رد على الدكتور الجابري في (موضوعة) عبد ابن سبأ
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
شغل موضوع (عبد الله بن سبا) الكتَّاب والمؤرخين من قدامى ومحدّثين وما زال يشغلهم وسوف يبقى يشغلهم لما له من علاقة صميمية بالصراع السياسي في داخل المجمتع المسلم، وذلك بين مختلف طوائفه ونحله ومكوناته، رغم حرض البعض على طرحه من منظور مذهبي وعقدي، فإن جوهو القضية يبقى سياسيا بالدرجة الأولى. فسوف يبقى (عبد الله بن سبا) قضية حيوية نشطة تتداولها الألسنة والأقلام في سياق سجالات مذهبية فيما يكمن السياسي في الباطن، لا يلد سوى المزيد من الصراع المحموم بين طوائف الأمة وأبنائها من منتسبي الدين الواحد كما يطرح الجميع، ومن الصعب أن ينأى المشتغلون بالقضية الدينية المذهبية عن هذه القضية، وينبذونها جانبا، ليس لأنّ ذلك يحجم فرص إنتعاشهم الحضوري في داخل المجتمع المسلم بسبب فقدانهم أحد مدعاة الصخب الاجتماعي فكريا وسياسيا الذي من شأنه توتير وتمكين حضورهم الطاغي، بل إضافة إلى ذلك لأنها مادة دسمة لمثل هذه المفارقة التي يجب أن يترفع عنها رجل الدين قبل غيره، وذلك حتى إذا كان عبد الله بن سبا حقيقة وليس وهما، لسبب بسيط، أن الشيعة الذين يتهمهم رجل دين معيّن بأنهم سبأية المنشأ يتبرأون علنا من عبد الله بن سبأ ويلعوننه في كتبهم قديما وحديثا، فيما ينفي الكثير منهم التهمة بل ويشككون في وجود عبد الله بن سبأ أصلا. ولكن العتب ينصب على مدعي المهارة والحنكة التأريخية من هذه القضية، ومن جيل المثقفين الذين آلوا على أنفسهم قراءة التاريخ قراءة علمية دقيقة، تنبش في داخل السطور، وتتدقق جيدا في المخفي والمستور، أي القراءة الحرفية كما يسميها الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه العقل السياسي العربي. فإن بعض هؤلاء تماشى مع النصوص كما هي ولم يكلف نفسه مهمة الغوص الدقيق في دهاليزها وشبكاتها المعقدة، فأمضاها كما هي أو تحلى بشي من الجرأة فأجرى عملية تهذيب على النصوص وليس تجريحا ينزف دمها كله كي يعزل فاسده من صحيحه، مسها مسّأ خفيفا، وليس يرجها رجّا قويا كي تتناثر حبات النص وتتجرد من طينها وشعرها، فيحصل على ما لا يحصل عليه المتوكلون على براءة النصوص وطهوريتها وصفائها.
من هؤلاء الكاتب المعروف محمّد عابد الجابري في كتابه (العقل السياسي العربي).
الجابري ينقد سيف بن عمر
يرى الجابري أن هناك نوعين من النصوص حول (عبد الله بن سبأ)، ما يرويه سيف بن عمر الذي ينقل عنه الطبري وغيره، النوع الأول تلك النصوص التي تؤكد أن (عبد الله بن سبأ) كان بطل التحريض على عثمان (ولا تتحدث عنه بشي بعد عثمان hellip;) 1، والنوع الثاني هي (نصوص عديدة متشابهة المضمون تتحدث عن ابن سبأ فقط بعد مقتل عثمان) 2. وبعدها ينتقل الدكتور بالقارئ إلى الحديث عن كلا النوعين من النصوص ليلدلي برأيه الشخصي.
يستعرض الجابري نصوص الطبري من دون الإشارة إلى سنيها التي هي سنة 30، 33، 35 للهجرة، ويعلق بالقول (هذه هي الرواية التي ينقلها الطبري عن سيف بن عمر ال متوفي سنة 180 للهجرة حول إبن سبأ المحرّض على الثورة على عثمان، وهي رواية تتخللها ثغرات تطن فيها، من ذلك: هذا الاخراج المسرحي، يهودي أسلم في السنة السابعة لخلافة عثمان، ثم يتجنّد في السنة نفسها للتحريض على عثمان، ويقوم بحملة في البصرة والكوفة والشام ومصر. ومنها أيضا ما تدعيه الرواية من تحريضه لأبي ذر، وكأن أبا ذر في حاجة إلى هذا المسلم الجديد كي يحرضه على الأغنياء، ومن ذلك أيضا: ما تدعيه الرواية أن عبد الله بن الصامت قال لمعاوية: هذا هو الذي حرّض أبا ذر عليك، مع أن المعروف هو أن عبادة بن الصامت نفسه كان يعارض سلوك معاوية... ومعروف أن معاوية نفى أبا ذر هو الأخر إلى المدينة وتركه يرحل إلى مصر، ويصبح الزعيم الذي يحرّضه ويوجّه ويبث الدعاة، ويرسل الكتب إلى الامصار، ثم يأتي إلى المدينة مع الثوار، ليخلتفي نهائيا، ولا تعود روايات سيف بن عمر إلى ذكره) 3
هذه هي مؤاخذات الجابري على نص أو رواية سيف بن عمر، ولكن رغم كل ذلك يرفض الجابري التشكيك بوجود عبد لله بن سبأ، وبل هو شخصية حقيقية ولكن مضخّمة الدور، وكي يدخل في إلى صلب إدلته لتبرير هذا التصور يمهّد بالقول (... من الممكن أن يقال: أن هناك محاولة للتخفيف عن مسؤولية الضمير المسلم تجاه جريمة قتل عثمان، إذ بعد هذه المحاولة المرفوضة أخلاقيا، سوف لا يبقى أثر لسيرة السلف الصالح، ومن هنا كان لابد من إختراع عبد الله بن سبأ، وتحميله عبء الجريمة النكراء...) 4.ولكن يرفض هذا الا حتمال الذي يطرحه ويقول (ومع ذلك يظل هذا الاستنتاج مجرّد استنتاج بل مجرّد افتراض، ذلك إ ذا استحضرنا الذي قام به في العصر نفسه كل من كعب الا حبار وهو يهودي من اليمن، كذلك وهب بن منبه، وهو يمني أيضا من أصل فارسي في نشر الإ سرائيليات في أواسط الصحابة والعامّة... فإننا لن نستغرب إن يكون هناك شخصية ثالثة من مسملة اليهود، تقوم في ميدان السياسة بسوء نيّة، أو حسن نيّة، بمثل ما قام به نبه وكعب الاحبار، في مجال التفسير والحديث وقصص الانبياء... وإذا أضفنا إلى ذلك الحاجة إلى مثل هذه الافكار لتعبئة مخيال العامّة ـ من الغوغاء وأصحاب المياه والعبيد والأعراب ــ وجود هذا الشخص حقيقيا ، وقيامه بدور المحرّض الايدولوجي لصنف من الناس) 5.
بكل وضوح أن الجابري هنا اعتمد المنطق المجرّد أكثر من النصوص، فهو لا يستبعد (إمكانية) وجود عبد ا لله بن سبأ ودروه ما دامت مرحلته التاريخية شهدت نماذج (مثله) في ميدان التفسير والحديث، أي مثل كعب الاحبار ووهب بن منبه!
إن العمدة في الاستنتاج التاريخي هو النص، وليس الإمكان وعدمه، والقضية التي تواجهنا في هذا الخصوص أن رواية سيف بن عمر لا تصمد للنقد والفحص، سواء على صعيد السند أو المتن، وتخالف حقائق تاريخية معروفة، هذه هي المسألة، فيما تستند محاولة الجابري إلى قياس... علما إن مثل هذه المقارنة بين عبد الله بن سبأ ووكل من كعب ومنبه غير علمية، إذ ليس هناك شك أصلا بوجود هاتين الشخصيتين، خاصّة وإنهنا من رجال الرواية المعتمدين في الصحاح السنية وفي السنن وا لمسانيد، وهناك عشرات النصوص التاريخية في خصوصهما في نواحي عديدة شغلت الفكر الاسلامي وساهمت في تشكيل الزمن الإسلامي، أما عبد الله بن سبأ فهو شخصية محل نظر من حيث الوجود والدور معا، بسبب فقر وتناقض وفوضى النصوص التاريخية.
