سورية: قراءة معارضة في خطاب القسم الثاني
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
لقد جاء الخطاب الأخير الذي ألقاه الرئيس السوري بشار الأسد بمناسبة أداء القسم، ليكون امتدداً للخطاب السوري الرسمي على مدار عقود من التفرد بالحكم، وإبعاد المختلفين عبر الإدانة والزجر والاعتقال أو الإخفاء. ولعل أبرز ما يتسم به هذا الخطاب يتشخص في اهتمامه بالتعميمات الخاوية، والعبارات الإيحائية المضللة، ودغدغة المشاعر الآنية، واستغلال حاجات الناس الذين باتوا في عرف النظام مجرد "رعايا" لاقدرة لها على التفكير والتصرف؛ وحتى ارتياد العوالم الوردية، وذلك من خلال أحلامها إلا بموجب المقادير المباحة من قبل الحامل السلطوي.
كما اتصف الخطاب المعني هنا باعتماد لغة الأرقام المنتقاة، المجزأة من سياقها؛ الفاقدة للمصداقية، خاصة في ظل وضعية تغييب الأرقام الأخرى المقابلة، الخاصة بالتضخم والبطالة، والغلاء، واستغلال الموقع، والرشاوى، والفساد والإفساد الأخلاقيين، والهدر الموجه، إلى جانب النهب المقنع؛ وكذلك الأرقام الخاصة بالمستويات التعليمية والصحية والخدمات الأساسية. وبالإضافة إلى هذا وذاك التزم خطاب القسم الثاني اسلوب التذاكي عن طريق استغباء الآخر،إذا صح التعبير. فقد جرى الحديث عن الدين العام الذي ما زال المواطن يتساءل عن دواعيه، وسورية تمتلك من الامكانيات المادية، والخبرات المعرفية، والطاقات البشرية ما يؤهلها في ظل وجود سلطة وطنية بالفعل لتحقيق انتعاش اقتصادي، كان من شأنه توفير مستلزمات العيش الكريم لكل المواطنين منذ زمن بعيد، وذلك يمثل الخطوة التي تعد الأساس الأول لأي سعي يبغي انجاز تنمية حقيقية، قابلة للقياس والاعتبار بموجب المعايير الدولية المتفق عليها.
إننا سندع الحديث في الجانب الاقتصادي لأصحاب الاختصاص، لأنهم الأقدر على تناوله بحِرَفية، تكشف النقاب عن التحويرات والتحايلات المعتمدة رسمياً. وكم يحز في النفس بهذه المناسبة غياب الفاضل الدكتور عارف دليلة عن الساحة، وهو الذي دق ناقوس الخطر من موقع الغيرة الوطنية، فغيّبه هؤلاء الذين اختزلوا الوطن والوطنية والمواطن في شخوصهم؛ وباتت "الخيانة" بالنسبة إليهم هي التهمة الأولى لكل من يتجرأ على النقد والتحليل، ويدعو إلى تغيير يستجيب لتطلعات الناس، ورغبتهم في حياة ترتقي إلى مستوى انسانيتهم بمختلف أشكالها. سندع الجانب الاقتصادي لأهل الاختصاص كما أسلفنا، لنتوقف عند ثلاث من المغالطات الكثيرة التي عجّ بها الخطاب المذكور، وهي مغالطات تثير السخرية في مواجهة هذا التلاعب الفاضح بالألفاظ والمشاعر، والاستخفاف الفج بعقول الناس، استخفاف لم يتمكن من الوصل إلى مبتغاه، على الرغم من حفلة التصفيق والتهريج الشعبوية التي أحياها أعضاء المجلس المغلوب على أمره، هؤلاء الذي باتوا موضع تندر الناس وشفقتهم.
1- مغالطة اختيار الشعب
ورد في خطاب الرئيس بشار في حفل تتويجه بالحرف الواحد ما يلي: "تغمرني وأنا اتحدث اليكم في هذا اليوم الوطني الذي نقف فيه على أعتاب مرحلة جديدة في مسيرتنا الوطنية مشاعر شتى ما زالت تتنامى في داخلي منذ اختار الشعب...قبل اعوام سبعة ماضية...أن أكون في موضع القيادة منه..."
والسؤال الذي يفرض ذاته هنا على الجميع من السوريين وغيرهم هو: وهل فعلاً كان هو الشعب الذي اختار؟ أم أنه الأسد الأب الذي جهد ليلاً نهاراً من أجل حصر الرئاسة - المأخوذة بالقوة اصلاً- في أبنائه؟ وتمكّن بمختلف الأساليب - التي لم يُكشف النقاب عن الكثير منها بعد- من انتزاع البيعة لخليفته من الفاعلين في الآلة السلطوية السورية أثناء حياته، لدرجة أن أحدهم لم يتجرأ على ممارسة صلاحياته الدستورية - وفق الدستور المفروض وليس غيره - بعد وفاة الأسد الأب؛ و؟كانت الأبصار كلها شاخصة كلها نحو المسرحية التي كان يقوم باخراجها جملة من غيرالمتمكّنين، لذلك جاءت المسرحية تلك فجة هشة، أثمرت عن إعادة تفصيل الدستور - الذي يفتقر إلى أبسط مقوّمات المشروعية الدستورية- ليأتي على مقاس الرئيس الجديد الأسد الابن، الذي بشّر في خطاب قسمه الأول بوعود زاهية، تماهت مع كل األوان الطيف، فاعتقد أغلبنا بسذاجة وطنية أن بذور الخير قد انتصرت، وأن النوايا الحسنة قد أثبتت قدرتها على تغيير الوقائع القاتمة. ولكن سرعان ما ذاب الثلج وبان المرج؛ وتبيّن كما كان متوقعاً، أن المسألة بمجملها لم تخرج عن نطاق كونها محاولة أمنية - ذكية بعض الشئ- من مراميها اسباغ هالة من المشروعية على وضعية تتمرد على كل ما هو مشروع، ومنح الزمرة المهيمنة فرصة لترتيب الأوضاع، وتثبيت أقدام الحاكم الجديد.
وهكذا اختفت بقدرة قادر لا مرئي لجان إحياء المجتمع المدني؛ وزجّ بخيرة الرجال الأفاضل من الأكاديميين والمثقفين والسياسيين الذين حملوا أمانة الأهل والبيت بشرف في السجون، وتعرض الآخرون لشتى ضروب الترغيب والتهديد، وقدمت لهم عروض الامتيازات مغلّفة بألوان من الوعيد؛ وحيئنذٍ تأكد الجميع مما كانوا متأكدين منه في قرارة أنفسهم، لكنهم انساقوا مع التفاؤل الوطني، وانضموا إلى موكب اللاهثين خلف السراب؛ وجاءات الصحوة متأخرة بعض الشيء، إذ تغيّرت الموازين والمعادلات، وتبددت الطاقات وتشتت؛ وحصل الانقسام والتنافر داخل صفوف قوى التغيير المنشود. وتمكنت الزمرة المهيمنة من تسوية حساباتها بعد أن تخلّصت من "المشاغبين"، واطمأنت إلى قدرتها على ضبط المفاتيح المفصلية في الداخل السوري، وفتحت الأقنية مع القوى المتنفذة دولياً، مؤكدة استعدادها المستمر لتلبية الشروط كلها، والالتزام بحرفية اتفاقية تجديد العقد السلطوي.
إن الرئيس المتوّج يدرك أكثر من غيره طبيعة الظروف التي أتت به إلى الحكم، ويتذكر جيدا تفصيلات الطريقة ألتي أُعلن بموجبها رئيساً في أول جمهورية وراثية في المنطقة. ولديه من المعلومات ما يكفي بخصوص اجبار المسؤولين والناس على التسبيح باسمه، والتغني بخصاله التي لم تكن قد دخلت حيّز التطبيق العملي بعد.
إننا إذا أخذنا المعطيات السالفة مقدمات لاستدلال منطقي صحيح، لتوصلنا إلى نتيجة فحواها انتفاء امكانية اعتبار يوم القسم الأول، وكذلك الثاني، وربما الثالث والرابع - لاسمح الله- مناسبة وطنية، أو يوما وطنيا، طالما أن الجزء قد فرض ارادته بالقوة على الكل، وليس العكس. فالحالة تكون وطنية حينما تعكس رغبة وإرادة القسم الأكبر من المواطنين؛ وتكون موضع اعتزاز فعلي جماعي من موقع القناعة والتوافق. أما التهليل الشعبوي الشعاراتي الإرغامي، فقد اثبت عدم جدواه لدى الجار العراقي، الذي أدعى حيازة النسبة المئوية الكاملة، وتباهى بجحافل الجيوش، ولم يترك نسباً كريماً إلا وتشبث به؛ لكن النتيجة كانت كما شاهدناها جميعا، درساً بليغاً لكل عاقل متمعن.
الأوطان تمجد بشعوبها، واي اذي يصيب الأخيرة تتجلى سلية آثاراها على الأولى. وما يتعرض له الشعب السوري العزيز بكل مكوّناته لمختلف أنواع الإذلال والتضييق، إنما هو اضعاف للوطن نفسه، الأمر الذي يستوجب وضع المسؤولين عن ذلك في مواجهة المساءلة الوطنية، التي من المفروض أن تطال الجميع، بغض النظر عن الموقع الوظيفي، أو الإنتماء القومي أو الديني، أو التوجه السياسي.
إن ممارسة بهلوانية الألفاظ - خاصة إذا كان ذلك بصورة غير متقنة- واستخدام العبارات الانشائية الروّاغة، واستغلال مشاعر الناس وجهلهم أو عدم اطلاعهم؛إن كل ذلك لن يؤدي في عالم اليوم إلا إلى المزيد من الإرباك والتأزم؛ ولن يساهم في حل المشكلة، وإنما سيغدو امتداداً مرضياً لها. كما ان سياسة دفن الرؤوس في الرمال، مثلما فعل الرئيس المتوّج مع قضية الفساد، لن تساهم في تغيير الواقع الثقيل، وأنما ستتسبب في تعميق الأزمة البنيوية بطبيعتها، وتدفع بالأمور نحو النفق المظلم الذي يخشاه الجميع.
وللحديث بقية
د. عبدالباسط سيدا