أصداء

طفولة مع الأرمن

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

لابُد أن تحمل كمية من الاحترام كبيرة لهذا الشعب، فرغم كل المآسي و المذابح و المشهديات الشرسه التي تعّرض لها على مدى تاريخه، إلا أنه احتفظ بروحه الوَدودَة، الهادئَة، وقرب، بل وتشابه عاداته و تقاليده مع عاداتك و تقاليدك العربية، فالعشائرية مثلاً (بمعناها الإيجابي بالطَبع وليسَ المعنى السيئ و الخاطئ المتمثل بالتعصب الأعمى والقبلية المقيتَة الضيقة) لا زالت موجودَة حية هنا، الكرم،الشهامة، واحترام حقوق الضيف و الترحيب به، وبقدومه، وذبح شاه فرحاً بمقدمه، ومبدأ الوفاء لمن أكل معك الخبز و الملح، مبدأ يعتز الأرمن كما لاحظت بالمحافظة عليه.
الفَرح الحقيقي، كما يقول امبرتو إيكو، هو أن تعيش 6 أ7 أو 8 سنوات (وإذا أمكن إلى ما لا نهايَة) في عالم تبنيه فيصبح عالمك. و زيارَتي لأرمينيا كانت لبناء ذلك العالم. لم أكن لأفكر يوماً أن أصل إلى هذهِ البقعة في جنوب القوقاز، وإن ارتبطت كلمة " أرمينيا " بفترة الطفولة الحميمة التى لا تفارقنا ذكرياتها حتى الممات، وأرتبط الأرمن بتلك المرحلة العمرية و التى ستكون أول نيع صاف ننهل منه، على الأقل كتابياً، لذلك فلابد من الرجوع إليها قليلاً وإلى عَبق تلك الأيام. ارتبط الأرمن في مرحلة ما، بحكايات كانت ترويها لي أمي رحمها الله عن أبيها، والتى ترقد اليوم رَقدتها الأخيرة و الأبدية في مقبرة العوهة (غيِّرت مؤخراًُ إلى الفوعة) في مدينة العين، تلك المدينة التى عشت فيها ست وعشرون عاماً، جلها قضيته في جمع تراث بدوها الشفاهي و لازلت، حتى أطلقوا عليَّ لقباً أعتز به وهو "راعي الشبلة" مع أني لاناقة لي ولا جمل.
كان الأرمن حسب رواية أُمي، مصدرعطف وترحيب أهالي مدينة الموصل في شمال العِراق حيث ولدت، خاصة الأفواج الكبيرة التى وَصلت هناك عن طريق "السَّوقيات" الى منطقة الجزيرة الفراتية حيث كانت لأبيها أراضي زراعية لازالت تُزرع حتى اليوم، وخاصة قرب منطقة رَبيعة معقل قبيلة شمر الجَربا في العراق، ويذكر التاريخ مواقِف رجال هذه القبيلة من مأساة الأرمن والمذابح التي تعرضوا لها على أيدي رجال جمعية الأتحاد و الترقي ودعاة سياسة التتريك منتصف القرن التاسع عشر، في أواخر سني ما كان يسمى بامبراطورية الرجل المريض.
لقد أرَّخ الأرمن أنفسهم تلك المواقف الإنسانية لقبائل شمر وطيء والحديديين و البقارة و العقيدات والجبور وغيرهم من أبناء تلك المنطقة، فهم شعب أصيل، وَفيّ، لاينسى المعروف، مع أن أبناء تلك المنطقة كانوا يرونَه واجباً يحتمه عليهم الدين والعرف والعادات القبلية العربية المتأصلة فيهم. بل تعدى الأمر مجرد الاستقبال الحسن والحماية، أن تبنى كثير من أبناء القبائل الكثير من أبناء وبنات الأرمن.
وهذا ما كانَ يقتضيه في الحقيقة واجب الشهامة و المروءة، ومنهم جدي هذا، جدي لأُمي والذي توفي رحمه الله قبل أن أولد، لذلك لم أره إلاّ في صورَة قديمة كبيرة بالأسود و الأبيض، كانت تعلق عادة في كل بيت من بيوت آل كشمولة أخوالي. صورَة كبيرة تضم أعضاء المجلس البلدي لمدينة الموصل (لواء الموصل أو ما كان يعرف بمجلس متصرفية لواء الموصل) حيث ضم في عضويته في ذلك الوقت أشراف الموصل ووجهائها و أعلامها، يتوسطهم المتصرف (المحافظ) رَشيد بك الخوجَة، والذي عِّين متصرفاً للواء في 18 تشرين الأول/ أكتوبر عام 1923م