ماذا تعني عربياً: الديموقراطية في تركيا؟!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
في ظروف دولة مثل تركيا تتشاطئ جغرافياً بين الشرق والغرب واجتماعياً بين كل الإتجاهات،وشكلت وتشكل حضارياً وسياسياً تفاعل تاريخي بين أكثر من حضارة وأكثر من فلسفة اجتماعية واقتصادية في دولة مسلمة، ليس من السهل أن يخوض حزب العدالة والتنمية الإنتخابات وينجح فيها في مجتمع تتقاذفه كل تلك العوامل والتجاذبات التاريخية المحلية والإقليمية والدولية في عصرنا الحالي، عصر العولمة الذي أصبح التكامل الكوني في الحرب والسلام والإحتواء أهم صفاته وأوضح أهدافه، وأصبح العمل السياسي والصراع على المصالح مكشوفاً أكثر من أي وقت مضى، إذ تكمن في مقاربات حزب العدالة والتنمية للعمل السياسي أبعاداً تاريخية لها انعكاساتها على المستوى الإقليمي والدولي وعلى الأخص العربي والإسلامي.
وأيضاً في ظروف تركيا الداخلية التي يتفاعل فيها مشروعان أساسيان جامعان تقريباً ويسيران في اتجاه واحد هو تحقيق التقدم والرفاهية والسعادة للمواطنين وأثبات الحضور الدولي، الأول هو التيار الإسلامي المتنور والمعتدل والذي يمثل خلاصة تطوره حزب العدالة والتنمية، والثاني هو القوى العلمانية المختلفة تحت مظلة الجيش والذي لعب على مضض دور الحفاظ على المستوى الأدنى من الديموقراطية التي حفظت التوازن السياسي والإجتماعي في تركيا، وجنبها الإنزلاق نحوالديكتاتورية والإرتداد والفوضى في أكثر من مناسبة حرجة مرت بها االبلاد.
وفي مقاربة الحياة السياسية القريبة الماضية يؤشر حزب العدالة والتنمية وبوضوح نجاحه في قيادة تركيا إلى المعاصرة عبر إنجازات عملية تخص المواطنين،وأثبت جدارة عالية في ممارسة اللعبة السياسية على قواعد الديموقراطية الحقيقية البعيدة عن الأطر الإيديولوجية التي تعيق فاعليتها وتشوه نتائجها و تجمد العمل السياسي في برامج غيرعملية لاتلبي مطالب الناس وهمومهم، وبهذا حقق حزب العدالة والتنمية مالم يستطع أن يحققه معظم العلمانيون الذين حكموا تركيا خلال السنوات الماضية، وعبر عن موقف وسطي براغماتي عقلاني بعيد عن شعبوية الكثير من الأحزاب العلمانية، في حين تتقاذف العمل السياسي على الساحة العربية تراجعاً غريباً عن الديموقراطية رغم أن غالبية الأنظمة الحاكمة تعتبر نفسها علمانية وتصادر الديموقراطية والحرية ليل نهار، هنا يبدو الإنجاز الأهم لحزب العدالة والتنمية في تقوية العلاقة بالديموقراطية في المنطقة وفي ضرورة تطوير مفهوم العلمانية في المنطقة العربية لتكون معبرة عن أهداف الناس ومصالحهم وليس تجاذبات نظرية معزولة عن المجتمع وهموم الناس.
وبشكل عابر نقول إن العلمانية كما نفهمها هي نمط حياة وليس مهمتها فصل المجتمع عن سياقه التاريخي وهي قبل كل شيء نظام عام للمجتمع على مستوى المحسوس والملموس أي فهم تفاعلات المجتمع وروابطه والإرتقاء بها إلى التنافس الإيجابي على قواعد المساواة والعدالة، نرى أن الكثير من القوى العلمانية العربية أصبحت أكثر تطرفاً في علاقتها مع مجتمعاتها من الكثير من التنظيمات "التكفيرية "، وأصبحوا يقدسون قيماً دنيوية أكثر مما يقدس الآخرون قيماً سماوية، أي أنها انحدرت لتكون أشبه بأصولية إيديولوجية كلامية لم تنتج سوى العنف والسلبية في تبنيها لأهداف سياسية صحيحة، ووصلت إلى حد الفوبيا من الدين والمتدينين بمحصلته العامة أنتج موقفاً معادياً للإسلام والمسلمين الذين هو أكثرية المجتمعات في المنطقة العربية وهذا السبب الأساسي في فشلها، والخطير فيها الآن هو ركب موجة الشعارات الحالية التي أنتجها صراع أصولي بين متطرفين من كل الجهات عربياً ودولياً يتعامل معه بعض المحسوبين على العلمانية بمنتهى الخطورة والنفاق عندما ينفخون باستمرار على عناوين "الإرهاب الإسلامي " ويبشرون به، بدل أن يتعاملوا بموضوعية في نقل الوعي العام إلى مستوى التعامل الديموقراطي ومحاصرة التطرف أياً كان شكله ولباسه وعقيدته ومصدره، مؤمناً أو ملحداً كان، وتوفير الحاضنة الفكرية والثقافية للحوار بين كل أطراف العمل السياسي المعارض خاصةً، تأسيساً للوسطية والإعتدال والحوار وقبول الآخر.
الخلاصة هي في السؤال البسيط: ماذا يعني فوز حزب العدالة والتنمية في تركيا العلمانية الديموقراطية أو شبه العلمانية والديموقراطية والمسلمة معا ً، بالنسبة إلى العلمانيين العرب أولاً وللتيارات الإسلامية كلها على الساحة العربية ثانياً؟ هناك مستويين لفهم التجربة التركية، الأول بعده الشعبي الذي يتحرك خلاله حزب العدالة والتنمية التركي ضمن توفر ديموقراطية حتى ولو انتخابية في تركيا، والثاني سياسي وهو الأهم،حيث أن قوى العلمانية في تركيا على الرغم مما يمكن أن يقال الكثير حولها، وفرت حاضنة للحرية والديموقراطية عجزت عنهما العلمانية العربية على امتداد نصف قرن، والأخطر أنها تستمر في عدائها للدين ومن موقع خارجي خطير للغاية يعزف عليه بعض العلمانيون نشاذاً في كل شاردة وواردة.
وأخيراً في أبعاد فوز حزب العدالة والتنمية في تركيا درس كبير لكل أطراف العمل السياسي في المنطقة العربية التي غابت عنها القدوة في تجربة الحكم وفي ممارسة المعارضة السياسية للحكم على حد سواء، ومابينهما من عنف واستبداد وفشل ونفاق، ضاعت معها شعوب المنطقة في خطاب متطرف متنوع الشكل والمضمون، بين أنظمة ديكتاتورية تدعي العلمانية وبين معارضات علمانية أيضاً في معظمها هي الأخرى، وفي محصلته العامة يؤشر على الفشل والقصور في فهم الدين والدنيا.
د.نصر حسن