وزارة قطع الكهرباء في سورية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
كنت أعتقد أن هناك إنجازاً وطنياً عظيماً، كالفوز بالمونديال، مثلاً، ولا سمح الله، في كل مرة كنت أسمع فيها تلك الجلبة والصياح والأصوات، ولم أكن أدري كنه وسر تلك الزغاريد والزلاغيط والتهليلات والتكبيرات، التي كانت تنبعث من الجوار، ومن حناجر أطفالها الصغار، معظم الأوقات، إلى أن تجرأت، ذات مرة، ودسست أرنبة أنفي الفضولية في خصوصياتهم، لأطلع بنتيجة، أن سبب كل ذلك الفرح العامر والغامر، والسجود والركوع لرب السماء، نوافل وتكبيرات وصلوات، هو بسبب عودة التيار الكهربائي في هذا الصيف اللاهب الحار.
وهذا غيض من فيض من مآثر ونوادر وحتوتات وزارة قطع الكهرباء التي صارت ترويها الجدات للصغار بدل ليلى والذئب بعد أن تبدلت الضحايا والأدوار وكثرت الكواسر والوحوش والذئاب. فقد حدثني أحد المواطنين الذي يسكنون في الأرياف، وأطراف المدن عن معاناته المرة مع انقطاع الكهرباء، الذي أصبح فولوكلورا يومياً في حياته الرخيصة التي لم تعد تساوي "زرقة" دجاج على حد تعبيره. فهو كثيراً ما كان يشتري مؤونته من المدينة من اللحم والدجاج، ولمدة أسبوع، ويضعها في الثلاجة التي أصبحت بقدرة أشاوسة وعتاولة وزارة الكهرباء، سخانة وفرناً حاراً يشوي، ويعرّض مئونة أسرته من اللقمة المرة للتلف والضياع. وصار يخاف من وضع أي شيء في البراد لأن مصيره التلف والخراب. ولذا تراه يعود أدراجه في كل يوم إلى المدينة بما فيه من تبديد للوقت والجهد والمال، لشراء نفس الحاجيات في عملية عبثية مضنية لم يكابدها المرحوم، بإذن الله، سيزيف، ما غيره، علينا من ذكره السلام. وأرشدني إلى مكان سري، فيه جرّة فخار أو "خابة ودبليز"، في اللغة المحلية، لتبريد المياه وشربها، بعد أن حلفني بـكل "الغوالي" والمرحومين والأحباب، لكي لا يكتشف أمره وخيانته الوطنية الموظفون الإنكشاريون فيفرضون عليه ضريبة رفاهية ماء باردة، لأنه لم يعد يثق بمستقبله الكهربائي أو المائي، وبهذه التكنولوجيا التي تخذله كل يوم عشرات المرات. وقال لي وهو من المقاومين الألداء للمشروع الأصولي والوهابي في المنطقة، بأن وزارة الكهرباء وحدها هي التي أفلحت في إعادته لعصور الظلام، والفانوس والشمعة وقنديل الكاز، وهذه واحدة من إنجازاتها الأممية الكبرى التي يجهلها كثير من قصيري النظر الأغبياء، وعجزت عنها، وحتى اليوم، منظمة القاعدة، وحماس وسرايا القدس، والقوة التنفيذية، وجماعة الإخوان وطالبان، وجماعة طيب الذكر أبي سياف.
كما حدثني مواطن آخر مشحوط ولهثان عن تلف معظم الأجهزة الكهربائية التي اشتراها بالتقسيط الممل و"التمليط" والتسويف، غير أنها تحولت، لاحقاً، وبفعل التنظير وأدلجة الآلام، لمجرد ديكورات صماء في منزل كئيب لا يعرف السعادة وألق الحياة. وقد راجع أكثر من جهة "مكهربة" ولكن لا سميع ولا مجيب، بفضل من الله.
ومحسوبكم العبد الفقير للرفاهية، وبعد وجبة دسمة من الكباب والسمك والعصائر المشبعة بالكلوكوز والفيتامينات، وهذه، مثل مذنب هالي، هي من المرات النادرة التي تحصل في هذا العمر الرخيص الجربان. وبفعل ازدياد الفوسفور والبروتينات والفيتامينات في الدم، طبعاً وليس الذكاء الفطري الذي حرمنا منه الله، نقول تفتحت قريحتنا عن ثمان وعشرين صفحة دسمة من روائع الكلام، والأفكار كنا نسطرها على كومبيوترنا "المهرهر"، الذي ابتدعه اليهود والصليبيون الملاعين الكفار، لنرفد بها مشروع كتاب نحن بصدد إعداده. وفي ذروة تدفق الأفكار وانسياب الكلمات انقطع التيار الكهربائي، بسبب المؤامرات الصهيونية والإمبريالية على أمتنا العربية. وضاعت، ويا حسرة كل تلك الصفحات. وكم كنت في صغري رومانسياً ولهاناً وعاشقاً للطبيعة والنجوم والأقمار، وكثيراً ما تأملت النجوم والكون والمجرات في الليالي الريفية الرومانسية الساكنة الجميلة الودعاء، غير أنني اليوم طلـّقت كل ذاك التراث الشخصي، لا بل صرت أحتقره، لأنه صار يرتبط في ذهني وعقلي الباطن بانقطاع الكهرباء وما يولده في النفس من قهر ولوعة ومشاعر إحباط وظلام. وصرت أعتقد، وأؤمن جازماً، بأن أولى المهام الملقاة على عاتق وزارة الكهرباء وكوادرها، ليس تأمين ووصل التيار، بل قطع التيار الكهربائي وإدارة شؤون انقطاعه، والإشراف والتفنن والتلذذ في تلويع المواطنين وتنغيص حياتهم. وللحق، ولكي لا نظلمهم، فهذه واحدة من إنجازاتهم الكبرى، فقد أفلحوا ونجحوا في مهمتهم هذه أيما نجاح.
وبالأمس القريب، ذهبت، وحاملاً معي مشعلاً يعمل بالزيت كما في أيام الإغريق والرومان، لتهنئة أحد الطلاب المتفوقين بالشهادة الثانوية العامة، ليس بسبب تحصيله العلمي الرائع برغم ظروف الفقر والتعتير والتشحيط والقلة والحرمان التي يعيشها، واستيعابه لواحد من أعقد المناهج الدراسية وأكثرها تطوراً ربما على مستوى العالم، ولكن لانتصاره على كل محاولات وزارة الكهرباء لبث اليأس في نفسه، وتقويض عزيمته الفولاذية وإلهائه عن تحصيله الدراسي حين كانت تضن عليه بالتيار في الليالي المدلهمة الطويلة الباردة السوداء.
كما استغرب أحد الخبثاء عما يفعله أولئك الموظفون والكوادر الهائلة في أوقات عملهم إذا كانت الخدمات العامة بمجملها على هذه الدرجة من انعدام الكفاءة والتهافت وقلة الحيلة والإهمال واللا مبالاة؟ ولماذا يذهبون أصلاً إلى وظائفهم ومكاتبهم وأعمالهم كل صباح ويعودون خائبي الرجاء وبلا طائل وجدوى كل مساء؟ ولماذا يطلبون تلك الفواتير الكاوية عن خدمة متواضعة ومترهلة تتعرض للانقطاع المستمر وعدة مرات أحياناً في اليوم الواحد؟
أسمع الآن نفس تلك الزلاغيط والتكبيرات والأفراح، فلا بد أن التيار الكهربائي قد عاد، ووزارة الكهرباء بدأت تداعب مواطنيها "الكرام" بقطع التيار، وهذه واحدة أخرى تحسب لوزارة الكهرباء في "الفرفشة"، ودفع الناس للزلاغيط والأفراح التي صارت عزيزة وغالية هذه الأيام. ومع ذلك كله نقول، بئسه، وخساه الله من عمر وحياة، صارت فيه الماء والكهرباء والبني التحتية الأخرى كمجارير المياه، وأعزكم العزيز الواحد القهار، رفاهية ومتعة وطنية ومكرمة قومية تستأهل وتسترعي كل هذه الزغاريد والرقصات والأفراح.
والله ينوّر، علينا، وعليكم جميعاً يا........شباب.
نضال نعيسة
sami3x2000@yahoo.com