لم يكلف الجابري نفسه دراسة سند الرواية، ومن الغريب إنه إلتفت إلى ما في المتن من هنات ومفارقات في حين أهمل السند تماما، وفي الحقيقة ما ذكره الجابري من ملاحظات حول المتن ليس جديدا، بل سبقه إليه باحثون، وهي قليلة نسبة إلى ما أثاره هؤلاء الباحثون، على أن ما يلفت النظر حقا قوله بـ (إمكانية) وجود عبد الله بن سبأ معللا ً ذلك بالحاجة إلى من يعبئ مخيال العامة في تلك الفترة!
هكذا يسيطر المنهج الغائي على فكر الجابري ومحاولاته في مجال التاريخ، ولكن الظروف التاريخية والاجتماعية كثيرا ما تتطلب بطلا أو فارسا، ولكن للاسف الشديد لم يظهر مثل هذا البطل المأمول أو الفارس المنشود.
يقول الجابري (... سهل علينا أ ن نقبل... إمكانية وجود مثل هذا الشخص وجودا حقيقيا) ولا أدري ما قيمة هذه الإمكانية من وجهة التاريخ إذا كانت ا لنصوص التاريخية لا تسعف ولا تؤيد؟!
كيف يقرأ الجابري النص التاريخي؟
ينتقل الجابري إلى نصوص أهل السير والفرق فيقول (ربما أقدم نص يتحدّث عن ابن سبأ هو ذلك النص الذي ورد في طبقات إبن سعد المتوفي سنة 220 للهجرة، فهو يذكر أنه قيل للحسن بن علي: إن أناسا من شيعة أبي الحسن يزعمون أن عليا يرجع قبل القيامة، فقال: كذبوا، ليس أولئك شيعته، أولئك أعداؤه) 6.
ونحن إذا رجعنا الى النص في كتاب طبقات ابن سعد سوف لن نجد إي إشارة إلى عبد الله بن سبأ وسوف لن نعثر على كلمة أو مصطلح (السبئية)، بل إن طبقات إبن سعد خلو منها بكل أجزائه!
ولهذا يعتقد البعض أ ن من أ سباب الوهن في رواية سيف بن عمر ومن أسباب الشك في مضامين كتب الفرق حول ابن سبأ والسبائية هو عدم ذكرهما في كتاب طبقاب إبن سعد، وذلك على الرغم من أن إبن سعد مؤرخ موسوعي ، يهتم بأبسط الحوادث، بل يتطرق إلى أدق المظاهر من حياة الاشخاص، وكان ذا صلة وثيقة بالرواة والأخباريين و الأدباء والنحاة، فكيف والحال هذه يهمل موضوع إبن سبأ، ولا يشير إ لى السبائية، ومن جملة من نوّه على هذه الحقيقة الدكتور طه حسين والدكتور الهلابي وغيرهما.
الآن نأتي لنسجل بعض الملاحظات على الرواية التي استند إليها الجابري لنرى مدى وثوقيتها، وإمكانية الإعتماد عليها كما فعل الدكتور.
الرواية موجودة في الطبقات 3 / 39، ولكن ممّا يضعفها ولا يشجع على الاخذ بها وا لاعتماد عليها ما يلي:
1: الرواية نفسها نسبت تارة إلى الحسن كما هو موجود في الطبقات، وأخرى الى الحسين، فقد جاء في البداية و النهاية (... حدّثنا زهير بن معاوية، عن أبن اسحق، عن عمرو إبن الاصم، قال: قلت للحسين بن علي إن هذه الشيعة يزعمون أن عليا مبعوث قبل يوم القيامة، فقال: كذبوا والله ما هؤلاء بشيعة، ولو علمنا أنه مبعوث ما زوجنا نساءه، ولا قسمنا ماله...) 7، وقد ذكر صاحب البداية والنهاية أن ذلك مروي عن الحسن أيضا 8، ومن الصعب القول بتكرر الرواية.
