الخدمات.

ولو عدنا قليلا الى الوراء وتحديدا في بداية السبعينات سيظهر لنا ان اول من طرح مشروع الحكم الذاتي للأكراد كان في العراق وقد اعلنه احمد حسن البكر الذي كان يبسط قبضته على كل ارض العراق، فبالرغم من تشكيك البعض من القيادات المسيحية والإسلامية والعربية والكردية بمصداقيته الا انه تقدم به فعقد إتفاقا مع القيادة الكردية المسلحة لإنهاء الحرب بينهما وإعادة الأمن والإستقرار الى شمال الوطن، لكنه لم يتحقق في حينه بالشكل المطلوب لأسباب يجلها الكثيرون، لكنه وبعد ان اسقط نظام صدام حسين والغي الدستور حققت القيادة الأمريكية للأكراد ما كانوا يحلمون به، فتحقق الحلم واستقرت الأوضاع وعم السلام نوعا ما في ربوع الشمال، واعلن رسميا عن قيام "اقليم كردستان" حيث يحضى قادته اليوم دعما دوليا كبيرا بسبب نهجه العلماني والذي بات ظاهرا من خلال التعايش السلمي بين ساكني المنطقة ومن مختلف الأديان، وهنا اشير الى ان الأكراد الساكنين في شمال العراق ناضلوا طويلا وطالبوا الحكومات العربية التي حكمت العراق لمنحهم حكما ذاتيا يمارسون تحت ظله حقوقهم الثقافية والإجتماعية والقومية، لكن جميع هذه الحكومات العربية
التي حكمت العراق لم تصغي لمطالبهم الى ان إنقضّ حزب البعث على الحكم سنة 1968 فمنحوا حكما ذاتيا في 11 آذار من سنة 1973 الا انه تعثر فيما بعد لأسباب يجهلها الكثيرون كما قلت.....
ان العراق كما هو معلوم قد دمر بالكامل ونهبت كل مؤسساته المدنية والعسكرية واُغرق في حرب طائفية بدأت مع بداية اسقاط نظام صدام، كما ان اميركا صاحبة مشروع الشرق الأوسط الكبير قد اخطأت في حربها حين استندت الى معلومات غير صحيحة وخبيثة عن امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل وعلاقته بتنظيم القاعدة...الخ من معلومات اعترفت بها اميركا على انها كانت غير دقيقة، لكن الغريب ان اميركا وبالرغم من اعترافها بذلك، لكنها استمرت في ايذاء العراقيين بتنصيبها حكومة محاصصة طائفية سماها البعض { حكومة تقاسم الغنائم } حيث ان غالبية اعضاءها لا يمتون بصلة بالوطنية العراقية، فقد نهبوا العراق وافسدوا ثقافة العراق ومزقوا شعبه الى طوائف ومذاهب متصارعة وحولت ارض العراق الى كانتونات تعبث فيها ميليشيات غير منضبطة بعضها تابع لها والبعض الآخر جاء من خارج الحدود، مما ادى الى فقدان الثقة بها وبمشروعية وجودها.

وبالرغم مما تقدم ولحرصنا الشديد ندعو قادتنا السياسيين الى الحيطة والحذر والحصول على ضمانات دولية قبل كل شئ،حيث هناك من يتربص للإنقضاض وافشال اي توجه من شأنه ان يصون وجود شعبنا بتراثه وتأريخه المشرف، ولست هنا بصدد التشكيك او احباط العزائم حيث نسمع ونشاهد البعض من قادة الأحزاب المسيحية لا يضعون في حساباتهم اهمية دور واستقرار الحكم في العراق والمنطقة، كذلك فهم يتناسون الدور التركي الذي يتنامى ويحضى باهتمام اميركا، حيث اسرعوا باطلاق الدعوات وعقد المؤتمرات والندوات واللقاءات مطالبين القيادة الكردية منحهم هذا الحق في مناطق محددة ذات الكثافة السكانية المسيحية، مستبعدبن ما قد يحدث في المنطقة من متغيرات، في حين ان البعض الأخر يرى ان هذا التسرع قد يجلب لهم المصائب والويلات،خاصة وان سجل الحروب والتهجير والإبادة التي تعرض لها هذا الشعب في ايران وتركيا والعراق ما زالت في ذاكرتهم وهي بحاجة الى اكثر من جيل لنسيانها، كما ان التخبط الأمريكي الحاصل في العراق ودور ايران وتركيا في اعادة رسم خارطة المنطقة من الأمور المهمة التي يجب دراستها بكل جدية قبل كل شئ.

