أصداء

محكمة الجنايات العراقية العليا (المختصة)1

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

محكمة الجنايات العراقية العليا (المختصة): تقييم المحكمة 1-3

محكمة الجنايات العراقية العليا (المختصة) هي احدى صنائع الاحتلال الامريكي بعد غزوه للعراق في آذار 2003. تشكلت هذه المحكمة بموجب الامر المرقم 48 في كانون الاول 2003، الصادر عن الحاكم المدني الامريكي السفير (بريمر) والقاضي بتفويض مجلس الحكم الانتقالي، سلطة انشاء محكمة عراقية مختصة، لمحاكمة صدام حسين واركان نظامه عن جرائم دولية.
وقد احتفظ السفير بريمر بحق الغاء وتعديل قانون تشكيل المحكمة، بموجب صلاحياته المنصوص عليها باللائحة التنظيمية رقم( 1 ) لسنة 2003 باعتباره اعلى سلطة تشريعية في البلاد خلال مرحلة حكمه في العراق وهذا يعني بان مجلس الحكم ما هو الا جهة استشارية لا حول له ولا قوة. وهذا الاجراء مشابه تماما للصلاحيات التي كان يتمتع بها صدام حسين بموجب دسنور عام 1970 المعدل، حيث كان يمتلك جميع السلطات باعتبارها وظائف تابعة للقيادة السياسية التي كان يمثلها.
وقد ورثت الحكومات اللاحقة لمجلس الحكم الانتقالي، جميع الصلاحيات الواردة في قانون تشكيل هذه المحكمة. وفي محاولة من حكومة د. ابراهيم الجعفري لاخفاء حقيقة كون هذه المحكمة تمثل ارادة وتوجهات سلطات الاحتلال والأحتيال على شرعية هذه المحكمة، فقد اصدرت الجمعية الوطنية المشكلة من القوى السياسية المساهمة في الحكم في ظل حكومته، القانون رقم 10 لسنة 2005 الذي تم بموجبه تغير اسم المحكمة من "المحكمة الجنائية العراقية المختصة" الى "محكمة الجنايات العراقية العليا" بينما بقيت جميع بنود قانون تشكيل المحكمة على حالها السابق وهي مخنصة بمحاكمة اشخاص معينيين ولفترة محددة من تموز 1968 الى ايار 2003 وعن جرائم دولية غير موجودة في القانون الجنائي العراقي.
وبفعل تفرد الولايات المتحدة بقرار الحرب على العراق، لم تستطيع الحصول على تفويض من الامم المتحدة بتشكيل محكمة جنايات دولية كما حدث مع يوغسلافيا السابقة ورواندة، لأن القانون الدولي يحرم استخدام القوة خارج اطار الامم المتحدة، حسب ما جاء في البند الثالث من المادة الثانية من ميثاق الامم المتحدة، الذي يطالب جميع اعضاءه بفض نزاعاتهم الدولية بالوسائل السلمية، حتى لا يتعرض السلم والامن والعدل الدولي للخطر والانهيار.

وهذا ما جعل موضوع تشكيل محكمة الجنايات العراقية العليا (المخنصة)، كما هو الحال مع موضوع حرب العراق، مجال جدلا وخلاف واسع في الاوساط القانونية، واثار ردود فعل متباينة حول العالم.
ولما كان قرار حرب العراق بدون سند قانوني، مما ينطبق عليه أركان جريمة (العدوان)، كما جاء بتعريف هذه الجريمة بقرار الامم المتحدة المرقم 3314 في تاريخ 14-12-1974. وهي جريمة دولية ضد السلام العالمي وانتهاك خطير لميثاق الامم المتحدة، وهذا ما أكده الامين العام السابق للامم المتحدة السيدكوفي عنان. وتبعا لذلك فان قرار تشكيل محكمة الجنايات العراقية العليا (المخنصة) هو الاخر لا يمكن ان يعتبر قرارا شرعيا، وفقا للقاعدة القانونية العامة (المبني على الباطل باطل).
وهذا ما طبق فعلا على العراق من قبل الامم المتحدة عندما احتل الكويت عام 1990. فكلا الاحتلاليين جريمة دولية ضد السلام العالمي وتترتب عليها مسؤولية دولية كبيرة ونتائج خطيرة. وتبرهن هذه الحقيقة، الاوضاع الراهنة في العراق التي اصبحت تشكل خطرا داهما على الامن والسلام الدوليين، التي لم تحدث لولا جريمة العدوان واحتلال العراق وخرق الولايات المتحدة وحليفتها بريطانيا لقواعد القانون الدولي.
ولم تكتفي الولايات المتحدة بخرق ميثاق الامم المتحدة، بل انها لم تنفذ التزاماتها كدولة محتلة بموجب اتفاقيات لاهاي الرابعة لعام 1907 واتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، الخاصة بالحروب التي صادقت عليها الولايات المتحدة الامريكية في 2 شباط 1956، والتي تفرض على الولايات المتحدة احترام القوانيين المحلية المعمول بها وعدم التدخل فيها، وخصوصا فيما يخص القوات المسلحة والشرطة والنظام القضائي والقانون المدني وغيرها من التشريعات. وقد تجسد اختراق الولايات المتحدة للقوانيين العراقية بمنح مجلس الحكم حق تشكيل هذه المحكمة، للنظر في جرائم دولية، غير منصوص عليها في القانون الجنائي العراقي، مما شكل خرقا للقاعدة القانونية العامة (لا جريمة ولا عقوبة الا بنص).
كما ان تدخل قوات الاحتلال في شؤون القضاء العراقي وتشكيل محاكم خاصة خارج نطاقه، هو مخالف ايضا لتشريعات الاحتلال كما جاء بالمادة 15 من قانون ادارة الدولة العراقية وكذلك المادة 58 من الدستور العراقي الحالي، التي تحرم وبشكل قاطع وواضح وصريح، تشكيل المحاكم الخاصة او الاستثنائية، كما ان المادة 14 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية حرمت تشكيل مثل هذه المحاكم الخاصة لانها تخل بالضمانات التي تتطلبها قواعد العدالة.
يستنج من الممارسة العملية للولايات المتحدة الخاص بقرار تشكيل هذه المحكمة الجنائية، ان تحقيق العدالة لضحايا نظام صدام لم يكن الدافع الاساسي للولايات المتحدة، فهي لم تحاكم صدام واركان نظامه الا جزئيا عن قضيتي الدجيل والانفال التي من شأنها اثارة النعرات الطائفية والعرقية، واستندت في ذلك الى مبررات سياسية، واهملت العديد من الانتهاكات الاخرى التي مارسها نظام صدام وبعضها كانت خطيره كغزوه للكويت، وهذا يعكس حقيقة حذر الولايات المتحدة وتخوفها من محاكمة صدام عن قضية احتلال الكويت لانها ستكون ذات صلة بقضية الاحتلال الامريكي للعراق، وربما قد تظهر حقائق لا ترغب الولايات المتحدة ان يطلع عليها الراي العام العالمي لانها مخالفة لسياستها المعلنة؟!