2: إن الرواية التي يستشهد بها الجابري توجد إلى جانبها رواية أخرى، عن (... أبي اسحق، عن عمرو بن الأصم قال: دخلت على الحسين بن علي وهو في دار عمرو بن حريث، فقلت له: إن أناسا يزعمون أن عليا يرجع قبل يوم القيامة، فضحك، وقال: سبحان الله لو علمنا ذلك ما زوّجنا نساءه، ولا ساهمنا ميراثه) 9، والجابري لم يورد هذه الرواية وهو الحريص على إيراد كل ما من شأنه دعم رأيه... لماذا؟!
إن الروايتين لا تتطابقان في كثير من الملامح المهمة التي تتصل بمجرى الرواية وصدورها، وذلك رغم أن الراوي واحد، وهو عمرو بن الأصم، فقد وردت في الطبقات هكذا (أخبرنا أبو معاوية الضرير، عن حجاج، عن أبي اسحق، عن عمرو بن الأصم، قال: قلت للحسن بن علي أن...) ففي الرواية التي أ ختارها الجابري كا ن عمرو بن الأصم مجرّد ناقل كلام للحسن، فيما في صيغتها الثانية كان عمرو بن الأصم يحادث الحسن في الموضوع، وكان في بيته، وكان معهما عمرو بن حريث.
3: ولم يكلف الجابري نفسه قراءة مصدر الرواية، فإن مصدرها هو (عمرو الأصم) وهذا الرجل لم ترد له ترجمة في كتب الرجال السنية، أما عند الشيعة فيذكر بلا توثيق كما في معجم الخوئي جزء 13 رقم 8852.
بعد كل هذا نسأل: هل يمكن الإطمئنان إلى هذا الخبر لنؤسس نظرية أو رأي أ و موقف تاريخي معتد به؟ وبالذت عن عبد الله بن سبأ والسبئية؟ فهو خال من أي ذكر لعبد الله بن سبأ والسبئية، كما أنه محاط بكثير من القرائن والعلامات التي تضعف من إمكانية الإعتماد عليه، خاصة حال مصدره الاول الذي هو (عمرو الأصم)! ولا بد من الإشارة إلى أن الجابري ذكر أن وفاة إبن سعد كانت سنة 220 للهجرة، فيما المشهور سنة 230 في مدينة بغداد، كما أن بعضهم أرخها سنة 236، ومن الأقوال الضعيفة أنه توفى سنة 228، أو سنة 229 كما في مقدمة الطبقات ص 8.
والجابري بهذا يريد الإيهام بقدم المصدر لغاية معروفة.
يواصل الجابري حديثه بعد أن يودع أبن سعد ليقول (ثم يأتي بعد ذلك نص في كلمات إبن حبيب المتوفي سنة 245 للهجرة يقول (عبد الله بن سبأ صاحب السبأية) وذلك ضمن لا ئحة أبناء الحبشيات، وكان صاحبنا يدعى (أبن السوداء)) وليس أدل على ضعف هذا النص من كونه خاليا من التفا صيل، كما أن صاحبه لم يتلكم عن مصدره، وربما الرجل نسب السبئية إلى عبد الله بن سبأ متأ ثرا با لقاعدة اللغوية، ولا يمكن الإطمئنان إلى أي معلومة تاريخية أو مذهبية تُكتَب في القرن الثالث دون الإحالة إلى مصدر.
يواصل الكاتب بحثه ليقول (ثم يأتي الجاحظ المتوفي سنة 255 للهجرة لينقل إلينا في إطار ما جمعه من الاخبار حول العصا الرواية التالية) 11، ويورد هنا رواية للجاحظ، ورغم أن الجابري ينقد المتن في جمع الجاحظ بين أسمي عبد الله بن سبأ وأبن السوداء، حيث يرى الباحث أنهما أسمان لشخصين، وإن إبن السوداء ليس هو ابن سبا، وإنما صديقه، ينسى أو يتناسى فحص السند باعتباره متمما لنقد المتن، خاصة وإن رواية الجاحظ التي هي بالاخير عن الشعبي عن زحر بن قيس، تعد أهم مصدر لكتب الفرق والمقالات والادب في قصة إبن سبأ، فكان لا بد له أن يتفحص سندها الذي ثبت تهاويه وسقوطه في بحوث الكثير من علماء التاريخ ومنهم الدكتور الهلابي. ثم ينتقل للإستشهاد برواية البلاذري، وهي تعاني من ثغرات كثيرة، فإبن سبأ في الرواية هو (عبد الله بن وهب الهمداني) ولم يذكر أحد الاخباريين أو الرواة أو المؤرخين اسم عبد الله بن سبا بهذا الاسم، والرواية نفسها موجودة في كتاب (الأمامة والسياسة) ولكن مع ملاحظتين مهمتين، الأولى: إن (عبد الله بن وهب الهمداني) عند ابن قتيبة هو (عبد الله بن وهب الراسبي)، كما أن الرواية خالية تماما من أسم (عبد الله بن سبا) و(السبئية)، ولذلك أ حتمل بعضهم أن رواية البلاذري محرّفة أو متلاعب بها بشكل من الأشكال، والجابري أدرج الرواية دون أن يلاحق جذرها وصياغاتها الأخرى ، وما أسهل هذا العمل، على أننا ينبغي أ ن نعرف إن البلاذري (لم يذكر إبن السوداء ولا أصحابه السبئية في أمر عثمان، وهو كذلك لم يذكره في أمر علي إلاّ مرّة واحدة) 12، فيما الطبري يذكره في أمر عثمان ويختفي في أمر علي!
ثم ينتقل الجابري إلى نصوص أهل الفرق، ويبدأ بنص الناشي الاعظم المتوفي سنة 293 للهجرة الذي يعتمد في قسم كبير منه على ما رواه الجاحظ، ثم يدرج نص الأشعري القمي المتوفي سنة 310 للهجرة، بعد ذلك نص النوبختي المتوفي في حدود سنة 320 للهجرة.
الجابري يريد بحشد هذه النصوص على هذا الشكل المتسلسل إيهام القاريء بتواترها، في حين أكثرها غير مسند أو بسند ساقط من الاعتبار، كما نلاحظ بسهولة تصعيد المضمون من مصدر لآخر.
حول اسم أبن سبأ
يناقش الجابري في موضوع اسم أبن سبأ فيقول (أما عن الاسم الحقيقي لإبن سبأ فنحن نستبعد أن يكون اسمه هو عبد الله الراسبي الهمداني، كما ذكر القمي، لانه لو كان ذلك لأشتهر به، إذ ما المانع نم ذلك)13، ولكن ألا يشكل ذلك ضعفا في معلومات القمي، وقبله رواية البلاذري؟ إين موقع ذلك من القيمة الموضوعية لبقية المعلومات المدرجة في الأثناء؟
يلاحق حديثه ليقول (نحن نميل... إلى الافتراض التالي: وهو أن يكون ابن سبأ اليهودي اليمني قد تسمّى بعد إسلامه بـ (عبد الله بن سبأ)، ولُقِّب بـ (ابن سبا)، لكون الاسم الحقيقي كان إسما يهوديا) 14، وهكذا يدخل الكاتب بسلسلة من الافتراضات المتوالية، ولا أدري ما هي ألتي إعتمدها، وهل التاريخ سلسلة من الافتراضات من دون مرجح ومن دون دليل؟ ولكن السر ليس هنا... إن الجابري يلجأ إلى ذلك لأن إبن سبأ مجهول ا لأسم الحقيقي، فهو تارة عبد الله بن سبأ، وأخرى عبد الله بن وهب الهمداني، وثالثة عبد الله بن وهب الراسبي، ، ومع القمي بين اللقبين، وفي بعض الروايات يكتفي بتسميته بـ (إبن السوداء) وأحيانا ابن سبا فقط، سمّاه المقريزي عبد الله بن وهب بن سبأ ـ الخطط ص 182 ـ والجدير بالذكر أن ابن كثير وغيره اعتبروه رومانيا ـ البداية والنهاية 7 ص 173 ــ الأمر الذي لا يثير موضوع الأسم بل حتى الأصل.
وفي الحقيقة من الطبيعي أن تتملك الجابري الحيرة أمام هذا الكثرة من الأسماء، ولكن ليس من حقه أن يعالج هذه الثغرة بإفتراضات لا تسنند إلى أي منشأ على الاطلاق، لكن الجابري حاول أن يعالج المشكلة بطريق آخر، إن المسألة لاتحتاج إلى كل هذه الاهتمام، فقد كان أبو هريرة مجهول الاسم أيضا، ولم يكن ذلك مدعاة نفيه 15. يقول الجابري هذا وهو يعلم تماما أن هناك أمورا كثيرة ثابتة تاريخيا فيما يخص أ با هريرة، يمكنها بجدارة أن تعالج هذا النقص أو هذه المشكلة بتعبير أدق، فأبو هريرة من أكثر الرواة شهرة عن رسول الله عند أكبر طائفة من المسلمين، ودخل في مشاكل مع الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان أحد مبعوثيه إلى البحرين، وتولى خط معاوية بن أبي سفيان ضد علي، وصار والي المدينة من قبل مروان، ونعرف أسماء وحالات زوجاته وابنه وممتلكاته وسنة وفاته ومكان مدفنه، فيما الغموض يحيط بإبن سبأ من كل جهة، فإين هذه الحالة من تلك؟
الجابري ينقض نفسه
وفي الوقت الذي يعلن الجابري عن تحفظه على روا يات الطبري على لسان سيف بن عمر على صعيد ضخامة الدور الذي قام به عبد الله بن سبا، بإعتبار إن ذلك أعظم وأكبر من طاقته وقابلياته كفرد، دخل الاسلام متأخرا، نجده سرعان ما ينسى هذا التحفظ المعقول، حيث يوعز إليه ما تعجز عنه جماعات منظمة مزوّدة بكفاءات عالية مادية ومعنوية، إذ يخلص البا حث بعد جولته التي يشوبها الكثير من الثغرات المنهجية و المعلوماتية إلى أ ن عبد الله بن سبا هو الذي شيّد فكرة الوصيّة في زمن عثمان، متجسّدة في علي إبن أبي طالب، وكان المدبّر الكبير للثورة على عثمان، ثم حام حول علي بن أبي طالب فوضع البذرة الاولى للغلو فيه، وبعد مقتله على يد عبد الرحمن بن ملجم نشر فكرة الرجعة و الوصية اللتين صا رتا فيما بعد قاعدة لبناء ميثولوجي ضخم.
إذن لِمَ هذا التحفظ؟
نقطة أخرى جديرة بالإنتباه هنا، لقد إستكثر الجابري على ابن سبا أن يغرر بأبي ذر، أو أن يكون مصدر إيحاء له، ولكن الجابري نفسه لم يستكثر على إبن سبا ان يتلاعب بعقول آلاف المسلمين، ومنهم من هو أعمق إيمانا من أبي ذر بالذات، حيث قلب مذاهبهم ومناهجهم وأفكارهم وزجّهم في ترهاته الفكرية، في فترة زمنية قياسية، بحيث لا تُعد في حساب الزمن التاريخي شيئا...
وأخيرا... فإن مشروع الجابري نقدي في الأساس، ولكنه بسهولة ينساق مع نصوص أهل الفرق، ولا يكلف نفسه بنقدها، ولو على مستوى المقارنة بين المضامين، الأمر الذي يجعلني أحسبه نسخة طبق الاصل لكتّأب الفرق السابقين.
وسوف أتناول الكثيير من الموضوعات التي عالجها الجابري على صفحات إيلاف في حلقات مقبلة إن شاء الله تعالى.