كما يذكر المؤرخ الدكتور سيار الجميل في كتابه زُعماء وأفندية، في بدايات عهد الملك فيصل الأول (1933 -1921 م). لازالت تَترائ لي صورَة جَدي إلى جانب الشيخ عجيل الياورالجربا شيخ قبيلة شمر وجَد الرئيس العراقي السابق غازي المشعل العجيل الياور وقد رَبطت بينهما علاقة أخوية قوية، هذا على الأقل ما أذكره من حكايات والدتي عن جدي الذي عُرف بأنه من كبار رجال عشيرة الجحيش في منطقة الجزيرة الفراتية، والجحيش من طي، حيث لم أكن أسمع حكاية عنه الاّ ويذكر الشيخ عجيل الياور في نفس الحكايَة، أو يكون هو محورها. وكانت امي رحمها الله عندما تتحدث عن الشيخ عجيل كأنها تتحدث عن عمها، تذكره وتذكر شهامته و أفضاله على كثير من الناس دائماً بخير واعجاب، وكانت تقول عنه قَرْم من القروم.
وآل كشمولة هؤلاء عُرفوا و اشتهروا في العِراق أيام محاكمات المهداوي سيئة الصيت، وفَي فترة حكم الرئيس العراقي عبدالكريم قاسم، ونالهم نصيب كما نالَ غيرهم من تجاوزات الشيوعيين بما عُرِف وقتها بمذبحة الموصل، فأعدم وسحُل العديد منهم وهم أحياء حتى الموت، ومن ذكريات الطفولة أيضاً أننا كنا نحتفظ بصورة تضم إثنا عشر شهيداً من آل كشمولة ذهبوا ضحية وقوفهم ضد التعسف الشيوعي. ولعل من قبيل الصدف اليوم أن تغتال عصابَة الزرقاوي مؤخراً) 2005م) أحد أبنائِها وهو الدكتور اسامة يوسف كشمولة محافظ الموصل الذي اغتيل قبل أشهر، فاختار أبناء الموصل كما علمنا مؤخراً ابن عمه دريد كشمولة وهو محافظ الموصل الحالي.
بعد ترشيح الأمير فيصل بن الحسين لعرش العراق بصورة نهائية في 21 آذار/مارس سنة 1921م عُقِدا اجتماع موسع في مقر بهو البلدية، تمخض عنه تشكيل وفد كبير حددت مهمته بالسفر الى بغداد لتقديم تحيات أهالي الموصل وتهانيهم له. وقد عاصَر ذلك المجلس البلدي الوزارَة السعدونية الأولى تشرين الثاني/نوفمبر سنة 1922م-15 تشرين الثاني/نوفمبر سنة 1923م والتي شكلها عبد المحسن السعدون. وانتقل بعدها الشيخ عجيل الياور عضواً في المجلس التأسيسي العراقي الذي أُنشئ في 22 آذار/مارس سنة 1924م، حضر جلسته الافتتاحية التي ألقى فيها الملك فيصل الأول خطاب العرش لأول مرة في تاريخ العراق الملكي.
تبنى جَدي سبع فتيات أرمنيات عشن في بيته الشرقي الواسع في الموصل(آخر مرة رأيته كان عام 1978م) مثل بناتهِ، وكان يَرى أن الواجب ألا يجعلهن يشعرن بشئ من الغربة، إلى أن كبرنَ واخترن أزواجهن، منهن من أسلمت ومنهن من بقيت على دينها، فزوجهن وتكفل بكل شئ. لم تسعفني الذاكرة بتذكر اسم أي واحِدَة منهن، ولم أتذكر الاّ إسم " كَنَرْ " وهي التي ربت أُمي مع أنها كانت من سنها، وكانت كأُخت لها، اتضح فيما بعد أن الاسم هو اختصار أو تعريب إن شئنا لاسم أرمني شائِع في أرمينيا وهو "كِناريك". عشن معززات مكرمات، لا تذكرهن أُمي إلا بكل خير، بل كانت تتحدث عنهن بحنو بالغ يتجاوز مرحلة العطف الساذج، فقد كُنَّ قد تحولن في ذاكرتها إلى أخوات حقيقيات لا تفرقهن عن أخواتها، رغم وجود عدد من الأخوات و الأخوة من أربع أو بالأحرى خمس زوجات كن على ذمة جدي، طلق احداهن وبقيت أربعة. للأسف لم أرى أي واحدة منهن ولا حتى جدتي أُم أُمي رحمهم الله جميعاً.


aalsanjari@yahoo.com

أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلافتسبب ملاحقة قانونية

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف