أصداء

المشروع الوطني..

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

لماذا كل هذا الضجيج حول فوز المنتخب الوطني العراقي بكأس آسيا، ولم كل مظاهر الفرح هذه رغم حلقة الموت والمعاناة اليومية التي يبدو بأن لا نهاية لها؟
وصفها البعضبأنها فرحة وسط طوفان الأحزان لشعب يبحث عن أية بارقة تنتشله لبضع ساعات من دوامة الطحن اليومي، وقال آخرون بأنها إبرة مورفين للجسد العراقي المتعب، وقال غيرهم غير ذلك، وفي كل ذلك شيء من الصحة وبعض الحقيقة، ولكن ما يكمن فعليا خلف هستيريا الفوز الجماعية هذه وحالة من اللاوعي السياسي المتطور للشعب العراقي بكل مكوناته وهوا لشعور بأن منتخب كرة القدم العراقي ربما كان المشروع الوطني الوحيد في عراق اليوم..
إنه الالتفاف اللاواعي حول المشروع الوطني العراقي بين أبناء الوطن الواحد والمصير الواحد الذي أنفجر متدفقا لحظة إطلاق حكم المباراة النهائية لصافرة النهاية حيث خرجت الألوف تصرخ وترقص رغم علمها بأن الموت ربما ينتظرها في مفترقات الطرق وأركان المباني حيث يعشش مصاصو الدماء بانتظار المزيد من الدم العراقي الطاهر. رقصوا وفرحوا جميعا من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب ورفعوا العلم وكأن لسان حالهم يقول لحكامهم وللخارج معا إن من أنتصر هو العراق، والعراق وحده.
قليلون من العراقيين، شيبا وشبانا، رجالا ونساء،على مختلف مشاربهم، في جميع أنحاء العالم، من لم تغرورق أعينهم بالدموع في تلك اللحظات التاريخية التي حضر فيها الوطن الجميل بكل سطوته وجبروته الجميل. غاب الموت، وغابت الأحزان، غاب الانتقام وغاب الإرهاب الوسخ، غابت الطائفية المقيتة وغاب الاحتلال وغابت ذكريات القهر، وحضر العراق وحيدا شامخا كما يجب أن يكون، ولوتمّعن ساسة العراق في مظاهر الاحتفال في الداخل والخارج، وكيف خرج مؤيدو الوضع الحالي في العراق ومعارضوه، وأتباع النظام السابق وأعداؤه، بل والأغلبية الصامتة إلى حين في كتلة واحدة لا ترى إلا العراق وانتصار العراق، لاكتشفوا لأي منزلق يقودون هذا الشعب وهذا الوطن، ولاكتشفوا بشيعتهم وسنتهم بأن لا قيمة ولا وجود لهم إلا بعراقيتهم، كما هو حال كل الفذلكات السياسية التي ما زلنا نشهدها منذ أربعين عاما.
كانت الرياضة في بلداننا دوما امتدادا للسياسة بل وأداة دعائية وإعلامية للدول التي ترى الانتصار في مباراة نصرا سياسيا على النظام السياسي الذي يحكم الطرف الآخر، ولكن في حالة الفوز العراقي الأخير يبدو الأمر معكوسا حيث تبدو السياسة مطالبة وبشدة بأن تكون هي امتدادا للرياضة وليس العكس وقد رأينا على الشاشات وفي الصحف كيف يقارن العراقيون بين أداء الفريق الوطني وأداء فريق الحكومة أو فريق البرلمان.
أن معضلة حكام اليوم، كما كانت معضلة حكام الأمس، هي تلك الأيديولوجيات العرجاء التي تحاول إذابة الأوطان في ذواتها بدلا من إذابة تلك الأخيرة في الوطن، فالوطن والشعب ورفاهيته لم تكن يوما أولويات لا سابقا ولا حاليا، فهنالك دوما شعارات وهمية نصبح عليها ونمسي، فيأتينا هذا بشعارات الأمة التي قتلت ملايين منا، ويحلم ذاك بحكم الجبة والقفطان، ويبشر ثالث بالعودة الى عهد السلف قبل ألف وأربعمائة عام، ويصيح رابع بجمهورية البصرة أو مملكة الرمادي أو إمارة السماوة، ناهيك عن مشاريع الأميركان والإيرانيين والسوريين والخليجيين والمريخيين وغيرهم وهكذا دواليك في مختبر التجارب هذا. ولا يفهم المراقب (الحسن النية) كيف يمكننا تطبيق فدرالية ناضجة ولم نمر أصلا بتجربة الإدارة اللامركزية السابقة لها، ولماذا يجب أن تكون الفدرالية طائفية وعرقية وليست جغرافية، ولماذا يجب أن نطبق نظام المشاركة في الإنتاج وباستطاعتنا استخراج النفط بأنفسنا، ولماذا نعلن ميزانيات أسطورية ويعيش العراقيون بلا كهرباء وماء وخدمات وبمرتبات كوميدية، وغيرها الكثير من الأسئلة التي لا يريد أحد إجابتها..
تكمن معضلة العقل المؤدلجبأنه كالذبابة في قارورة زجاجية، حيث تعتقد الذبابة بأنها ترى العالم الرحب الواسع ولكنها ما أن تحاول الانطلاق إليه حتى تصطدم بجدران القارورة وتعود إلى نقطة البداية وتستمر في المحاولة حتى تسقط صريعة الصدمات المتلاحقة. والخروج من القارورة مستحيل ما لم تكتشف الذبابة بأن عليها لخروج من الفتحة الوحيدة في القارورة للانطلاق الى آفاق لا حدود لها من الحرية والإبداع، وهل بإمكانها أن تكتشف؟
لقد أوصل المنتخب العراقي لكرة القدم (وليس منتخب السنة أو الشيعة أو الكرد) إلى ساسة ما تبقى من العراق رسالة مفادها بأن هذا الوطن لن يحكمه علي خامنئي أو أسامة بن لادن أو عزة الدوري، وهي رسالة التقطها الشعب ولم تلقطها الحكومة أو البرلمان الذي "يتمتع بإجازته" في وقت يقتل فيه العراقيون يوميا، وبأن في العراقيين من الحب أكثر بكثير مما تتحمله عقولهم، وها هو يونس محمود صاحب هدف الفوز التاريخي يقول على الشاشات بكل عفوية بأنه مستعد لحمل الكأس إلى مدينة الثورة والأعظمية والموصل وكل أنحاء العراق، " وليقتلونني فداء للعراق".. وهو يتحدث عن بلد أصبح يسألك عن انتمائك المذهبي قبل أن يلقي عليك تحية الصباح.
إذا قدّر الدهر لهذا الوطن بألا يتفتت إلى دكاكين طائفية، سيذكر التاريخ غير المكتوب بأن هنالك أحد عشر كوكبا رسموا اسمه بالزهور فوق النجوم، وإن رحل هذا الوطن عن الوجود كما يطمح البعض، فسيروي التاريخ غير المكتوب أيضا بأن أحد عشر بطلا حاولوا إنقاذ ما يمكن إنقاذه ولم يفلحوا، ولكن حسبهم إضاءة شمعة في الظلام.

ملحوظة: لا يفوتني هنا أن أشكر قوات الشرطة ومكافحة الشغب والدرك وما إلى ذلك في سوريا والأردن الذين أشبعوا شبابنا المحتفل بالانتصار ضربا وإهانة وسحلوا الأعلام العراقية ومزقوها كما يفعلون بجوازات سفرنا.. شكرا لكم على مشاطرتنا الفرحة..

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف