كارل ماركس في السودان!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
قبل أن أهم بالنظر في أطروحة السيد راشد مصطفى بخيت التي نشرها قبل يومين حول تجديد الماركسية أحب أن أسوق بعض الحقائق عن السودان من شأنها أن تساعد في إدراك آفاق السيد بخيت ومثله إبراهيم نقد في تجديد الماركسية بالنسبة للأول وفي التخلي عنها بالنسبة للثاني الذي ما زال يشغل مركز الأمين العام للحزب الشيوعي السوداني.
بالرغم من أنف الإستعمار الإنجليزي لأكثر من نصف قرن ظل المجتمع السوداني مجتمعاً بطريركياً بامتياز رغم أن الاستعمار ينحو دائماً بحكم طبيعة تكوينه إلى إلغاء النظام البطريركي الرعوي. وهو مازال أيضاً بعد نصف قرن من الإستقلال وما تخلله من عدة قفزات في المجهول، ما زال يحتفظ بطبيعته البطريركية الخالصة. قبائل العرب في الشمال تستغل وتستعبد قبائل الأفارقة وهم المواطنون الأصليون في الجنوب وفي الغرب، ومذابح دارفور التي تقترفها قبائل الجنجويد العربية بحق القبائل غير العربية خير مثال على ذلك. أما لماذا لم تتطور بنية المجتمع السوداني فذلك بسبب اقتصار الإنتاج في عموم السودان على الإنتاج الزراعي والرعوي المتخلف.
مع كل ذلك ينبري السيد راشد مصطفى بخيت من السودان لتجديد الماركسية (!) ويرتكز في ذلك وفقاً لادعائه على معارف علمية متقدمة يلمّ بها لم يكن ليعرفها ماركس أو إنجلز قبل مائة وستين عاماً. وما كنا لنكذب ادعاء البخيت ومعارفه العلمية لولا أنه اعترف بالرغبة في تجديد الماركسية رغبة " عفوية " أي دونما أية أسباب وقبل أن تبدو شارات الوهن على مجموعة الدول الإشتراكية والإتحاد السوفياتي بشكل خاص. واعتراف البخيت برغبته " العفوية " هذه سمح لنا بالإعتقاد أن البخيت ومذ كان صبياً يافعاًً رغب في تجديد الماركسية. لعل المعارف الجديدة المتزاحمة في عقله لم تجد مكاناً لها في البناء الماركسي " المكتمل " في عقله كذلك.
وهنا يقول البخيت أن معارفه العلمية والفلسفية تساوي ضعف معارف ماركس فلماذا إذاً لا يهم البخيت في مراجعة الماركسية وتصحيح أخطائها!! ولماذا تقبل اعتمادية ماركس وإنجلز ولا تقبل اعتمادية راشد مصطفى البخيت؟؟ ـ على العالم أن يعي اعتمادية البخيت ويتقبلها! ولماذا لا يكون ماركس سودانياً أيضاً؟!!
يستعرض أخونا البخيت اعتماديته فيقول.. " ليست الماركسية منهجاً علمياً شاملاً ومكتملاً وسع كل المعارف البشرية من تاريخ وفلسفة واقتصاد وعلوم وطبيعة وخلافها من العلوم الأخرى المختلفة كما يراها العديد من المراكسة "!! وأول حجة يقدمها البخيت للطعن في اعتمادية كارل ماركس هي تعريف ماركس ل " الطبقة الإجتماعية "، فهذا التعريف لا ينطبق على الطبقات الإجتماعية في السودان (!!) ـ أي هذر هذا الذي تهذي به بعض الجماعات السودانية من أمثال راشد البخيت وابراهيم نقد؟!! السؤال الأحجية الذي يطرحه علينا السيد البخيت هو.. لماذا لم يكتب كارل ماركس بيانه الشيوعي في العام 847 وليس في العام 1847 كي يطابق تعريفه للطبقة أحوال الطبقة السودانية ـ نسوق مثل هذا السؤال كي نبيّن سوية الذين يتنطحون لتجديد الماركسية! وما يزيد من مرارة السخرية في هذا المقام هو أن السيد البخيت اشترط أن يتجند للتجديد أولئك الذين " يعرفون " فقط! ـ وهو رائدهم بالطبع. وعلي أن استسمح البخيت هنا لأقول أن الإنطباع الذي يتركه البخيت على القارئ البسيط هو أنه، أي البخيت نفسه، لا يعرف حدود الطبقة الإجتماعية!! ليحاول البخيت رسم هذه الحدود كي يتبين له أثناء ذلك أن تعريف ماركس للطبقة الإجتماعية سيجده في تربة المجتمع السوداني أيضاً المغرق في بطريركيته وبتخلف وسائل الإنتاج فيه.
يتجرأ البخيت لينقض " المادية التاريخية " فيقول يتوجب.. " الإعتراف بالعوامل الغير مادية كعنصر من عناصر حركة التاريخ ". البخيت ليس ملوماً على هذه الجرأة التي تتجاوز كل الحدود طالما أنه رأى بأم عينيه التاريخ في السودان يتغير بفعل الإمام الولي " المهدي " والولي حسن البشير ورفيقه الولي حسن الترابي ـ نبي الإسلام، محمد، فهم المادية التاريخية أكثر مما فهمها مجدد الماركسية البخيت. نادى محمد الفقراء لقتال تجار قريش الأغنياء. أدرك محمد بحسه الغريزي أن التاريخ تصنعه المصالح الطبقية. لم يقل محمد أن الملائكة تصارع الشياطين كما قد يرتسم في مخيلة راشد البخيت بل قال إن الصراع يحتدم دوماً بين الطبقات تبعاً لمصالحها المتباينة والمتعارضة. البخيت الذي تتملكه الرغبة العفوية ـ كما وصفها نفسه ـ بتجديد الماركسية لم يدرس ديالكتيك ماركس وإنجلز، وإن درسه فهو لم يدرك العلاقة الجدلية بين البناء التحتي للمجتمع، وسائل وعلاقات الإنتاج، والبناء الفوقي من ثقافة وفكر. البخيت يقطع هذه العلاقة الجدلية المباشرة بين البناءين ليوسط اللغة بينهما ـ ولم يكن البخيت موفقاً في هذا القطع، وفي هذا المقام ننصح البخيت نصيحة أخوية في أن يقلع عن تجديد الماركسية ليجتهد في تحسين لغته العربية الركيكة، هذا إن لم يكن يفكر باللغة الإنجليزية أو الألمانية ـ حتى الله نفسه، يا بخيت، يتشكل متناسقاً مع البناء التحتي ولذلك تجد لكل مجتمع إلهه الخاص به والمختلف ولو ببعض التفاصيل عن إله المجتمع المجاور رغم اشتراكهما بذات الدين. بل وبناء على أحدث الدراسات اللاهوتية والمثيولوجية فإن لكل طبقة إلهها المختلف. وإلاّ فكيف لألف إله وإله بادوا وانقرضوا بزوال محطات كثيرة من سلسلة المحطات الحضارية المتعاقبة في تاريخ شرق المتوسط؟ وكيف لأحدهم والحالة هذه أن يزعم بأن.. " العوامل الغير مادية.. من عناصر حركة التاريخ "؟!! ثم لماذا يقول البخيت قوله ويمشي دون أن يذكر لنا عاملاً واحداً فقط من العوامل غير المادية التي تحرك التاريخ؟
نقول للبخيت أن من يتنطح لتجديد الماركسية عليه أن يبقي ولو على شعرة معاوية معها وإلا فالتخلي عنها أجدى له وأشرف؛ وليكن مثاله إبراهيم نقد، الأمين العام للحزب " الشيوعي " السوداني، الذي تخلى عن الماركسية فأراح واستراح ولم يتجشم عناء تجديدها كما يعاني البخيت. يقطع البخيت شعرة معاوية ساخراً من ماركس وفلسفته ونقده للنظام الرأسمالي!! يقول البخيت ساخراً.. " لم تعد هذه الرأسمالية كما كانت عليه في السابق ـ حاملة عناصر فنائها بداخلها ـ وتنتظر حتميتنا التاريخية مزيلة إياها بفعل السحر أو القدر! ". كيف لمن يقدم نفسه للعالم على أنه مجدد للماركسية ويشبه ماركس بذات الوقت بالساحر المشعوذ الذي أقنع العالم، ومنه البخيت نفسه، بأن الرأسمالية ستفنى بفعل مكوناتها؟ ـ هذا منطق المعارض والمعادي وليس منطق المجدد.
ماذا بقي من البخيت ماركسياً وهو المتيقن يقين فرانسس فوكوياما (نهاية التاريخ) أن النظام " الرأسمالي " القائم اليوم لن يزول ولن يفنى؟! ـ إنها إذاً نهاية التاريخ!! الآلهة فنيت يا بخيت، فكم بالحري هذا العالم المادي؟ ومما يثير مر السخرية هو اعتقاد البخيت أن نظام الإنتاج السائد اليوم في العالم هو النظام الرأسمالي. أنا أراهن مقابل أن أتخلى عن الماركسية، كما تخلى إبراهيم نقد، على أن السيد راشد مصطفى البخيت ـ ومثله إبراهيم نقد ـ لا يعرف شيئاً من نظام الإنتاج الرأسمالي. راشد مصطفى البخيت يبشر العالم بأنه في صدد تجديد الماركسية والعالم لا يعرف بأن راشد مصطفى البخيت لا يعرف حرفاً واحداً من حروف النظام الرأسمالي. لعله لا يعرف أن الصين " الشيوعية " هي التي تلبي معظم احتياجات شعب الولايات المتحدة الأميركية. فكيف سيعقل عاقل أن الولايات المتحدة الأميركية ما زالت قلعة الرأسمالية الإمبريالية؟؟ ليجبني البخيت نفسه! الدول الرأسمالية الكلاسيكية تعيش اليوم على الإستدانة بينما ألفباء النظام الرأسمالي هي فيض الإنتاج الذي يجسد فائض القيمة أو أرباح الرأسماليين. في الحقيقة أنا لا أحب أن يلوي العالم شفتيه سخرية من السيد البخيت وادعائه بتجديد الماركسية.
كل الذين يعيبون على الفكر الماركسي غياب الديموقراطية هم في حقيقة الأمر أناس اختلط عليهم الأمر فظنوا حقوق الإنسان أهم عناصر الحكم، أي علاقة الدولة بمواطنيها أو النظام الإجتماعي الذي تدافع عنه الدولة وتدفع بمواطنيها إلى الانتظام فيه. دولة البروليتاريا هي أكثر الدول ديموقراطية ونحيل المشككين بهذه الحقيقة إلى الدولة السوفياتية في بداية عهدها 1917 ـ 1918 أي قبل أن ترفع السلاح بوجهها جبهة واسعة من الأحزاب البورجوازية والرجعية. كانت الحريات في ذلك العام بلا سقف أبداً. بل إن تروتسكي ظل ينشر مقالاته التي تهاجم بقسوة قيادة الحزب والدولة في جريدة الحزب، البرافدا، حتى عام 1927.
يتجاهل المشككون في ديموقراطية دولة العمال العداء والتآمر الواسعين عليها اللذين تعهدهما أعداء الإشتراكية في طول العالم وعرضه. لقد واجهت الدولة السوفياتية الأعداء من كل صنف ولون. فقبل أن تلتقط أنفاسها في ربيع 1918 رفع الأعداء السلاح بوجه البلاشفة بقصد إبادتهم عن بكرة أبيهم. وفي السنتين التاليتين دخل الأراضي السوفياتي أربعة عشر جيشاً أجنبياً تقاتل البلاشفة منها جيوش الدول الكبرى جميعها دون استثناء. في الثلاثينيات أرسلت مخابرات الدول الإمبريالية آلاف المخربين لتخريف مشاريع التنمية الخماسية. وفي الثلاثينيات أيضاً حاكت الدول الرأسمالية الكبرى وأخصها بريطانيا المؤامرة الكبرى في تنمية العسكرية النازية الألمانية للقضاء على الدولة الإشتراكية الأولى في العالم. كثيرون هم من يسيئون فهم الإجراءات التي اضطرت الدولة السوفياتية لاتخاذها حماية للخيار الإشتراكي الذي اتخذته الشعوب السوفياتية. كانت الدولة السوفياتية قبل الحرب العالمية الثانية جزيرة في محيط رأسمالي إمبريالي. لو كان الأمر عكس ذلك لما اضطرت الدولة لاتخاذ أية إجراءات ضد معارضيها مثلما قارفت الدول الرأسمالية إعتداءاتها على حقوق الأفراد والجماعات المعارضة لنظامها الإجتماعي. أولى الديموقراطيات الرأسمالية مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا كانت تحرم الشيوعيين وأصدقاء الشيوعيين من حقوقهم المدنية؛ تحرمهم من الوظائف ليموتوا وعائلاتهم جوعاً. الدولة السوفياتية كانت تتكفل بمعاش كل المواطنين بغض النظر عن معتقداتهم وميولهم الفكرية. لم تستخدم الدولة السوفياتية أدوات القمع إلا ضد الذين يتصلون بالدوائر الأجنبية للتآمر على وطنهم وحياة مواطنيهم.
في سياق الفهم البورجوازي للديموقراطية يؤكد المرتدون على ماركس أنهم يقبلون بل يؤيدون التعددية. القبول بالتعددية يعني مباشرة بالقبول بالنظام الإجتماعي القائم وبالسلطة الحاكمة التي لا تنثني عن استخدام أدوات السلطة من أجل الإحتفاظ بها. محذور على هؤلاء المرتدين استخدام أية أدوات أخرى غير أدوات السلطة لإلغاء السلطة!! يتبرع هؤلاء المرتدون بوضع رقابهم في حبال المشنقة بطيب خاطر إن كانوا صادقين. لم يقل هؤلاء كيف سينقلون السلطة من أيدي البورجوازية القوية إلى أيدي العمال. لعل رائدهم الأمي خروشتشوف قدم لهم الحل وهو " دولة الشعب كله ".
البخيت والنقد وأمثالهما من السودانيين يعلنون للعالم أنهم سيبنون الإشتراكية في السودان رغم أنف ماركس ولينين. نهاهم ماركس عن ذلك لكنهم صمموا على تجديد ماركس بعد أن استوعبوا من علوم الكوانتوم والشفرة والفلسفة أضعاف ما تعلم ماركس كما يؤكد البخيت. سيبني ماركس السوداني الإشتراكية التي تقيم العدل وليس الدكتاتورية البروليتارية في السودان رغم أنف العالم الرأسمالي كله، في السودان حتى وهو يعتاش على رعاية الجاموس. ما ينقص نقد والبخيت هو الإستشراف فقط!! الديموقراطية الليبرالية تستوجب عدم نهيهم عن استشراف ما لا يستشرف. ظل العرب لمئات السنين يبحثون عن الحجر السحري الذي يحول المعادن إلى ذهب وقد انقضت الحََضارة العربية دون أن يجدوه. سيقضي ماركس السوداني قبل أن تشرق شمس الإشتراكية على السودان القبلي الرعوي.
فؤاد النمري