وبغية تعزيز سلطة الاحتلال والهاء الشارع العراقي عن غايتها الحقيقة، تم تشكيل الهيكل التنظيمي للمحكمة واختيار القضاة والمدعيين العامين، على غرار صيغة المحاصصة الطائفية والاثنية التي تشكل بموجبها مجلس الحكم الانتقالي وفق اللائحة التنظيمية المرقمة (6) لسنة 2003. واصبح الادعاء العام والمحكمة، يراسها الشيعة والاكراد بالتناوب لمحاكمة متهمين من العرب السنة، مما اعطى للمحكمة نزعة طائفية/اثنية واضحة، قادت الى انقسام الشارع العراقي انقساما حادا بين مؤيد لهذه المحكمة، يعتبرها تجسيد للعدالة، وبين معارض يعتبرها غير شرعية جاءت للانتقام المذهبي والعنصري. ومبررات واسانيد مؤيدي المحكمة ان صدام واركان نظامه وجه قمعه ضد الاكراد والشيعة فقط، وقد عززت هذه الاطروحة الخاطئة الولايات المتحدة وبريطانيا منذ حرب الخليج الثانية وطرد صدام من الكويت، من خلال جميع وسائل الاعلام وخلقت معارضات عميلة هيئت لمؤتمرات عديدة قبل احتلال العراق.

ومن السمات البارزة لهذه المحكمة هو عدم استقلاليتها، فهي مرتبطة كليا بالسلطة التنفيذية من حيث اختيار وتعيين القضاة والمدعيين العاميين وترقيتهم ومنحهم المكافئات وغيرها من الامتيازات مما يتعارض ذلك مع المعايير المطلوبة للامم المتحدة لعام 1990. وان ماورد بقانون تشكيل هذه المحكمة يؤكد هذه التبعية وعدم استقلاليتها وكالآتي:
اولا: خولت المادة (5/ثالثا) من قانون المحكمة السلطة التنفيذية (مجلس الحكم او الحكومة الوارثة) صلاحية اختيار وتعيين القضاة والمدعيين العاميين خارج اطار النظام القضائي العراقي.
ثانيا: منحت المواد (5، 7) من قانون المحكمة السلطة التنفيذية صلاحية منح المكافئات للقضاة والمدعيين العاميين، مما يؤكد تأثير هذه السلطة على استقلالية واستقامة وحياد المحكمة.
ثالثا: اشترطت المواد (5/سادسا و 7/ثالث عشر و 8/سادسا) تعيين القضاة والمدعيين العاميين من الأشخاص الذين لفق ضدهم نظام البعث السابق اي تهمة. اي ان هذا القانون قد اصر على ان يكون القضاة والمدعيين العاميين من الخصوم المباشرين للمتهمين التابعيين للقوى والاحزاب الطائفية والاثنية التي كانت في المعارضة المسلحة ضد النظام السابق والتي جاء بها الاحتلال لحكم العراق. وقد تأكد ذلك من خلال عرض بعض الفضائيات يوم 7/6/2007 لقطات من حفل اعدام صدام حسين، حيث ظهر المدعي العام (منقذ الفرعون) محمولا على الاكتاف وهو يردد شعارات طائفية بهذه المناسبة.

ان عدم استقلالية المحكمة وتشكيلها من خصوم مباشريين لصدام حسين واركان نظامه، يخل بالمواثيق الدولية (اتفاقيات جنيف)، كما انها مخالفة بشكل واضح وصريح لاحكام قانون المرافعات المدنية العراقي لعام 1969 الذي نصت مواده (91، 92 و 93) بعدم جواز نظر الدعوى من قبل القاضي "اذا كان له او لزوجه او لاحد اولاده او احد ابويه خصومة قائمة مع احد الطرفيين في الدعوى او مع زوجه او احد اولاده او احد ابويه...الخ". اذا كانت المواثيق الدولية والقوانين الوطنية، تمنع القاضي من النظر في اية دعوى في حالة الخصومة البسيطة..فكيف الحال اذا كان القاضي من اطراف المعارضة المسلحة للمتهم وله خصومة سياسية عميقة معه..؟!
ومن الملفت للنظر خلال جلسات المحاكمة، تاكد بان مؤهلات القضاة والمدعيين العاميين في المحكمة كانت على شاكلة الاحزاب السياسية التي تسلمت السلطة في العراق. فلم يشترط قانون المحكمة لتعيين القضاة والمدعيين العاميين، المؤهلات المطلوبة للقضاة الدوليين، لا بل لم يشترط في تعيينهم الشروط المنصوص عليها في قانون التنظيم القضائي العراقي لعام 1979، بل اجاز تعيين الحقوقيين والمحاميين من غير القضاة في هذه المناصب الحساسة والحيوية للغاية..!
لذلك فان قانون المحكمة قد وضع شروط خاصة للتعيين كما جاء بالمادة (5/ثانيا) من القانون، ترتبت عليها اختيار قضاة ومدعيين عاميين لم تتوفر فيهم المؤهلات القانونية، ما دام هؤلاء القضاة والمدعيين العاميين سينفذون اساليب نمط السلطة السياسية في التفكير التي جسدت سياسة الاحتلال في العراق، مما لايسمح ذلك اي مجال للشك بان هذه المحكمة قد شكلت خلافا للقانون الدولي لتحقيق اغراض سياسية.


ان المعطيات المذكورة اعلاه تدل على ان هذه المحكمة مسيسه تأتمر باوامر الحكومة وسلطات الاحتلال في اصدار قراراتها. وساذكر بعض الادلة التي تؤكد ذلك:
اولا: اعلن رئيس المحكمة، القاضي الكردي رزكارمحمد امين، عند استقالته، بان السبب في استقالنه هو تدخل الحكومة السافر في شؤون المحكمة.
ثانيا: اقالة القاضي عبد الله محمد العامري من رئاسة المحكمة من قبل رئيس الوزراء لاسباب تافهه جدا.
ثالثا: تحديد مواعيد المحاكمات من قبل رموز السلطة التنفيذية كما فعل د. ليث كبة (المتحدث باسم رئيس الوزراء الانتقالي) عندما حدد موعد محاكمة صدام ستكون يوم 19 /10/2005 في حديثه بتاريخ 4/9/2005. وقد اعقبه د. ابراهيم الجعفري بتأريخ 30/9/2005 بتأكيده على انه لا يسمح مطلقا في تأجيل موعد المحاكمة عن الموعد المقرر وهو 19/10/2005. وهذا تدخل سافر في شؤون القضاء، لان القضاء في اي دولة من دول العالم، مهما كان تقدمها او تخلفها، هو صاحب السلطة في تحديد مواعيد المرافعات، التي تخضع لاعتبارات عديدة، منها مدى جاهزية القضية للنظر بها، وملائمة الظروف الاجتماعية والسياسية والامنية، وجاهزية القضاة انفسهم...الخ

من خلال هذا الطرح القانوني والواقعي عن هذه المحكمة، يمكن تشخيص مدى انتهاك هذه المحكمة لمبادئ العدالة وحقوق الانسان والمعايير الجنائية العراقية والدولية وبالتالي نستطيع التوصل الى مدى تأثيرها السلبي على مشاعر المواطنيين العراقيين وتجذير النعرات الطائفية والعرقية بينهم.

فلا تختلف هذه المحكمه في تأثيرها السلبي على مشاعر الناس عن تلك المحاكم الخاصة التي كانت سائدة في الانظمة السابقة، كالمحاكم العسكرية العرفية ومحكمة الثورة والمحاكم الجنائية الخاصة الاخرى، ويمكن القول بانها اسوأ منها بكثير لانها كرست العداوة والحقد والضغينة الدينية والطائفية والعرقية بين ابناء الوطن الواحد. وقد اثرت كثيرا على السلطة القضائية وحكم القانون في العراق وهو موضوع الجزء الثاني من هذا البحث.

د. طارق علي الصالح
مستشار قانوني ورئيس جمعية الحقوقيين العراقيين-لندن

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف