2003 عودة الأمية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
العراقيون المتابعون لمسيرة حياتهم، وما كتب عنهم المؤرخون عن اسباب تأخر نموهم الإقتصادي وتقدمهم نحو الديمقراطية، سيجدون انفسهم امام كم هائل من المسببات والمعوقات، فالإستعمار الغربي واطماعه في ثروات وطنهم وتدخله السلبي في خصوصياتهم الإجتماعية والسياسية، قد وقف دائما امام احلامهم في التقدم، حيث في كل مرة يحتلون العراق يبدأون فورا بتعيين حكومة تابعة لهم وغالبا ما يختارونها غير كفوءة لتعميق الأزمات الإقتصادية والصراعات الدينية والقومية ليستمر التخلف والجهل فيتكاثر المشعوذون والدجالون، وقد ظهر ذلك جليا منذ تأسيس الحكومة العراقية، لكن الحالة الإستعمارية في العراق لم تدم طويلا، حيث في 14 تموز عام 58، تغيرت الى حالة حكم الشعب بقيادة الزعيم عبد الكريم قاسم فانتعش العراقيون اقتصاديا وثقافيا، ولكن لفترة قصيرة جدا.
اما في السبعينات فهناك الكثير من العراقيين لا يعرفون شيئا عن حالة شعبهم الثقافية والمعاشية والأمنية آنذاك، واخص بالذكر العراقيين الذين هاجروا العراق وهم في عنفوان شبابهم... وقبل ان اوضح بعض الحقائق اقول ان الدينار العراقي في تلك الفترة كان يعادل اكثر من ثلاثة دولارات امريكية.
ان العراق وفي سنوات السبعينات كان من اغنى وارقى دول المنطقة وان مواطنيه الساكنين من اعلى قمة جبل في شماله الى ابعد نقطة من جنوبه كانوا ينعمون بالخير والرفاه والأمان، وبسبب هذا الخير والأمان اقدمت الدولة على حملة سميت حملة محو الأمية شملت كل العراق، فهيأت لها كل مستلزماتها من كتب وقرطاسية ومعلمين لتساهم في زيادة الوعي الثقافي للمجتمع، فانتظم فيها العراقيون الذين لم تسنح الفرصة لهم للتعلم مجانا، كما كان العراقيون ضمن نفس الفترة مشمولون بالتعليم الإلزامي المجاني والتغذية المدرسية ابتداءا من دور الرياض الى اكمال الدراسة الجامعية، وان كل تكاليف مؤسسات التربية والتعليم ومستلزماتها من كتب الدراسة الى القرطاسية بكل انواعها المختبرية والمكتبية كانت مجانية وعلى حساب الدولة المركزية العراقية، لا بل وحتى المواطنين من ابناء الدول العربية كان لهم الحق في الحصول على التعليم والرعاية الصحية مجانا، كما ان الخدمات الصحية في المستشفيات والمراكز الصحية كانت مجانية مع كل مستلزماتها من ادوية واجهزة طبية متنوعة، كما قامت في العراق الصناعات الخفيفة والثقيلة واقيمت الجسور العملاقة الى جانب مد خطوط الماء والكهرباء وتعبيد الطرق التي ربطت كل محافظاته وقراه، فالصادقون لا يغفلون هذه المرحلة من حياة العراقيين، لقد استمر هذا الحال الى بداية الثمانينات والتسعينات، حيث بعدها حلّ الخراب والفساد في البلد نتيجة اندلاع الحرب الإيرانية والكويتية الغير مبررة والتي كان بالإمكان تفاديهما لولا غباء السلطة العراقية آنذاك بأمرة صدام حسين، حيث استغلت بعض الدول العربية والغربية هذا الغباء فاشعلوا الحرب، ومع الأسف كان الضحية الشعب العراقي وما زال يدفع ثمن الأثنين معاً.
لكن الصدمة المأساوية حدثت بعد غزو العراق حيث الغيت الدولة العراقية بكامل مؤسساتها المدنية والعسكرية، فحل الدمار والخراب وفُقد الأمن وانتشر العنف الطائفي وحل الفساد محل الطيبة العراقية، ولا داعي ان نتطرق الى موضوعة "لماذا اختير العراق" ومن كان وراء تغيير مسار ثقافته وتدمير قوته،... لأن الفاعلون قد كشفوا عن انفسهم دون عناء، وقد عرفهم العراقيون، وبالإمكان اي شخص ان يتعرف اكثر من خلال مشهد الإجتماع الأخير الذي جمع الأمريكان مع الإيرانيين يتوسطهم رئيس حكومة العراق وهم مجتمعين لإيجاد حلول للقضية العراقية.... صورة لا تحتاج الى تعليق انما من حق المشاهد ان يسأل من هو صاحب القضية الحقيقي، واذا كانت اميركا هي الدولة المحتلة للعراق وباعترافها.. فما هو تفسير حضور ايران؟
في العراق وكل يوم تدفن عشرات الجثث البشرية ويسقط مئات آخرون جرحى لا ذنب لهم، كل يوم تهجر عشرات العوائل، كل يوم احزان ومآسي... إغتصاب، وسلب ونهب، خطف واغتيال تهديد وتهجير، شعب متعب يموت في وادي، والذين انتخبهم ينعمون في واد آخر، { حتى بجلمة الجذب } كما يقول العراقيون، لم نسمع مسؤولا حكوميا " منتخباً " يتحرك بجدية لإيجاد حل لمآسي منتخبيه، والأتعس من ذلك ان اعضاء البرلمان العراقي غير معروفين من قبل غالبية العراقيين، فانهم يجتمعون ويقررون ويصدرون قرارات ليس لها اي علاقة بالوضع العام للعراق والعراقيين، واعضاءه المعيّنون حسب القاعدة الطائفية مشغولون بالتصويت على اصدار القوانين التي تحميهم وتخدم مصالحهم الأمنية والمادية فقط، اما تصريحاتهم ومع الأسف فهي غير مستقرة، فتارة يصرحون بخطب تدين وتستنكر اعمال العنف وتارة يكيلون المديح للحكومة ومؤسساتها الأمنية!
نعم انهم يتحدثون بوجهين لم يعتادها العراقيون.. مرة كلام بجديّة ومرة بكوميديا، بحجة { اخوان احنا نحجي سياسة }، ويتناسون ان القاعدة في السياسة تقول { اذا صادفك شعبا متطورا ومتقدما ومتحظرا، إسأل عن صفات حكومته }.
فمتى سيصدق القائمون على حكم العراق ويوقفون الكذب ويكفون عن تزييف الحقائق، الم يتعلموا من الغرب معنى الوطنية، اليس الإنتماء الى الوطن..موقف مقدس، اليست الوطنية هي سلاح الديمقراطية والحاظنة الأمينة لكل الإنتماءات الدينية او القومية او السياسية، الا يخجل ويحمر وجه المتحدثون كذباً على انهم وطنيون وان الديمقراطية قائمة في العراق؟
هل غاب عن ذهنهم ان في الوطنية الحقيقية تنصهر كل المسميات والإنتماءات الدينية او القومية فتفصح المواطنة عن وجودها في وجدانهم، اليست الوطنية والتي أفداها العراقيون بدمائهم منذ الاف السنين هي الحاظنة الشرعية لمكونات الشعب وهي هويته التي يتفاخر بها امام العالم، يتسائل العراقيون كيف تكون الحكومة الحالية ببرلمانها "العتيد" وطنية خالصة وعادلة في حماية ابناء العراق بكل مكوناته، وتدعي انها وطنية.. فيما يستمر خطابها الثقافي والإعلامي داعيا للتوجه الطائفي رسمياً وشعبياً، اليس ذلك ضحكا على الذقون، ثم كيف يوصف البعض من كتابنا او محللينا بان ما يحدث من قتل وتهجير واغتصاب لأبناءنا وبناتنا وسلب ونهب مساكننا وتدمير لدور عبادتنا ومساجدنا وكنائسنا، هو من تدبير تنظيم القاعدة وازلام النظام السابق فقط، الا يوجد مجرمون اخرون... ايها السادة!
اتمنى وقبل ان تكتبوا عن حال العراقيين، ان تستمعوا اليهم فقط وقبل هروبهم لكي تكتبوا الحقيقة كما هي!
ان الحكومات العراقية التي تعاقبت على حكم العراق منذ 2003 ولحد هذا اليوم وكما ظهر للعراقيين وللعالم المتحظر لم تكن حكومات ديمقراطية عادلة ومنصفة لأبناء العراق، حيث ومنذ اليوم الأول برزت المحاصصة الطائفية والمذهبية التي أدت الى تقسيم العراقيين الى مجموعات طائفية ومذهبية فانتشرت الفوضى والفساد واصبح العراق ساحة قتال بين ابناءه راح ضحيتها الاف العراقيين الأبرياء بين قتيل وجريح ومهجر، والمثير للدهشة انه وفي خضم هذه الفوضى والصراعات وعدم الإستقرار تنطلق الدعوات من قبل بعض الأطراف المذهبية والقومية العنصرية لقيام نظام فدرالي كحل دائمي للوضع العراقي الجديد، وكأن العراق والعراقيين ينعمون بالخير والأمان، وانهم على اتم الإستعداد للبدء بتنفيذ خطة تقسيم العراق الى فدراليات والتي تعني في النهاية { كلمن يحود النار لخبزته }.
ان الفدرالية التي ينادي بها هؤلاء لا تعدو سوى كونها نظام حكم يحقق لفئات معينة مصالحهم الخاصة، وليس له اي علاقة بسيادة العراق ولا بمصالح وحقوق بقية الفئات، وهذا ما يخطط له الأن.
ان مشروع الفدرالية التي يطمح الى تحقيقها العراقيون الوطنيون هو ذلك النظام السياسي والحكم المركزي الذي من اهم مهماته هو استيعاب مصالح جميع المكونات وتطلعاتها دون اجتثاث او استبعاد احد، وتوزيع الثروات بصورة عادلة على جميع العراقيين، لكنه لوحظ في الفترة الأخيرة ان هناك بوادر سوء فهم لمفهوم الفدرالية انطلقت من الشمال العراقي، حيث نسمع مطالبة حكومة كردستان بحصتها من ثروات البلد المركزية وهذا حق طبيعي، في حين انها لا تسدد ما تجنيه من الإيرادات الضريبية الى الخزينة المركزية، وهذا يعني ان هناك سوء فهم في معرفة اصول وحقوق وواجبات النظام الفدرالي، ولذلك نقول ان مشروع الفدرالية في العراق بحاجة الى مزيد من التثقيف المكثف لفهمه ولطريقة تطبيق، لأنه اذا ما طبق فانه سيحرم الأقليات القومية الأخرى ذوات المعتقدات اليزيدية والصابئية والمسيحية من حقوقها في الأرض والثروة وسيخلق وضعا دوليا لا تحمد عقباه.
والسؤال الأكثر الحاحا هو..هل حقا ان دعاة الفدرالية سيحققون النجاح والرفاه لشعوبهم وسيلحقونهم بركب التقدم والتطور والتحظر الإنساني من خلالها! ام انهم سينشغلون وشعوبهم في حروب طائفية وعشائرية على جنبات حدود فدرالياتهم الى ما لا نهاية....
ان النظام السياسي الذي يحقق استقرار العراق في ظروفه الحالية هو قيام حكومة مركزية قوية ذات نظام مدني اساسه احترام القانون، حكومة عادلة منحازة فقط لشعب العراق، تتيح الفرصة لجميع مكوناته للمشاركة في بناء المجتمع دون ابعاد أحد، فلا أكثرية ولا أقلية، فالجميع يجب ان يتمتعوا بالحقوق والواجبات في ظل دستور عادل يتبنى كل مصالح العراقيين دون استثناء، ويجسدها في اقامة العدل والمساوات تحت ظل قوانين عصرية تليق بالعراقييين، وتستلهم تراث وحضارة شعب ما بين النهرين الخالدة "بابل وآشور"، العراقيون بحاجة اليوم الى وقفة شجاعة وجريئة ضد الواقع المتخلف الذي يمرون به، وايجاد حلول ومواقف على يد رجال شجعان مضحين يمتازون بنكران الذات من اجل انقاذ العراق، العراقيون بحاجة الى قيادة حقيقية توفر لجيل اليوم الفرصة في الإستفادة من بعض الخطوات الإيجابية الإدارية السابقة لتحقيق أمن ونهضة العراق، فهل للمهتمين من العراقيين الحق ان يقولوا ان عام السبعينات كانت عهد محو الأمية وعام 2003 هي عام عودت الأمية.
ادورد ميرزا
استاذ جامعي مستقل