ان المرحلة تتطلب التوجه لفهم ستراتيجيات دول الجوار في العراق الى جانب المشروع الأمريكي في المنطقة والبحث عن الطرق الأمينة للتقرب والتعاون معها للحصول على ضمانات دولية لحماية وجودنا لأن شعبنا يعلم ان اميركا وحلفائها من العرب والأكراد لعبوا دورا سلبيا في بدايات القرن الماضي اتجاه تطلعات شعبنا نحو تحقيق اهدافه في الحرية.

كما نشير ايضا الى ان الكثير من العراقيين يعتقدون ان اللجوء الى القيادة الكردية لطلب منحهم الحكم الذاتي مشروع غير قانوني ولا دستوري، لعدة اسباب اولها...لأنه لا يمثل ارادة العراقيين جميعا..وثانيها ان الأكراد ما زالوا بانتظار قيام دولتهم المنتظرة والتي لا اعتقد بان اميركا وتركيا وايران مستعدة لدعمها.. وثالثها ان مشروع كيسنجر السابق لتقسيم العراق الى دول مستقلة في الشمال واخرى في الجنوب وثالثة في الوسط " والله خوش مشروع " فان مثل هكذا مشروع بحاجة الى قرار صادر من برلمان وطني عراقي منتخب بطرق شرعية والى اعتراف دولي، ولا ادري اين خارطة شعبنا منه !

ان مثل هكذا مشاريع خطرة وحساسة بحاجة الى نضج فكري عميق وهذا يتطلب تهيأت العراقيين ثقافيا واجتماعيا وسياسيا وقد يستغرق ذلك سنوات من الجهد التربوي، والا فان الحروب الحدودية والطائفية والقبلية والقومية والدينية سوف تندلع بين مكونات الشعب العراقي دون هوادة ولن تتوقف، ودعوة بسيطة ادعوكم فيها للبحث عن { السر } الذي أوصل الشعوب الأوربية للتعايش والإستقرار والتقدم والإزدهار فقد يكون ذلك درسا مفيدا لنا جميعا للعمل بموجبه !


يظهر ان طرح خيار الحكم الذاتي للمسيحيين قد يكون مقبولا حاليا من قبل القادة الكرد وذلك للظروف السياسية الحالية والتي يمرون بها والدعم المالي والمعنوي الذي يتمتعون به محليا ودوليا، ولكن قد لا يكون كذلك في المستقبل حيث قد يشعر بعض القادة الكرد بان هناك من يهدد مصالحهم المستقبلية بطلب الإستقلال كما كان يعتقد نظام صدام اتجاههم... ولذلك نقول ان الموضوع بحاجة الى الحصول على ضمانات اقليمية ودولية موثقة، والأهم وقبل كل شئ هو البدء بتأهيل شعبنا ثقافيا واقتصاديا وسياسيا واجتماعيا قبل اقحامه في مثل هكذا خيارات.

إن غياب الديمقراطية مع شيوع وتسلط ثقافة الطائفية على المجتمع العراقي وبضمنهم المسيحيون، ادى الى فقدان الثقة بكل المشاريع والخطط الصادرة من القيادات الحالية، كما ان غالبية سكان المنطقة الشمالية من المسيحيين والتركمان واليزيدية والشبك لم يجنوا من التعايش في ظل نظام صدام الذي ادخل العراق وبضمنه المنطقة الشمالية في حروب لم تنتهي الا بانتهاء نظامه المستبد، ان ما حدث في العراق قد فتح الباب على مصراعيه أمام استبداد اكثر قساوة من قساوة نظام صدام حيث تسلط طرف له اجندة خاصة به تملي عليه سياسة المناورة والتملص من الالتزامات الأخلاقية مما ادى الى انتشار الفوضى والقتل وتشتيت الوطنيين العراقيين من مسيحيين ومسلمين وغيرهم وما نراه اليوم من مأسي شملت الجميع خير دليل.


استفهامات كبيرة، تظل قائمة ما بقي العراق على هذه الحال وان مطلب الحكم الذاتي لبعض المكونات بحاجة الى تأجيل لحين مجئ حكومة مدنية نزيهة وغير طائفية تعمل على نشر المحبة وانهاء كل اشكال الثأر الطائفي والقومي والديني واحترام حقوق الإنسان، وان البدء بمشروع بناء مؤسسات تربوية مدنية تقودها كفاءات وطنية خالصة تشيع ثقافة وطنية جديدة تنشرعلى كل ارض العراق دون استثناء احد، سيكون هو الأصلح، حينها فقط نستطيع تنشيط فعالياتنا الإنسانية والبدء بالمطالبة السلمية في الحكم الذاتي والعمل لإرساء مفهوم الدين لله والوطن للجميع شعارا وطنيا...واذا اعتبرنا ان "الحكم الذاتي" هو شيوع الأمن والسلام لجميع العراقيين فاننا... سنبصم بالعشرة !

ادورد ميرزا
استاذ جامعي مستقل

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف